يدشن الشاعر علال الحجام دخوله لمحراب ديوانه الأخير : "ما لم ينقشه الوشم على الشفق"-1- بقصيدة: "علو"، وهي عتبة يمكن اعتبارها "بورتريها" لذاته الشاعرة، يرسمها بخطوط الحروف المترجمة لنبضه، وبلسانه اللاهج بمكنونه عبر مراسلات وجدانية تنبثق كالدرر، وكأنها ينابيع متدفقة من عيون القمم الرقراقة، والديم السكوبة المبشرة بإقبال قطرات الغيث الحاضنة للقطوف الدانية:
"ليكن لسانك يا قلبي ترجمان نبضك
فكلما احلولت على الأسئلة الحروف
انبثقت دررها مؤتلقة
...فهي مثل المطر تماما أوله قطر
وآخره نهر تحف بهديره القطوف."-2-

يمكن اعتبار عنوان هذا الديوان بمثابة عتبة لولوج محراب البوح الشعري المندرج في إطار شعر التفاصيل الذي اعتبرته الحركة الشعرية الطليعية المعاصرة، ذا أهمية قصوى من أجل القبض على جوهر الكيان الإنساني اللاهث عبر الزمن المتسارع لفرض وجوده. ومن ثم انبرى الشاعر علال الحجام في ديوانه هذا إلى الاحتفاء بتفاصيل الأحداث اليومية العابرة في حياة الإنسان الممزق بين واجبات الوظيفة الرتيبة، والتقاط الحالات الشعورية التي تحفر مجاري عميقة في وجدان الذات المشروخة المتذبذبة التواقة إلى اقتناص اللحظات الوهاجة في خضم الزمن القاهر الكبير .
إنها وظيفة من وظائف الذات الشاعرة التي عانقت مظاهر تحديث النص الشعري المغربي عبر الانغماس الفعلي في الحياة العامة، واعتبارها قادرة على تفجير ينابيع القول الشعري عبر تلمسه في التفاصيل الدقيقة للحياة العادية العابرة المحسوبة برقصات عقارب الساعة عبر أربع و عشرين ساعة .
وبتوالي الأيام السبعة المكونة لوحدة الزمن الأسبوعية، والتي لم تعد قادرة على منح هذه الذات الوقت الكافي للتأمل الرصين في منحنيات تحول وتغير الحالات الشعورية للذات القانطة اليائسة المتبرمة المتسائلة المستشعرة لثقل الزمن الذي لا يرحم، والمصطلية بالعذاب الوجودي.

أجاب فيلسوف الشعراء الحداثيين الفرنسيين: "هنري ميشونيك" ذات مرة وهو محاصر بأسئلة النقاد عن ماهية الشعر، فقال قولته المشهورة : "الشعر جواب يتساءل".
ففتح بهذه القولة مصاريع الأبواب المشرعة على سجالات ومناقشات احتضنتها المجلات المتخصصة حول ماهية الشعر الحقيقي ورسالته. وهو ما أغنى الساحة النقدية بتأسيس أطر مرجعية لنظريات أطرت مسارب القول الشعري الحداثي الذي بدأ يتدفق في أخاديد عميقة الغور روت حتى الإشباع المتعطشين لتجديد النسغ الشعري الريان القادر على خلق الدهشة والجدة.
غير أن الشاعر علال الحجام وهو يصدر آخر أنظومته الشعرية، أبى إلا أن يسمها ب : "مسودات حلم لا يعرف المهادنة" -1- معتبرا أن الشعر مسودات وبيانات لا تحتمل التأويل باعتبارها معادلا موضوعيا للحلم الذي لا يقبل المهادنة والمساومة. وهذا لعمري ما يحيل المتلقي على اجترار الأسئلة المكرورة - التي كان لها ما يبررها في السبعينيات من القرن الماضي، والمتعلقة ب "لعبة الحلم والواقع" والمساحة التي احتلتها في العملية الإبداعية عموما، شعرا ومسرحا ورواية وقصة كان هدفها خلق الإيهام المتوخى من وظيفة الكتابة .
من هذا المنطلق، يمكن القول إذن ان النصوص الشعرية التي يقترحها علال الحجام على متلقيه هي عبارة عن مسودات أملاها عليه حلمه الذي يخاله قادرا على إسعافه على تجاوز: الآني/الظرفي، والوضعي/الواقعي الذي يسبب له قلقا وجوديا مرتبطا بوضعه الإنساني/الوظيفي، ومن ثم يتوسل إلى هذا الحلم من أجل مساعدته على تحرير الذات المغلولة ، و الانطلاق نحو معانقة المدهش البهي من القول الشعري الشهي وتسويده بالحبر السري الخفي.

 إذا كانت مدينة آسفي قد تناولتها أمهات المصادر التاريخية من كتب التاريخ، الرحلات، التصوف، الدين، الاقتصاد، الجغرافيا... وورد اسمها في كتب من تأليف كتاب سمعوا عنها، مروا بها أو أقاموا فيها، فإننا اليوم نفتح نافذة على أرض عذراء، في بحث لم يطأه باحث من قبل، وموضوع غير مسبوق، من خلال المساءلة عن علاقة هذه المدينة بالبحر في ما كتبه روائيو آسفي عن مدينتهم، وفي النفس صور لمدن عشقناها من خلال الروايات والأفلام، لنتساءل كيف صور ابناء المدينة تلك العلاقة، وهو ما ستتناقله الأجيال القادمة إن كتب لهذه الروايات الخلود، مثلما نتناقل نحن ما كتبه ابن خلدون، ابن الخطيب، ليون الإفريقي، البكري، الإدريسي، ياقوت الحموي، ابن الزيات، ابن قنفذ، الحميري، والناصري وغيرهم ممن أرخوا لهذه المدينة، خاصة وأن الرواية أضحت ديوان العرب المعاصر الناقل لأيامهم، أخبارهم وأحوالهم... مبتعدين أشد ما يكون البعد عن اجترار ما قالته المصادر القديمة، ودون إغراق في التنظير والتعريفات المتداولة عن البحر والمدينة والعلاقة بينهما، لتكون الدراسة ميدانيةً تغوص في الروايات التي تناولت آسفي إما في إشارات عابرة، أو جعلت المدينة مسرحا لأحداثها، ولن يهمُّنا منها في هذه الدراسة إلا النصوص التي رصد فيها مخيال أصحابها تفاعل المدينة بالبحر، منذ أول رواية آسفية؛ رواية "الهاربة" لمحمد سعيد الرجراجي[1] إلى اليوم، مقتصرين على عدد من الروايات - لأبناء المدينة منشأ أو مسكنا- تداخلت فيها صور متناقضة لعلاقة آسفي بالبحر. وكل نسج سردي يمتزج فيه التاريخي بالأسطوري، والواقعي بالخيالي، والقديم بالحديث، الحقيقي بالمزيف، الموضوعي بالذاتي الانطباعي... ولا كتابة بيضاء بريئة، وكل كتابة تورط جديد، سواء عادت بالقارئ إلى عوالم غابرة في التاريخ أو صورت الآني اللحظي...

حينما تلتقي خبرة الباحث بدُربة الإعلامي وروح المبدع العاشق للثقافة المغربية في بُعدها المتجذر، تمنح القارئ نصوصا جديدة في لغتها وموضوعها، وهو ما تجود به كتابات د/ عمر أمرير الذي راكم تجربة من البحث الأكاديمي والإعلامي والثقافي.

بعد كتابه" العصاميون السوسيون في الدار البيضاء"، والذي اختار التنقيب في سير عشرات الأسماء السوسية التي  انتقلت إلى الدار البيضاء وأصبحت ، بعد رحلة عصامية، من أقطاب الاقتصاد المغربي، حوّلها عمر أمرير إلى حكايات توثق الذاكرة التي لا يلتفت إليها المؤرخون، غير أنه في كتابه "قيمة الثقة عند المغاربة من خلال ذاكرة الحاج الحسن أمزيل"(مطبعة سومكرام- الدار البيضاء  الطبعة الأولى 2021- 348 صفحة من الحجم الكبير) يتقدّمُ خطوة أخرى في كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي انطلاقا من ذاكرة في واحدة من القيم العليا التي انبنت عليها الإنسانية وهي الثقة وروافدها المتصلة بالصدق والأمل والطموح.

قص علينا الناقد جابر عصفور في إحدى مقالاته عن صديق عمره الشاعر أمل دنقل(1940/1983) اللحظات الأخيرة في حياته بالمستشفى وفي الحجرة عينها التي حملت عنوانا لآخر ديوان شعري يفيض بالمرارة والألم والأسى "أوراق الغرفة 8" عام 1983 ،لحظات أخيرة عاشها جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي وزوجته عبلة الرويني ، حيث حرص دنقل على وصية غريبة لكنها مألوفة بالنسبة لدنقل ولصديقيه ،لقد أوصاهما بدفنه في قبر أبيه في قريته في الجنوب ودفع لهما ثمن التذاكر بالطائرة لمرافقة جثمانه حتى إذا رفضا أخذ المبلغ أصر على عدم حضورهما ومادام الصديقان لا يستطيعان رفض طلب دنقل فقد قبلا على مضض فهما يعرفان العناد والإصرار عند دنقل، الشاعر، الساخط ، الثائر، غير المتصالح الذي جعل من الرصيف منبرا سياسيا عربيا اهتز لكلماته ولإيقاعاته الشعرية الساخطة التي أرادت غضبا عربيا يهزم الخوف فينا والاستكانة ويجتث كل الطفيليات التي تهين بقية الألوهة في الإنسان وهو يعرج في كفاحه وصراعه ضد الإقطاع والاستعمار والرجعية والتخلف إلى أعلى درجات الإنسانية حيث تفيض حدبا على الإنسان ، هذا الكائن المكرم الذي دمرت قوى الشر إنسانيته وجعلته رهين متطلبات الحياة البسيطة والتي هي ذاتها متطلبات الحيوان.

من الروائيين من يقضي العمر كتابةً، من دون أن يقع على "مشروع العمر". ومنهم من يقع على مشروعه بعد أن يكون قد قطع مسافة أطول فأطول على طريق الكتابة. أما المبكرون فهم أقل فأقل، وأحسب أن شعيب حليفي واحد من هؤلاء. فقد تلامح مشروعه منذ روايته الأولى "مساء الشوق" (1992) وهو في الثامنة والعشرين، وذلك على مستوى بناء الشخصية بخاصة، واللعبة الفنية بعامة، وهو المستوى الذي لن يفتأ يغتني وينضج من رواية إلى رواية، وصولاً إلى "لا تنس ما تقول" (نادي القلم). أما إسفار المشروع فقد جاء منذ رواية حليفي الثانية "زمن الشاوية" (1994). وها هو في "لا تنس ما تقول" يتبدى مُدِلاً بعلاماته الكبرى، وأولها الحفر في التاريخ الأمازيغي في المغرب، واستعادة الضائع والشفوي والمخفي من هذا التاريخ، مصححاً عوج التاريخ الرسمي، ومكملاً لنقصانه. وإذا بالرواية - ضمن منظومة روايات الكاتب – صياغة بديعة، وخاصة للهوية السردية الأمازيغية في المغرب.

إن التشكيل وإعادة الصياغة للرؤيا الشعرية الثاقبة لا يزال لغزا لم تستطع فك طلاسمه لا نظريات النقد الكلاسيكي، ولا نظريات الشعرية الحديثة بمختلف مدارسها واتجاهاتها منذ أن لسعت عقرب الإبداع أحفاد آدم وحواء إلى ما ستتمخض عنه أوجاع الحاملات للجينات من المضغ والعلقات فيما سيأتي من الأزمنة .
إن تشكيل الرؤى الشعرية الحالمة بتحقيق التوازن المفقود في عصر متسارع الخطى، وإعادة صياغتها صياغة فنية قادرة على خلق الدهشة المبتغاة لا بد أن ينبثق من بؤرة الذات الشاعرة. غير أن هذه الذات بدروها محكومة بظروف قد لا تسعفها دائما في القبض على الجوهر المنشود. ومن ثم لا مناص من الاعتراف مسبقا بأن الغوص فيما يؤرق هذه الذات، يمكن اعتباره منطلق الشرارة الأولى لكي يستوي البوح الشعري على الصورة الأبهى والأصفى من كل أدران الواقع المحيطة بها.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة