قص علينا الناقد جابر عصفور في إحدى مقالاته عن صديق عمره الشاعر أمل دنقل(1940/1983) اللحظات الأخيرة في حياته بالمستشفى وفي الحجرة عينها التي حملت عنوانا لآخر ديوان شعري يفيض بالمرارة والألم والأسى "أوراق الغرفة 8" عام 1983 ،لحظات أخيرة عاشها جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي وزوجته عبلة الرويني ، حيث حرص دنقل على وصية غريبة لكنها مألوفة بالنسبة لدنقل ولصديقيه ،لقد أوصاهما بدفنه في قبر أبيه في قريته في الجنوب ودفع لهما ثمن التذاكر بالطائرة لمرافقة جثمانه حتى إذا رفضا أخذ المبلغ أصر على عدم حضورهما ومادام الصديقان لا يستطيعان رفض طلب دنقل فقد قبلا على مضض فهما يعرفان العناد والإصرار عند دنقل، الشاعر، الساخط ، الثائر، غير المتصالح الذي جعل من الرصيف منبرا سياسيا عربيا اهتز لكلماته ولإيقاعاته الشعرية الساخطة التي أرادت غضبا عربيا يهزم الخوف فينا والاستكانة ويجتث كل الطفيليات التي تهين بقية الألوهة في الإنسان وهو يعرج في كفاحه وصراعه ضد الإقطاع والاستعمار والرجعية والتخلف إلى أعلى درجات الإنسانية حيث تفيض حدبا على الإنسان ، هذا الكائن المكرم الذي دمرت قوى الشر إنسانيته وجعلته رهين متطلبات الحياة البسيطة والتي هي ذاتها متطلبات الحيوان.

من الروائيين من يقضي العمر كتابةً، من دون أن يقع على "مشروع العمر". ومنهم من يقع على مشروعه بعد أن يكون قد قطع مسافة أطول فأطول على طريق الكتابة. أما المبكرون فهم أقل فأقل، وأحسب أن شعيب حليفي واحد من هؤلاء. فقد تلامح مشروعه منذ روايته الأولى "مساء الشوق" (1992) وهو في الثامنة والعشرين، وذلك على مستوى بناء الشخصية بخاصة، واللعبة الفنية بعامة، وهو المستوى الذي لن يفتأ يغتني وينضج من رواية إلى رواية، وصولاً إلى "لا تنس ما تقول" (نادي القلم). أما إسفار المشروع فقد جاء منذ رواية حليفي الثانية "زمن الشاوية" (1994). وها هو في "لا تنس ما تقول" يتبدى مُدِلاً بعلاماته الكبرى، وأولها الحفر في التاريخ الأمازيغي في المغرب، واستعادة الضائع والشفوي والمخفي من هذا التاريخ، مصححاً عوج التاريخ الرسمي، ومكملاً لنقصانه. وإذا بالرواية - ضمن منظومة روايات الكاتب – صياغة بديعة، وخاصة للهوية السردية الأمازيغية في المغرب.

إن التشكيل وإعادة الصياغة للرؤيا الشعرية الثاقبة لا يزال لغزا لم تستطع فك طلاسمه لا نظريات النقد الكلاسيكي، ولا نظريات الشعرية الحديثة بمختلف مدارسها واتجاهاتها منذ أن لسعت عقرب الإبداع أحفاد آدم وحواء إلى ما ستتمخض عنه أوجاع الحاملات للجينات من المضغ والعلقات فيما سيأتي من الأزمنة .
إن تشكيل الرؤى الشعرية الحالمة بتحقيق التوازن المفقود في عصر متسارع الخطى، وإعادة صياغتها صياغة فنية قادرة على خلق الدهشة المبتغاة لا بد أن ينبثق من بؤرة الذات الشاعرة. غير أن هذه الذات بدروها محكومة بظروف قد لا تسعفها دائما في القبض على الجوهر المنشود. ومن ثم لا مناص من الاعتراف مسبقا بأن الغوص فيما يؤرق هذه الذات، يمكن اعتباره منطلق الشرارة الأولى لكي يستوي البوح الشعري على الصورة الأبهى والأصفى من كل أدران الواقع المحيطة بها.

تبدو التجربة الشعرية لمليكة العاصمي في هذا الديوان -١- محاولة لتحقيق حرية الذات المعتقلة لردح من الزمن في سجن الرجل، وتصميما على نزع رداء الظلم والاضطهاد والاستغلال الذي عانت منه المرأة المغربية طوال عقود كانت فيها ترسف في أغلال مجتمع أبيسي "بطرياركي" محافظ ، لم يكن ينظر إليها إلا كجسد، وظيفته إشباع رغبات الرجل/السيد، وذات تابعة لرغائبه ونزواته، وعورته التي يجب أن تظل مستورة.
تقول في كلمة تقديمها للجزء الأول من أعمالها الشعرية :
"علينا أن نستحضر مجتمع أواسط الستينيات، ونتخيل صوتا ينبعث ممزقا الغلاف الاجتماعي، والطوق المضروب على المرأة، على حضورها وصوتها ومشاعرها وأفكارها ومواقفها، إذ المرأة سر من أسرار المجتمع وخصوصيته، وهي موضوع خطاياه وأخطائه وانحرافاته وجرائمه، عورته التي يعمل على سترها، ووضع الحجب والمغاليق والرقابة عليها، على صورتها وعلى ما تفعله أو تقوله أو تحسه أو تفكر به، وما يدور في خلدها، فيحرص على إخفائها وتسييجها ومنعها من الاتصال كي لا تتكلم أو تعبر أو تكشف المستورات" -٢-

ارتبك المؤرخون وكان عليهم الانتظار طويلا لوصف ما جرى في صيف 1894، لكن امرأة اسمها حادة الزيدية/خربوشة في ربيعها الثاني والعشرين، كلُّ زادُها من الثقافة، محفوظ الذاكرة الشفوي مما حفظته بالمسيد، وذخيرة من الأذكار المتداخلة مع أمثال العامة والحكايات والجروح و نهر من خيال لا محدود. لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولم تقرأ  أو تسمع أو تحفظ أشعار العرب وأيامهم في الجاهلية، ولا علم لها  من يكون المتنبي أو المعري أو شعراء بغداد ودمشق والقاهرة ومراكش وفاس، وتجهل من يكون ابن خلدون أو أبو القاسم الزياني أو محمد أكنسوس أو أحمد بن خالد الناصري، ولا تعرف من أسماء العلماء والفقهاء إلا فقيه الدوار المغمور وأسماء أولياء عبدة ودكالة والشاوية. بل تجهل جهلا تامّا من تكون السيدة الحرة أو  زينب النفزاوية أو خناتة بنت بكّار. إنها، فقط،  امرأة من عالم البادية السفلي، معزولة عن العواصم والصالونات وعوالم المعارف العليا والخاصة التي تحفل بها المقررات وأحاديث النخبة.

شاءت الأقدار أن تفل شمس نوال السعداوي  الكاتبة والناشطة المهتمة بشؤون المرأة العربية مع إشراقة شمس ربيع 2021 بعد 90 سنة من العطاء أسست خلالها عدة جمعيات للدفاع عن قضايا المرأة منها (جمعية تضامن المرأة العربية والمؤسسة العربية لحقوق الإنسان). لتترجل عن صهوة النضال مثقلة بالجوائز والدرجات الفخرية  أهمها ( جائزة الشمال والجنوب  من مجلس أوربا وجائزة إينانا الدولية من بلجيكا وجائزة شون مأكبرايد للسلام من المكتب الدولي للسلام بسويسرا..... )
والأكيد  أن  ما سيبقى خالدا هو ما فاض من أناملها وفكرها والذي جمعته في أزيد من أربعين مؤلفا  ومئات الدراسات والمقالات والحوارات  ستبقى مراجع لكل من يقترب من موضوع المرأة، وضمن هذا الكم الهائل تتلألأ إحدى عشرة نجمة (رواية)  لا تبتعد كثيرا عن القضية التي ظلت تشغل نوال طيلة حياتها وهذه الروايات هي:

من جميلِ مَا تنْعمُ بِهِ النّفْسُ البشرِيّةُ؛ آلَةُ الْبَيَانْ، فَإِن أَحْسَنَتْهُ والتَوْظِيفَ الجيد أتقنتهُ، عَاشَتِ الاِسْتِقْرَارَ العاطفي بجُلّ تَلْوِينَاتِهِ، وَإِنْ ضيّعتهُ وَعَنِ الوَعْيِ غَيّبَتْهُ لامَسَتِ النّكدَ وَأَيُّ نَكَدٍ هُو!!، وَلَمّا كَانَ الأمر كَذلكَ آثَرْتُ أَنْ أَتّكِئَ على قلمِي لاَفِتًا النّظر ومُوَجّهًا سهام الفكر لا راغبًا فِي النّقْدِ، إِلَى دِيوَانٍ النفس تشتاقُ لاسْتِنْطَاقِهْ والنّهْل مِنْ غزيرِ فنّهْ والعيش بين تلاَوين صيغهْ، فَهُوَ المَرْجِعُ الرَاجِحُ وَالمِقْيَاسُ الْوَاضِحُ، الزَّاخِرُ بِكُلّ مُقَوّمَاتِ الحَقّ التّي مرّتْ بِنَا في سنَةٍ هِي؛ الأثقلُ وَلاَ شَكْ.
إن دأبَ الكاتب؛ "محمد أيت علو" في تأَلِيفه الجمة وتصانيفه الفذة ، التي حُفت بوفير عناية وجميل رعاية، دائرة في درب إرسال النفس على سجيتها طارقة كل الأبواب التي من شأنها أن تقارب هموم الإنسان شعرا ونثرا، ويعد ديوان؛ "أَنْفَاسٌ تَحْتَ الْكِمَامَةِ" من الأعمال الأدبية التي تفجرت من نبع واحد همه الإنسانية جمعاء، والتي عانت الغموض جراء وباء كان أثره أقسى على النفس، ذاقت البشرية من ورائه مرارة الفقدان بلا سابق إنذار، وتأتي مقاربتنا هذه لتطرق عتبة من عتباته محاولة نفض الغبار عن إيحاءاته وتعالقاته ودِلالاته المفترضة والمختزلة في الذاكرةِ الأدبيةِ.

" كأن لا أحد ...!" ، عنوان مدوّ صاخب ، يأخذك في عالم الخيال، التناقض، الحلم والواقع المرغوب وغير المرغوب، ضجيج داخلي يوهم صاحبه بشيء ما هناك ... أو أحد ما بقربه...والواقع يقول لا ... لا أحد .
كالبحر...تنظر إليه، تراه واسعا كبيرا؛ وكلّما تعمّقت فيه، وجدته أكبر وأوسع ... حكاياته أكثر من رمال شواطئه، ومع ذلك لا أحد فيه يحسّ بوجودك ... وحدك وصراخ الذكريات، وصمت قاتل وسكون وسط الزحام، فأيّ بحر غاص فيه كاتبنا ؟، وأيّة حكايات لفظتها سطوره ؟، ومن هو هذا "الأحد" الذي نام بين الفواصل والنقاط؟، ولم يخرج إلى السطح لنراه؟، بقي هناك يجول في عالم بلا حدود، حرفاً أثقل كاهله تمرد المعنى وبدايات ضاعت فيها كل النهايات....