مشكلة التجنيس:
 يطرح تجنيس النصوص إشكالا حقيقيا يرتفع إلى مستوى "المعضلة"، وقد عبر غير واحد من الدارسين عن هذه المشكلة التي تواجه المشتغلين بالأدب عامة وبنظريته خاصة، من هؤلاء جيرار جونيت الذي عرض لهذا الإشكال في كتابه "مدخل لجامع النص"، حيث انتهى من تقليب النظر في هذه المسألة إلى أنه بالرغم من الاجتهادات العديدة المطروحة داخل نظرية الأجناس، فإنه لا يوجد من بين هذه "الاجتهادات" موقف، في ترتيب الأنواع، "أكثر طبيعية" أو "مثالية" من غيره، ذلك صريح قوله:

"نرى أنه لا يوجد بشأن ترتيب الأنواع الأدبية موقف يكون في جوهره أكثر "طبيعية" أو أكثر "مثالية" من غيره، ولن يتوافر هذا الموقف إلا إذا أهملنا المعايير الأدبية نفسها كما كان يفعل القدماء ضمنيا بشأن الموقف الصيغي. لا يوجد مستوى "جنسي" يمكن اعتماده كأعلى "نظريا" من غيره، أو يمكن الوصول إليه بطريقة "استنباطية" أعلى من غيرها، فجميع الأنواع أو الأجناس الصغرى والأجناس الكبرى لا تعدو أن تكون طبقات تجريبية، وضعت بناء على معاينة المعطى التاريخي، وفي أقصى الحالات عن طريق التقدير الاستقرائي انطلاقا من المعطى نفسه؛ أي عن طريق حركة استنباطية قائمة هي نفسها على حركة أولية استقرائية وتحليلية أيضا. ولقد رأينا بوضوح هذه الحركة في الجداول (الحقيقية أو القابلة للوجود) التي وضعها أرسطو وفراي، حيث ساعد وجود خانة فارغة (السرد الهزلي، السرد العقلاني، المنفتح) على اكتشاف جنس كان بالإمكان ألا يدرك مثل المحاكاة الساخرة"[1].

يمكن الدفاع عن المسلمة التي تُفيد بأنّ الشّعر الشعبي و الشعر الفصيح بالجزائر، في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن عشر ين، شعر متمرد في مجمله، يرتفع إلى مستوى الشّعر الملتزم بقضايا الشعب، يدعو إلى المقاومة، وسيلة مثلى ضد المعتدي الغاصب، و الذي طوال تواجده لم ينفك من العمل بمقتضى المبدإ المشهور :"فرّق تسد" . تنخرط تجربة الشيخ الشاعر محمد بن يعقوب الفنية في هذا السياق؛ و لكن من دون إغفال أنّ الشاعر مادح للجمال بجانبيه، الحسيّ أيام الصبا و التسلي، و المنزه زمن الأفول و التواري، و بحسب إفادة حفيد الشاعر، السيّد عبد الحميد بن يعقوب، قد خلّف الكثير من الأبيات الشعريّة التي استحالت مع مرور الوقت إلى حِكًم شعبيّة تلتقطها الأذان التقاطا، و تتناقلها الألسن تباعا. سنحاول من خلال هذا العمل قراءة و تحليل إحدى قصائد الشاعر و المتمثلة في ملحمة مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، التي يربو عدد أبياتها عن الأربعة مئة بيت ، تحليل يرتكز على مقولتي الحركة و الزمن، بحسب تصور الفيلسوف أرسطو ؛ و بالتالي سيلاحظ القارئ الكريم أننا قد حدنا من الناحية المنهجية على الكيفية المعتمدة عادة في الكتابات الفلسفية، و ربما قد يصل الابتعاد فيمس جانب المضمون..

توطئة : أعتقد اعتقادا جازما، أنّ المجال الحيوي لفعل التفلسف لا يقف عند أعتاب حدود ما ألفه النّاس و تعارف عليه المهتمين بالقضايا الفكرية، فالفلسفة باعتبارها حركة تفكر تقصد قصدا حثيثا، أبعد نقطة تتحملها قدرات الإنسان العقلية – و ما أعظمها - مراعية في ذلك مقتضيات الواقع الاجتماعي، دون إثارة فارغة، و لا ضوضاء صاخبة. و هذه الحركة التي يراهن عليها أن تكون معقولة، تتجلى بين الفينة و الأخرى، في نسج قشيب صادر غن خيال روائي أو أديب، أو في فصول مسرحية تأخذ بالألباب، أو في فيلم سينمائي يعرض مشاهد تقطع الأنفاس من روعتها و دقتها، حتى لا يكاد القائل يقول هذا هو الواقع بعينه. و حتى يكون لما نبسطه و ننشر قوة تلزم القارئ الاقتناع لما نذهب إليه و نريده نُمثل بمشهد سينمائي، يبدو لي تعليميا يطلعنا عن كثب، فنعاين هذا التداخل بين السينمائي و الأدبي و الفلسفي. المشهد من فيلم، عنوانه " الرجل الذي قتلته"[1] نرى نحن مشهدا لاستعراض عسكري، بعين رجل بترت رجلاه، يراه هو من خلال شخص مبتور الرجل، تحديدا من خلال مكان الرِجْل المبتورة. المشاهد الحذق الذي أصابته شظايا حركة التفكر، سيرى فيُدرك الجواهر الحسان.  

ما الأدب ؟ ما العلاقة التي تربط بين الأدب والبلاغة ؟ وهل كل ما يكتب يندرج ضمن يافطة الأدب ؟ أسئلة وغيرها طرحها ، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي ، الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر في كتابه الشهير" ما الأدب ؟ "
يغدو التمييز ، حسب سارتر ، بين الأدب وغير الأدب أمرا في غاية الصعوبة ، فبالرغم من الأبحاث التي وازت الدراسات النقدية الغربية ، منتصف القرن الماضي ، تظل أعمال كل من رومان ياكوبسون و بول ريكور رائدة في هذا المجال ، حيث لامست الجرح من خلال التفكير العقلاني والوجودي في موضوع الأدب . و به يكون العبور آمنا نحو الوظيفة التي يقوم بها الأدب في الحياة .

كلما سمعت عن الحكايات الشعبية أحس وخزا لذيذا في قلبي ووجداني ، وإن كان علي أن أستغل ما درسته في كلية الآداب والعلوم الإنسانية :من دراسة لبنية النصوص الأدبية وتشكيلها الفني ونكهتها الإبداعية ،وإن كان علي أن أمرس مهارتي النقدية وأن ألبس جبة الناقدة التي تمنيت أن أكونها وتعلمت مهارتها ، علي أن أدرس الحكاية الشعبية المغربية.
قد يقول البعض : هل تستحق الحكاية الشعبية المغربية الدراسة ؟ أليست مجرد إنتاج شفهي بدائي الميلاد و الهيئة ؟ ألم يتم إبدالها بالتلفزة وبرامج والتطبيقات الحاسوب الذكية ؟ ألم يمتلئ الفراغ العاطفي والزمني الذي كانت الحكاية تعوضه ؟
هل ما يزال الفرد يحتاج إلى ليالي السمر حيت يجتمع الكبار وتشرئب رؤوس الصغار لسماع قصص وحجايات الأم والجدة؟ ، في ظل الأشرطة القصيرة المسجلة والفيديوهات الغزيرة وحمى المعلومات والصور المهلوسة التي لا تنفك في الانهمار إليك اذا دخلت نسق الحياة الرقمية التي عوضت كل كيان ثابت ظُن أنه لن يهمل.

في الأدب أحداثٌ ووقائعُ يسجلها التاريخ ، فالخلود الذي يرسو عنده هذا الحلم ، يظل مشدودا إلى ظواهر تتناقلها نصوص غائبة ، تسعى نحو تجسير حوار بناء بين القديم والحديث . فمن زاوية التفاعل والانفتاح ، يصبح العبور آمنا بين عظماء في التاريخ الإنساني ، ويصبح أيضا ـ أي العبور ـ ذا مغزى يعجُّ بعبر وقيم نبيلة ، تخدم تاريخ الأدب . فمهما حاول النقد الأيديولوجي الحديث أن يطمس هذه الحقائق التاريخية ، إلا أنها تظل موشومة في ذاكرة الأدب ، تطفو بين الفينة والأخرى في الساحات الفكرية ، وتتلون بمنطق العصر .
في الأدب الغربي ، كما هو معروف ، مساحات شاسعة ومضيئة من قول وحرية وإبداع ، ينتقل عبرها الأديب نحو العالمية و الخلود بفعل الانتشار الواسع للترجمة والطباعة ، والمنافسة الشديدة بين دور الطبع والنشر . فكان الأدب الألماني ، من هيكل إلى حدود برتولد بريخت مرورا بهولدرلين ، قد استفاد من هذا التطور وغير مجرى التاريخ في أوروبا . فما عسى لشاعر ألمانيا العظيم ، يوهان فون غوته ، إلا أن ينظر إلى ما يخلده في الأدب . فعبر مصفاة المسرح ، باعتباره أبي الفنون ، استطاع غوته أن يكون مسرحيا وشاعرا وفيلسوفا ، وتمكن من أن يخلق لنفسه هالة من جنون العظمة ؛ أسوة بأبي الطيب المتنبي في الأدب العربي ، الذي اختار المنفى بقوله الشهير من الوافر :

1 - التعرّف
قبل هذا الوقت لم أعرف ميلانين و لا الأديبة فتحية دبّش لكنّي كنت محظوظا حين قامت الكاتبة و لا أعلم لماذا بالإشارة لي في منشور فايسبوكي يخبر عن ندوة أدبية ستقام ذات سبت بباريس عاصمة الأنوار و الثقافة حول رواية عنوانها ميلانين، و لأنّي كنت متعطشا لمثل هذه الندوات فقد راسلت مباشرة الكاتبة في الخاص للإستفسار منها عن الحضور و هل مازالت هناك أماكن شاغرة نظرا للإجراءات الخاصة المتبعة نتيجة الكوفيد-19، فكان الردّ بنعم يمكنك الحضور.
بعدها كان عليَّ الحصول على ميلانين لقراءتها قبل موعد اللقاء، بحثت عنها في النات و خاصة في الموقعين اللّذين أشارت لهما الكاتبة لكن لم أتمكن من شرائها، بدأ القلق يدبّ فيَّ لأنّي لا أريد الحضور للإستماع فقط بل أريد المشاركة في النقاش، خطر ببالي أن أتصل بالأستاذ علاء الدين السعيدي أحد الناقديْن اللذيْن سيؤثثان اللقاء و فعلا أخبرني أن لديه نسخة يمكنه إعارتي إياها و تواعدنا على اللّقاء.

إنْ كان الكلام عن الأدب في عمومه صعبا فإنّه يزداد صعوبة في السِّيَرِ الذاتيّة لأنّ تناول سيرة كاتب، هو تماما كالدخول لبيته و حاضنته، فتجد نفسك كقارئ مكتفيا بالقراءة دون جرأة في التفكير في الكلام عمّا تقرأ، ففي حضرة الألم يخرس اللسان، و يصبح الأمر بالغ الصعوبة إن وجدت نفسك تطالع سيرة لسجين سياسي سُجِنَ و حِيلَ بينه و بين الحريّة زمنا، فكان التأريخ لمحنته ملاذه الوحيد لإنقاذ نفسه و ذاكرته لكن و بتواضع كبير أمام عذابات المساجين السياسين، كان من الواجب علينا الكتابة عن أدب السجون التونسي الذي لم يأخذ حظّه في تونس إطّلاعا و دراسة رغم المآسي الإنسانية التي شهدتها الجمهورية منذ الإستقلال إلى سقوط نظام المخلوع و رغم أنّه الشهادة الخالدة عمّا جرى من إنتهاكات لحقوق الإنسان خلال تلك الفترة المظلمة من تاريخ تونس.