لا أدري إن كان يحق لي الاعتراض على حدث ثقافي تعرفنا إليه نهاية هذه السنة، ( وأنا أعني بها طبعا سنة 2020) ، فنحن عادة يروقنا أن يمطرنا الآخر بالمجاملات والمدح، ولكن أن نتعرض للنقد، ( في الاختلاف بركة وحداثة. أليس كذلك؟)،فهذا ربما لا نريد له أن يحدث، لأن النقد يكشف لنا مواطن العيوب، والأخطاء والزلات.يقال عادة لا عيب في أن نرتكب الأخطاء والعيوب، ولكن أن تُرتكبَ مرات عديدة، فهذا يقتضي منا وقفة تأمل واستكناه، حتى لا يعاد إنتاجها مرة ثالثة ورابعة وخامسة، مع العلم أننا نعرف أن هذه المهزلة لن تزول، لأن المصنع الذي يصنعها، لم يصب بالإفلاس بعد، فحتى المثقفون يصنعون الأعاجيب، في عالم اللامبالاة والتفاهات، وقد يتمثلون دور السلطة- أي سلطة- التي كانوا يدعون بأنهم يعارضونها، في ما مضى من الزمان.

تتسم رواية " الساعاتي " للكاتب المغربي حسن إمامي بوفرة الشخوص ( أكثر من 50 شخصا) ، وإن تفاوت حضورهم داخل نسيج الرواية حسب قيمة ما أوكل لهم من مهام وأدوار في ارتباطها بأحداث لا تقل هي الأخرى غزارة ، وما عرفته من تداخل وتشابك أغنت به المتن السردي ، وشرعته على آفاق تزخر بحمولات ذات طابع تأويلي علقت مآلاته على أفق انتظار تغذى من امتدادات سيرورتها في تفاعلاتها وتقاطعاتها وتناقضاتها وتوافقاتها.
وتبقى شخوص من قبيل الساعاتي علي بودحان ، ولطف الله ، وصديقه عبدالله ابن الساعاتي ، وحياة النفوس ، وعمر بدوي ، ومفتش الشرطة عزيز ، وماريا ، ورشيد الأمراني المحامي ، وصالح الطباخ ، وإلى حد ما فريد شقيق حياة النفوس بحكم أنها شخصيات أمسكت بخيوط النسيج الروائي ، وساهمت في بناء الأحداث ونموها ،وما عرفته من متغيرات ومستجدات تأرجحت بين الثبات والتحول، والسكون والانزياح في ارتباطها بأمكنة تميزت هي الأخرى بالوفرة ( فاقت 20 مكانا) ، وإن كان لبعضها قيمة أكبر من حيث مجريات الأحداث كمحطات احتضنت وقائع مؤثرة مثل حي المحيط ، وأكدال، وحي الرياض ، وحي حسان ، وأخرى خارجية بحضور أقل تأثيرا ( ميلان وصقيلية بإيطاليا ، وفارو البرتغالية) . وقد منح هذا الكم الوازن من الشخوص والأمكنة الرواية نفسا انزاح بها نحو الطول والامتداد عبر الخوض في تفاصيل وجزئيات بشكل يتخذ منحى استطراديا لا يخلو من إطناب وإسهاب لم ينل من البناء العام للرواية لما يميزه من إحكام ومتانة تجنبه مغبة السقوط في نواقص وهنات من قبيل التفكك والتهلهل.

" الإشتياق إلى الجارة " رواية للأديب التونسي الحبيب السالمي، صادرة عن دار الآداب للنشر و التوزيع ببيروت في طبعة أولى عام 2020 و هي تقع في مائتين و ست صفحات.
لعلّ ما يشدّ القارئ في كتابات الحبيب السالمي، السلاسة و بساطة السرد، فالرواية عند السالمي تتدفّق دون تكلّف كأنّها نهر يجري في مساره دون معوقات لذلك من الطبيعي أن يشعر القارئ براحة الكاتب في الرواية، هذه الراحة التي سرعان ما تمرّ للقارئ نفسه فتجعله مشدودا للأحداث، مصرّا على تقصّيها حتى نهايتها.
فالسالمي كاتب هادئ ينجح نجاحا باهرا في تمرير هذا الهدوء للقارئ فيستلبه برصانة الكلمة و متانة الأسلوب.كما ينجح أيضا في الحفر عميقا في نفوس شخصياته فرغم محدودية الفضاء المكاني للرواية ( عمارة سكنية ) إلاّ أنّ كثافة الوصف و دقّة التعبير عمّا يعتمل دواخل الشخصيات، يجعل القارئ يتجوّل داخل التقلّبات النفسية التي يعيشها أبطال الرواية و العلاقة فيما بينهم و كأنّ الكاتب يستدرج قارئه فيجعله شريكا في الأحداث لا مجرّد متابع لها.

       إن أيّة قراءة للمجموعة القصصية " جنازة امرأة"، للقاص جواد السراوي، لا يمكن أن ثُلِمَّ بجموع التفاصيل، والأحداث الكثيرة والمتنوعة في المجموعة. وراهنية البعض منها، بل لحظيتها. فالمجموعة تعتبر ناطقة بلسان حالِنا، ومعبرة عن أبعاد وجودنا الإنساني، في كينونته وتجلياته. إن قراءتنا لهذا المجموعة، تتخذ من الحضور الفلسفي مدخلا لها، إذ أن الكاتب عَمِل في مجموعة من المناسبات وفي مختلف لحظات بنائه القصصي على النبش في التساؤلات الفلسفية التي تحرك الفكر البشري، وهذا ما بدا واضحا، بدءا من العنوان " جنازة امرأة"، فالجنازة كدلالة على الموت، تقتحم حياة الناس، على حين غفلة منهم، وهي تشكل ذلك المنعطف الذي يُفصل الإنسان عن العالم المادي الملموس، ويُقْحمه في عالم آخر مجرد وغير مرئي، ناهيك عَمّا تخلفه من أثار نفسية واجتماعية على ذوي الفقيد(ة).

يتحرك عالم ميلان كونديرا الروائي بين مجموعة من الأقطاب، الخفة والثقل، الروح والجسد، القوة والضعف،[1] ضحك الملائكة لأن كل شيء له معنى، وضحك الشياطين لأن العالم كله لا معنى له.[2] وفي روايته الأشهر "كائن لا تحتمل خفته"، يأتي قطبا الخفة والثقل في المركز، ويدور حولهما كل شيء. فالرواية التي تبدأ بسؤال لشخصية توماس الذي يقف محدّقا في جدار يتساءل: أيدعو تيريزا لتأتي إلى بيته مغامرا بإثقال حياته بالحب، أم يدعها تمر وينساها كطيف آخر عابر؟ لا تلبث أن تنطلق من هذا التساؤل لسؤال أعم؛ ما الأفضل: حياة نعيشها متخففين من كل ثقل وشعور ومعنى ندور في الهواء دون شيء يربطنا بالأرض، أم أخرى ترتسم فيها خطواتنا وفقا لجاذبية المعاني والمشاعر الثقيلة؟
لكن كونديرا لا يعطينا أي إجابات، فالرواية بالنسبة له "لا تؤكد على أي شيء، بل تبحث عن أسئلة وتطرحها".[3] وفي ظل هذا السؤال حول الخفة والثقل، تتحرك الشخصيات الأربعة الأساسية، توماس وتيريزا وفرانز وسابينا، كثنائيات يلعب كل فرد فيها على أوتار مختلفة في أنغام الخفة والثقل، تتضافر معا وتنسجم مُشكّلة جسد الرواية.

أصدر الكاتب الروائي والناقد المغربي عبد النبي بزاز كتابه الجديد . وهو عبارة عن رواية تحت عنوان " هل سأعود يوما؟" (فصول من حياة مهاجر).
وتضع الرواية، التي تقع في 117 صفحة من الحجم المتوسط تتوزع على 7 فصول، القارئ في صلب تجاذب مستمر بين اليأس والأمل ، والخير والشر، والفقر والغنى . وذلك في سياق سوسيو- سياسي مضطرب لبطل الرواية "المختار" خلال طريقه الطويل والشاق للهجرة إلى الخارج. والذي تتعدد مطباته، وتتجدد إكراهاته لتنتصب عقبات كأداء أمام من يخوض في غمار العبور لضفافه.
الرواية جنس أدبي "غير مستقر وغير مكتمل وغير مغلق" يسعى بشكل جاد إلى تحطيم مطلقية اللّغة والتحرر من أحادية الرؤية ويفتح أبواب الممكن أمام المبدع، كما أنها عند ميخائيل باختين الروسي أدب شعبي وجنس سفلي ومتخلل، نابع من الأجناس الأدبية الدنيا. وهي كذلك تعبير عن الأوساط الشعبية والفئات البروليتارية الكادحة.

إحساس غريب ينتابني كلما أنظر اليه. هل هو الرجل الذي أحببته يوما؟ أمعن النظر في خطواته وحركات يديه، أحيانا أراها بطيئة، فارغة لا تهز مشاعري وأحيانا أخرى أحبها وأتبعها بنظراتي حتى تختفي. لما أتحدث اليه، أتأمل مخارج حروفه وأراه كمن يتعلم النطق لأول مرة. كلمات مبعثرة وتائهة وغير مفهومة. حتى أنني لا أصغي اليه بل أتيه دون أن أعرف طريق العودة. أحيانا أراه مقبلا علي، أفرح كثيرا كطفلة تلقت هدية العيد. أسبق خطواتي لأعانقه وأشكر اللحظة التي جعلتني أرتمي بين أحضانه. هل هذا شعور طبيعي؟ أسأل نفسي.
أحيانا، يسافر. وهو كثير السفر. ربما هو أيضا يرتاح في الابتعاد عني. ربما هو أيضا يراني مختلفة. لكنه قليل الكلام. غريب أمره، لماذا لم ألاحظ هذا من قبل. انني أكره الصمت. يشعرني بالنهاية. سفره يجعلني تعيسة وغير سليمة السلوك وعدوانية حتى مع نفسي. لما يسافر، أهجر غرفة نومي لأنه غير موجود بها. أشعل كل الأضواء بالبيت حتى أشعر بالحياة. أترك جهاز التلفاز ينير بضوئه عتمة الغرفة التي أتواجد بها. أنام بأي وضعية ولا أحب أن أفكر. أعيد تفكيري الى نقطة الصفر. لما يعود، أقف كتمثال ضائع يتشوق لرؤية أهله وأحبته لكنه بدون أحاسيس وعواطف. تشكيلة غريبة من الأفكار السوداوية أحيانا والنورانية أحيانا أخرى. كأنني أمام انسان آخر. أعيد التمعن في حركاته وسكناته. وأسأل روحي الشقية" هل هو الرجل الذي أحببته يوما ما" لماذا أراه اليوم مختلفا؟ لماذا طفت فجأة على السطح كل عيوبه التي كانت يوما ما غائبة عني أو رفضت أن أراها؟ هل حبي له زال؟ ام هو الذي هجرني بصمت وتركني أعيش هذا الهوس؟ صمته قاتل. هل هي خطته حتى أطلب الرحيل ويظل هو الرجل المحبوب عند الجميع؟ .

تعوّدتُ منذ سنوات أن أخلو إلى نفسي في نهاية كل أسبوع فجرا للكتابة الحرة بما يملأ فكري ووجداني أو يصادفني من أحداث، وهي شذرات وتأملات وتعليقات أكتبها على الورق، في أوراق منفصلة أو في دفاتر أبنائي إلى جانب دروسهم. وكانت أغلب هذه النصوص تضيع وتبقى ذكراها في نفسي.
اليوم، قررت أن أكتب هذا النص وأحتفظ به لأني وعدتُ صديقي أن أبعث برسالته التي كلفني بها إلى الفنانة المقتدرة السيدة نورا الصقلي.
في الأسبوع الماضي الذي صادف ما تركه الطوفان الجميل للمطر، حوصرتُ داخل سيارتي وتعطلت وسط الأوحال وأنا بالبادية، على سفح الهضبة العليا، شرقا، من غابة المزامزة. فهاتفتُ صديقي امْحمّدْ الذي جاء بجراره المتهالك وجرّ السيارة إلى الدوّار في انتظار قدوم أحد الميكانيكيين من نفس المنطقة لتدبير أمر الإصلاح.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة