من خلال حواراته الممتدة مع الكاتب "لورانس جروبيل" والأقرب إلى سيرته الذاتية، يعود آل باتشينو إلى لحظتين يراهما حاسمتين في قرار احترافه لفن التمثيل، يتذكّر عرضا مسرحيا لفرقة من الممثلين الجوّالين لمسرحية النورس للروسي أنطون تشيكوف شاهده في عمر الرابعة عشرة على أحد مسارح برونكس، حيث نشأ في واحد من أكثر أحيائها فقرا والذي ترك أثرا مُدهشا عليه.
يستعيد هذه اللحظة التي يرويها مُضيفا عليها هالة من الرومانسية، حيث في أحد مطاعم نيويورك، وعلى الرصيف الآخر من أحد المهرجانات المسرحية المخصصة لأعمال شكسبير، كان هناك سبعة أو ثمانية من الممثلين مندمجين في بروفة مسرحية، وكان الضوء يتسلّل إليهم عبر الستائر مُحوِّلا المشهد إلى ما يشبه لوحة من لوحات رينوار، قلت لصديقي: "هل تراهم؟ لا أستطيع أن أشيح بعيني عنهم. كما لو كانوا هنا منذ مئات السنين وبإمكانك أن ترى جذورهم وخلفيتهم. كنت منجذبا إليهم، كم كانوا يشبهون عائلة ما، وكان هذا شيئا طالما أردته".(1)

خلال العقد الأخير من الألفية الثانية، لاحت للنقاد المغاربة بوادر انعطافة نوعية في كتابات سردية مغربية، انتحى كتابها منتحى جنس أدبي، ينزاح عن النسق السردي، الذي عهده القارئ.
وهذا الجنس هو القصة القصيرة جدا، التي تسم ذاتها باقتصاد لفظي، وتقصر ألفاظها الناظمة لبناها الحكائية، على ما يطاوع بإيجاز محكم مراد أسلبة الواقعي دلاليا وجماليا، ويستجيب لروح العصر.
وقد أمكن لهذا الجنس القصصي المثير عند مستهل الألفية الثالثة، أن يتبوأ في المغرب منزلة مركز الجاذبية والإشعاع في الآن ذاته، إذ اقتفي الكتاب والكاتبات في كتاباته نسقا فيه من التنوع والتسارع والغزارة، ما لم يعرفه من قبل أي جنس أدبي مغربي، لهذا أمكنه في سيرورة زمنية سريعة أن يراكم كمّا وفيرا وثريا من الكتابات بالقياس إلى عمره القصير، وأن يفوق بعدد إصداراته القصصية كل التوقعات، وأن يتجاوز نظيره في المشرق العربي، الذي كان له فضل السبق في كتابته، مما جعل التجربة القصصية المغربية، تحظى بحظوة مميزة لدى الكتاب والنقاد والقراء العرب.

    رواية أحاديث جانبية[i] لرياض خليف[ii] نصّ مُفعمٌ بدلالات اجتماعيّة وسياسيّة وحضاريّة تكشف بشكل واضح ملامح التّغيرات التي ألمّت بالمُجتمع التوّنسي بعد الثّورة .وهو ما يجعل من الرّواية مرآة عاكسة لهذه الأحداث تُبرز بعض النّماذج الاجتماعيّة ما بعد الثورة تتصدّر المشهد الإعلامي والسّياسي .  ولعلّه من الطّريف في هذا النّص رغم ملامحه المرجعيّة الواضحة توسّل صاحبه التّجريب باعتماد الميتاسردي .إذ يبني النّص فضاءاته وعوالمه الدّاخليّة مأسُورا بحضُوره الذّاتي. فيُردّدُ صَدَى الكِتَابَة وَعَنَاصِر التّأليف ليُبيّن أنّه نصٌّ قَادِرٌ على الجمع بين أنماط كتابيّة مُختلفة دُون أنْ يفقدَ انسجامَه الدّاخليّ.

hللسرد الحكائي ، في تاريخ الأدب العربي ، عراقة تتأصل بتأصل الإبداع في الوجدان والشعور والإحساس . فمهما اختلف النقاد حول البدايات الأولى ، المرتبطة بالنشأة والتطور والامتداد ، فإن هذا التباين يرمي بظلال قاتمة حول تاريخية الأدب العربي . فالمنزع نحو السبق الأدبي ، يحفر شروخا لا تكف عن الامتلاء ، خصوصا مع التيارات الفكرية الحديثة التي ظهرت ، بداية القرن العشرين ، في أوروبا ، بما هي تنظر إلى الأدب كبينة ، تتألف من عناصرَ خاضعة للإبدال والتطور .
بمعنى أن هذا الاختلاف البنيوي الكامن وراء نشأة البداية للنمط السردي ، في الأدب العربي ، يؤثر سلبا على مختلف الدراسات والبحوث ، التي تسعى إلى تأصيل الجنس الأدبي ، بل إلى تثبيت الهوية التاريخية والاجتماعية ، والمشاركة الفعلية في البناء الحضاري للثقافة الإنسانية . إن هذا المنزع نحو السبق الأدبي سواء في الشعر أو القصة أو الرواية ، ليس مؤثرا بتلك الحساسية المفرطة التي عولجت به هذه البدايات ، وإنما يبقى مفهوم الجيل ، حسب أدونيس ، فاعلا و مساهما في تطوير الفكر و الإبداع . فأيَا كانت المؤثرات الأيديولوجية ، التي تغزو الجيل الثقافي و الفكري ، فإنه يظل متشبثا بقيمه ومبادئه التي ينفرد بها عن باقي الأجيال السابقة أو اللاحقة ، و بها يكون الجيل بأكمله مساهما في بلورة جنس أدبي معين ، وبعثه من رماد إرهاصاته الأولية كطائر الفينيق في الساحة الفكرية والأدبية .

تنحو فاطمة كطار منحى سرديا موسوما بالتطور والتغيير في نصوص باكورتها القصصية " من أين يأتي الضوء؟ " ، ونلمس ذلك في مقارنة قصص الجزء / الكتاب الأول من هذه الأضمومة بالجزء/ الكتاب الثاني الذي تخلصت نصوصه، بشكل كبير، من المرجعية الواقعية التي تمتح من مكونات المحيط القريب بشخوصه ووقائعه وانفتاحها على عوالم تزخر بزخم من رهافة حسية ، ورقة وجدانية عبرمسلكيات وجودية مفعمة بطابع إيحائي بعيد المرامي ، عميق المقصديات . فقد ارتأت القاصة أن توزع نصوص مجموعتها على كتابين عنونت الأول ب : من أين يأتي الضوء؟ ، والثا ني ب: عندما رحلت أوتارك.

مشكلة التجنيس:
 يطرح تجنيس النصوص إشكالا حقيقيا يرتفع إلى مستوى "المعضلة"، وقد عبر غير واحد من الدارسين عن هذه المشكلة التي تواجه المشتغلين بالأدب عامة وبنظريته خاصة، من هؤلاء جيرار جونيت الذي عرض لهذا الإشكال في كتابه "مدخل لجامع النص"، حيث انتهى من تقليب النظر في هذه المسألة إلى أنه بالرغم من الاجتهادات العديدة المطروحة داخل نظرية الأجناس، فإنه لا يوجد من بين هذه "الاجتهادات" موقف، في ترتيب الأنواع، "أكثر طبيعية" أو "مثالية" من غيره، ذلك صريح قوله:

"نرى أنه لا يوجد بشأن ترتيب الأنواع الأدبية موقف يكون في جوهره أكثر "طبيعية" أو أكثر "مثالية" من غيره، ولن يتوافر هذا الموقف إلا إذا أهملنا المعايير الأدبية نفسها كما كان يفعل القدماء ضمنيا بشأن الموقف الصيغي. لا يوجد مستوى "جنسي" يمكن اعتماده كأعلى "نظريا" من غيره، أو يمكن الوصول إليه بطريقة "استنباطية" أعلى من غيرها، فجميع الأنواع أو الأجناس الصغرى والأجناس الكبرى لا تعدو أن تكون طبقات تجريبية، وضعت بناء على معاينة المعطى التاريخي، وفي أقصى الحالات عن طريق التقدير الاستقرائي انطلاقا من المعطى نفسه؛ أي عن طريق حركة استنباطية قائمة هي نفسها على حركة أولية استقرائية وتحليلية أيضا. ولقد رأينا بوضوح هذه الحركة في الجداول (الحقيقية أو القابلة للوجود) التي وضعها أرسطو وفراي، حيث ساعد وجود خانة فارغة (السرد الهزلي، السرد العقلاني، المنفتح) على اكتشاف جنس كان بالإمكان ألا يدرك مثل المحاكاة الساخرة"[1].

يمكن الدفاع عن المسلمة التي تُفيد بأنّ الشّعر الشعبي و الشعر الفصيح بالجزائر، في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن عشر ين، شعر متمرد في مجمله، يرتفع إلى مستوى الشّعر الملتزم بقضايا الشعب، يدعو إلى المقاومة، وسيلة مثلى ضد المعتدي الغاصب، و الذي طوال تواجده لم ينفك من العمل بمقتضى المبدإ المشهور :"فرّق تسد" . تنخرط تجربة الشيخ الشاعر محمد بن يعقوب الفنية في هذا السياق؛ و لكن من دون إغفال أنّ الشاعر مادح للجمال بجانبيه، الحسيّ أيام الصبا و التسلي، و المنزه زمن الأفول و التواري، و بحسب إفادة حفيد الشاعر، السيّد عبد الحميد بن يعقوب، قد خلّف الكثير من الأبيات الشعريّة التي استحالت مع مرور الوقت إلى حِكًم شعبيّة تلتقطها الأذان التقاطا، و تتناقلها الألسن تباعا. سنحاول من خلال هذا العمل قراءة و تحليل إحدى قصائد الشاعر و المتمثلة في ملحمة مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، التي يربو عدد أبياتها عن الأربعة مئة بيت ، تحليل يرتكز على مقولتي الحركة و الزمن، بحسب تصور الفيلسوف أرسطو ؛ و بالتالي سيلاحظ القارئ الكريم أننا قد حدنا من الناحية المنهجية على الكيفية المعتمدة عادة في الكتابات الفلسفية، و ربما قد يصل الابتعاد فيمس جانب المضمون..

توطئة : أعتقد اعتقادا جازما، أنّ المجال الحيوي لفعل التفلسف لا يقف عند أعتاب حدود ما ألفه النّاس و تعارف عليه المهتمين بالقضايا الفكرية، فالفلسفة باعتبارها حركة تفكر تقصد قصدا حثيثا، أبعد نقطة تتحملها قدرات الإنسان العقلية – و ما أعظمها - مراعية في ذلك مقتضيات الواقع الاجتماعي، دون إثارة فارغة، و لا ضوضاء صاخبة. و هذه الحركة التي يراهن عليها أن تكون معقولة، تتجلى بين الفينة و الأخرى، في نسج قشيب صادر غن خيال روائي أو أديب، أو في فصول مسرحية تأخذ بالألباب، أو في فيلم سينمائي يعرض مشاهد تقطع الأنفاس من روعتها و دقتها، حتى لا يكاد القائل يقول هذا هو الواقع بعينه. و حتى يكون لما نبسطه و ننشر قوة تلزم القارئ الاقتناع لما نذهب إليه و نريده نُمثل بمشهد سينمائي، يبدو لي تعليميا يطلعنا عن كثب، فنعاين هذا التداخل بين السينمائي و الأدبي و الفلسفي. المشهد من فيلم، عنوانه " الرجل الذي قتلته"[1] نرى نحن مشهدا لاستعراض عسكري، بعين رجل بترت رجلاه، يراه هو من خلال شخص مبتور الرجل، تحديدا من خلال مكان الرِجْل المبتورة. المشاهد الحذق الذي أصابته شظايا حركة التفكر، سيرى فيُدرك الجواهر الحسان.  

مفضلات الشهر من القصص القصيرة