"والنّظر العدلُ المُنزِّل للأشياء منازلَها، والمُوَفّيها حقوقَها، موجِبٌ ألّا يُشاحّ في التّغيير والأسامي أصلًا ولا بِوَجهٍ من الوجوه مع قيام المعاني وتصوّر جوهريّاتِها وطبائعِها، فقِدْماً جرت العادة في الصّناعة النّظرية: الوصيّةُ للناظر وتحذيرُه أن يلهجَ بالألفاظ ويقفَ تصورَه عليها ويجعلَها نفسَ الأمرِ المنظور فيه.."[1].

فاتحة:

   قبلَ مناقشة ما كتبه محمد العمري عن "مفتاح العلوم" في كتابه "المحاضرة والمناظرة"، أدعو القارئ إلى وقفة وجيزة عند ما قاله عنه في كتابه" البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها " لعلّ ذلك يُقرّبنا من الأساس الّذي بنى عليه أحكامه في كتاب "المحاضرة" الّذي خصّصه، كما لا يخفى، لمناجزة زميله في التّخصّص. ومعلومٌ أنّ العمري يعلن في كتاب "البلاغة العربية.." أنّه ينطلق، من بين شعارات أخرى، من همّ شمولي نسقيّ[2]. ونحن وإنْ كنّا لا نقصد إلى تتبّع مدى وفائه لهذا المنطلق، فإنّ الواجب يفرض أن ننظر في ضوئه لما قاله عن المفتاح. وسنلتزم في ما سنناقشه من ذلك بالاحتكام إلى ما يرتبط بمنطلقاته التّصوّريّة وبمبادئه ومقاصده نفسها؛ وسنعمل على تحرير المفتاح من قبضة الأحكام غير المبرّرة علميّا، بمنهج يقوم على الاختلاف ولا يسعى إلى حشر المفتاح وغيره في تصوّر ضيّق بمنطق التّوحيد القسري الّذي يضاد العلم ويصادمه. وليس بخافٍ، على مَنْ لهُ فضل تمييز، أن التّصوّرات الضّيّقة  إنّما تنتج، في الغالب، عن قبليّات تَفْلت من حيّز الرّؤية والنّظر.

1 . تغيير انتماء الكتاب:

   وَأوّل ما يَجْبَه به العمري القارئ في المبحث الأوّل من الفصل الرّابع من القسم الثّاني هذا العنوان: "من علم الأدب إلى البلاغة". وهو عنوان يُعْلِن بوضوح ما ستدور عليه الفقرات المسطّرة تحته ممّا يمكن أنْ نختصره في كون المفتاح انطلق من البحث عن علم للأدب وانتهى إلى أنّ ذلك العلم هو البلاغة. وفي هذه الدّعوى المغسولة من الحقّ تنصّل مما قرّره هو نفسه في مكان آخر:  ففي سياق الدّفاع عن انتماء "منهاج" حازم إلى البلاغة يقول العمري إنّ  «صاحبه أصر على الاسم، وعرف البلاغة تعريفا يعطيها القيمة التي يريدها لعمله: العلم الكلي؛ أي أنها ليست بلاغة جزئية مما هو معروف، فلا يحق لغيره أن يغير انتماء الكتاب[3]«. أمّا في ما يتعلّق به هو، فإنّه لا يكتفي بتغيير انتماء المفتاح فحسب، بل إنّه يتصرّف في مقدّمته وفي بنيته ويعتبر العنوان نفسه أوّل شاهد على أنّ صاحبه لم يقصد، في البداية، إلى التّأليف في البلاغة؛ ويبتدع قصّة تكوُّن المفتاح، مشدّدا على ما يزعم أنّه تردّد وعدم احتراز وانتباه متأخّر إلى أنّ العلم الّذي كان يبحث عنه إنّما هو البلاغة بعينها. ونحن لا نقول إنّ العمري بدّل انتماء المفتاح لأنّ صاحبه ألّفه في "علم الأدب" وأصرّ على ذلك وأنّ العمري اعتبر "علم الأدب" مساويا للبلاغة -وهو ما يفهم من بعض السيّاقات كما سنظهره في حينه- فلا مشاحّة في الأسماء؛ بل نقوله لأنّ العمري يدّعي أنّ السّكاكي قام برحلة بحث عن علمٍ للأدب، فجاس خلال علوم كثيرة ولم يصل إلى أرض البلاغة إلّا في النّهاية! وهذا قولٌ لا صلةَ له ببنية كتاب المفتاح وبمقاصد صاحبه وبسيّاق تأليفه.

إضاءة :
كان هنا الى وقت قريب، يؤنس وحشتنا برهافة حسه الفكاهي، وسخريته اللاذعة أحيانا. وهو حين يحدثك، يجذبك بطرافة ما كان يرويه من ذكرياته المعتقة، هو الذي بارك الله في عمره الزمني، وباعد بينه وبين ثلة من أصفيائه ورفقائه الذين طواهم الزمن وعبروا الى الضفة الأخرى.
وبمجرد ما يستهويه الحديث عنهم تراه يستل من جيبه علبة ذاك المسحوق الأخضر الذي يسويه على طول إبهامه مستنشقا ما يحبل به من رائحة تزكم أنوفنا نحن المتحلقين حوله، متلهفين سماع أحاديثه ومستملحاته ورواياته العابقة بالأمثال والدروس والسير للذين ساروا بأرجلهم الحافية على الطرق المسنونة، يكتشفون أسرار الخلق وغياهب المشيئة.
نسيت دمي عندهم بوح شعري لعصارة نفس تواقة للانغماس في الهموم القومية الذبيحة، الممزوجة بالأوجاع الذاتية الناشدة لمن تحررها مما يطوقها من أحزان ومكابدة في الزمن العربي العاقر الموشوم بالخيبات والأزمات والهزائم. وفيما يلي قراءة لما تحبل به القصائد المبثوثة في هذا الديوان.
1- الهم القومي الذابح :
يبدو الشاعر مهووسا بزرع بذور الانتساب الى الهوية العربية. هو الذي ينتمي الى الرعيل الأول ممن خاض غمار استنبات البراعم التي ستتفتق في تربة مغرب ما بعد الاستقلال بحكم انتمائه إلى الأسرة التربوية. وهو بانغماسه المتواصل هذا في أداء وظيفته، لم يتسنى له أن يعكف على ما كانت تمور به نفسه الإبداعية من قصائد كان يحلو له أن يبوح بها لمن تحلق حوله من أصدقائه ورفاقه المقربين، وينشرها لعامة القراء. أما ديوانه هذا، فكان سيعرف نفس المصير لولا تكفل اتحاد كتاب العرب بطبعه في عمان لما كان الشاعر منغمسا في أداء دوره في هذا الاتحاد، وذلك بالمساهمة في أنشطته ومشاركته في اللقاءات والندوات الفكرية والأدبية بحكم عضويته التي كانت مستمرة كأحد ممثلي اتحاد كتاب المغرب بفرع العاصمة الاسماعيلية، مدينة : مكناس.
وقد جثم الهم القومي على كيان الشاعر لزمن ليس باليسير. وقد احتلت القضية الفلسطينية مركز هذا الاهتمام كمعادل لهذا الهم القومي الذي قض مضجع الشاعر. يقول في قصيدته: " تعاويذ" :

الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط بالبُنيةِ الأخلاقية الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة ، ولُغَةُ العملِ الأدبي تَرتبط بِنَبْضِ الواقعِ اليَوْمِي ، والمشاعرُ الإنسانية نابعةٌ مِن تفاصيل الحياة ظاهريًّا وباطنيًّا ، والتَّعَمُّقُ في الطاقةِ الرمزية اللغوية إنَّما هو _ في الحقيقة _ تَعَمُّقٌ في مَكنوناتِ النَّفْسِ البشرية ، لأنَّ اللغةَ والإنسانَ هُمَا الحاملان للأدبِ والفَنِّ والفِكْرِ والمَعرفةِ ، ورُوحُ اللغةِ ورُوحُ الإنسانِ هُمَا القاعدتان اللتان تَقُوم عليهما العمليةُ الإبداعيةُ نَصًّا ومَعْنى .
والأدبُ هُوَ الابنُ الشَّرْعِيُّ للأخلاقِ ، واللغةُ هي الوريثةُ الشرعيةُ للحُلْمِ الإنساني . وإذا حَصَلَ صِرَاعٌ بَين الأدبِ والأخلاقِ ، فإنَّ الإبداعَ سَيُصبحُ شَبَحًا باهتًا بِلا سُلطةٍ ولا هُوِيَّة ، وإذا حَدَثَ صِدَامٌ بَيْن الفَنِّ والشُّعُورِ فَإنَّ اللغة سَتُصبحُ صَدى مَبحوحًا لا صَوْتًا هادرًا .
ولا يَخفَى أنَّ الشِّعْرَ هُوَ الفَنُّ الأكثرُ التصاقًا باللغةِ ، لأنَّه قائمٌ على التَّكثيفِ والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ والصُّوَرِ الجَمَالِيَّةِ المُدْهِشَةِ ، والشُّعُورِ الإنساني النَّبيل ، وإعادةِ تَشكيلِ الأشياءِ العاديَّة لِتُصبح مُبْهِرَةً ، وتَكثيرِ زَوايا الرُّؤية لتفاصيل الحياة لِتُصبح عوالم سِحْرِيَّة مِن الأحلامِ المُحَلِّقَةِ والذكرياتِ المُلَوَّنَةِ . وإذا خَسِرَ الشاعرُ لُغَتَه خَسِرَ هُوِيَّتَه ، وإذا فَقَدَ الشاعرُ شُعُورَه فَقَدَ إنسانيته .
ومِن أسوأ التناقضات بَين الحَالةِ الإبداعيَّةِ والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ ، التناقضُ الصارخُ في حياة الشاعر الأمريكي عِزرا باوند( 1885_1972)الذي يُعْتَبَر أحد أهَمِّ شخصيات حركة شِعْر الحداثة في الأدب العالمي في النِّصْفِ الأوَّلِ مِن القَرْنِ العِشرين، حتى إنَّ الشاعر الإنجليزي مِن أصلِ أمريكي تي إس إليوت أهدى إلَيه قصيدته " الأرض الخراب" ( أشهر قصيدة في القرن العِشرين ) باعتباره مُعَلِّمًا له ، وأبًا للحداثة الشِّعْرية الغربية، حيث قال : (( إلى عِزرا باوند الصانع الأمهر )) .

إنَّ النقد الثقافي لا يَعْني تحليلَ الأنساقِ الثقافيةِ الكامنةِ في النُّصُوصِ الأدبية فَحَسْب ، بَلْ يَعْني أيضًا تَفكيكَ الأفكارِ الفلسفية الراسخة في الصُّوَرِ الإبداعية الفَنِّية ، وإعادتها إلى أشكالها الأوَّلِيَّة في الواقعِ اليَوْمِي ، وإرجاعها إلى جُذورها الاجتماعية في الأحداث الحياتية . والثقافةُ لَيْسَتْ تَجميعًا للكَلِمَاتِ وتَنميقًا للعِبَاراتِ وتَزويقًا للدَّلالاتِ ، وإنَّما هي تَجسيدٌ للوَعْي الاجتماعي بَين مَا هُوَ كائن وَمَا يَنبغي أن يَكُون.وكُلُّ حالةٍ إبداعيةٍ تُمَثِّل اندماجًا بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ، مِمَّا يُسَاهِم في كَشْفِ جَوهرِ التاريخ شخصيًّا وجَمَاعِيًّا ، وإظهارِ تَحَوُّلاتِ الفِعْل الاجتماعي تاريخيًّا وحَضاريًّا ، وإبرازِ امتداداتِ سُلطةِ العملِ الأدبي أُفقيًّا وعَمُوديًّا .
والنقدُ الثقافي لَيْسَ مُوضةً عابرةً ، ولَمْ يَجِئْ مِن العَدَمِ ، ولا يَتَحَرَّك في الفراغ ، بَلْ هُوَ تَجربةٌ إنسانية مُتكاملة لها جُذور اجتماعية عميقة ، ومَصْدَرٌ أساسي للمَعرفةِ المُسْتَتِرَةِ في تفاصيل المُجتمع ، وإعادةُ إنتاج للعلاقات الاجتماعية كأدواتٍ لُغَوية لتفسيرِ المفاهيم المُسيطرة على الواقع اليَوْمِي ، وإعادةُ تَشكيل للتَّرَاتُبِيَّةِ الهَرَمِيَّة كَآلِيَّاتٍ ثقافية لتأويلِ الخِطَاب المُهيمِن على الأحداث الحياتية .
وإذا كانَ المُجتمع يَستمد سُلطته الاعتبارية مِن مَصادرِ المعرفة ، فَإنَّ النقد الثقافي يَستمد طاقته الرمزيةَ مِن جُذوره الاجتماعية . وإذا اندمجت السُّلطةُ الاعتباريةُ معَ الطاقةِ الرَّمزية ، فإنَّ مَرجعية اللغةِ سَوْفَ تَتَكَرَّس في الإبداعِ الأدبي وَالوَعْيِ الاجتماعي معًا ، ويُصبح جَسَدُ اللغةِ بَحْثًا دائمًا عَن المَعْنَى ، وتَجسيدًا مُستمرًّا للأنساقِ الثقافية القادرةِ على الجَمْعِ بَيْن المَركزي والهامشيِّ.

قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى' تنبض بعمق المشاعر الإنسانية، معبرةً عن رحلة الشاعر الداخلية وكفاحه مع الاغتراب والبحث عن الذات. في طياتها، تكشف القصيدة عن تجارب شخصية مليئة بالأحاسيس المعقدة التي تلامس جوهر الوجود الإنساني، معكسةً تساؤلات الشاعر حول الهوية والانتماء. الشاعر، في هذه القصيدة، لا يعيش الغربة في معناها المادي فحسب، بل يخوض غمار الاغتراب الوجودي، متأملاً ومتجولاً بين الأمكنة والأفكار بحثاً عن معنى أعمق للحياة ومكانته فيها. حتى وسط الزحام، يشعر بوحدة مؤثرة تدفعه للتفكير بعمق حول ماهية الذات والهوية الشخصية. يستخدم الشعر كأداة لاستكشاف أغوار نفسه، محاولاً فهم وتفسير أسئلته الوجودية من خلال قوة الكلمات والإيقاعات. وبهذه الرحلة، يتقاسم الشاعر معنا شعوره بالاغتراب، ليس فقط كمنفى جغرافي، بل كحالة ذاتية تتجسد في تجربته الشخصية. القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الوجود، الحب، الموت والفقد، داعية القارئ للتأمل في هذه المواضيع الجوهرية. استخدام الرموز والصور البيانية يضفي على النص غنى وتعقيداً، مانحاً القارئ فرصة لاستكشاف وتأويل العديد من الطبقات المعنوية. النهود في القصيدة تعدو أكثر من مجرد رمز للحياة والخصوبة؛ إنها تمثل الشوق للعيش والأمان. وبالمثل، ترمز الكتب إلى البحث عن المعرفة والحقيقة، معبرةً عن رغبة الشاعر في تعميق فهمه للعالم من حوله. في جوهرها، تعد هذه القصيدة دعوة للقراء للانخراط في رحلة تأملية حول معنى الحياة والوجود الإنساني، مشاركةً إياهم في استكشاف الأسئلة التي تراود النفس البشرية وتمس جوهرها.

في قلب قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى'، تنبض شوارع الحياة بكل تقلباتها وتعرجاتها، راسمة خارطة لرحلة الشاعر الشخصية في محاولة لفهم ذاته والعالم من حوله. هذه الشوارع ليست مجرد ممرات مادية، بل هي مسارات روحية تقود الشاعر في استكشافه الدائم لمعنى الوجود وهدفه في هذه الحياة. عبر الأبيات، ينسج الشاعر حكاية استكشافه للذات والعالم، مستخدمًا الرموز البليغة من نهود تمثل الحياة والكتب التي تعبر عن البحث عن المعرفة، إلى الشوارع التي تجسد رحلته المعقدة والمليئة بالتحديات. هذه الرموز تعكس صراع الشاعر الداخلي بين رغبته في الاستقرار وشغفه بالتجوال والاكتشاف، مقدمةً للقارئ تجربة غنية تثري الروح وتحرك العقل. في قلب القصيدة، يبرز الاحتجاج والتمرد كموضوعات رئيسية، حيث يعكسان التزام الشاعر بالتعبير عن رفضه للوضع الاجتماعي والسياسي الحالي. يتضح هذا الالتزام في دفاعه عن الطبقات المهمشة وتضامنه مع قضاياهم، مستنكرًا الفوارق الطبقية الصارخة التي تشق المجتمع. الشاعر لا يكتفي بمجرد عرض اعتراضاته، بل يدعو إلى الوعي والتفكير النقدي حول العدالة والمساواة، موجهًا انتقاداته للأنظمة التي تعزز الفجوات وتدعم الاستغلال. من خلال قصيدته، يرسم الشاعر مسارًا للتغيير، مؤكدًا على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن الرفض والمقاومة، ومشددًا على أهمية النضال من أجل مستقبل أفضل. في النهاية، تتجاوز القصيدة مجرد كونها عملاً أدبيًا لتصبح منبرًا للشاعر يعبر فيه عن رؤيته وأحلامه لعالم يسوده العدل والإنصاف، مقدمةً لنا جميعًا تأملات عميقة حول الإنسانية وتحدياتها.

رواية "صياد الغروب" هي رواية للكاتبة أم الزين بن شيخة المسكيني، وهي صادرة عن دار الأمينة للنشر والتوزيع، وتحتوي على 227 صفحة مقسمة على 33 لوحة، حيث تبدأ الرواية بترتيلة الوداع قبل أن يشرع السرد في إفراز إمكاناته، وممكناته السحرية، والشعرية، والغرائبية. ومن ثمة تنطلق الكتابة في التحرّر من سلطة الحكي والتخريف ليتم بذلك تفجير المعاني والدلالات، في غابة من السرد المكثف، الممزوج بالفلسفة، والشعر، والأدب. فالرواية هنا هي مادة متعددة الأصوات، كثيرة المناخات والعوالم، وهي عجينة سردية ولفت فيها الكاتبة كل إمكاناتها السحرية والشعرية، مقرة من خلال ذلك أن كل فرد بإمكانه كتابة سرديته وسيرته وقصته وأن أهميته تنبع من تلك القصص التي تشكل جسده.

لم يكن السرد في رواية "صياد الغروب" مجرد تقنية ذات وظيفة إخبارية وقصصية، فهو لا يأتي فقط لإخبارنا بالحكاية والقصة بقدر ما دفعته الكاتبة أم الزين بن شيخة إلى تجاوز الممكن فيه من أجل الإطلالة على مدرات الرعب، التي لا يوجد فيها غير العوالم والمناخات المتعددة وهي تتحرك بين مسطحات متنوعة اختلط فيها الفلسفي بالشعري والخيالي بالواقعي. تنزل علينا رواية "صياد الغروب" بوصفها مشروعا أدبيا يميز جسده ذاك التحول المستمر في طريقة سرد الخطاب، ففي كل مرة تباغتنا الكاتبة لتطل علينا من مكان وفضاء وموقع ما، فهي تترحل بنا بين الأمكنة والأفضية متتبعة شخصياتها وحكاياتهم، فتأخذنا تارة إلى رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" وذلك باستحضارها لشخصية "كوشمار" و"خازوق" قبل أن تعود بنا لجسد رواية "صياد الغروب".

تتجول بنا أم الزين بن شيخة في جو من الفنتازيا الحرّة التي يكون فيها الخيال هو تعبير بشكل ما عن الواقع، فنحن لسنا في عوالم واقعية بشخصياتها وأمكنتها وأحداثها، بقدر ما نحن إزاء مناخات ميتافيزيقية لا ترتبط بالواقع إلا عبر حكايات الشخصيات في الرواية، فالأشباح "هناك" لها قصتها "هنا" وقرينة ذلك وجود شخصية "فرح" بوصفها شبحا يلتقي شخصية أيوب كل يوم عند الشاطئ عندما يهم بالتقاط صور الغروب. معنى ذلك أن الكاتبة أرادت من خلال رواية "صياد الغروب" أن تخبرنا أنه بإمكاننا أن نتخيل ما لا يمكن تخيله، وما لا يمكن تجسيده أو كتابته، وأن الخيال هو سلاحنا الأوحد ضد قسوة الواقع ومأساته. فالرواية هي لحظة من لحظات انعتاق الخيال إلي حدوده القصوى. فالسرد يبدأ من حيث يبدأ الخيال في مباشرة تشكيل الصور، فالرواية تستدعي كل الأشياء الخارقة والماورائية من أجل تحريك لعبة السرد.

في البدء كــان هنــاكَ المعنى، لكنّـــه، وبسببِ طغيانِ الأيدلون[1]، طفق يَغور في سرابِ اللحظةِ الراكضةِ صوبَ حَتفها. فكيفَ السبيلُ لاستعادته من قبضةِ هذا السّرابِ الشبحيّ؟   

لا تبتغي هذه الورقة أن تكون امتداحًا أو تقريظًا لـنصوص سرديّـــة قَضى الكاتبُ "محمد سَعيد أولاد الصغير" زمنًا طويلاً في تحبيرها. لا تبتغي، أيضًا، تقـــري ظـروف اختمارها وسياقات تخــلُّقها. ولا تبتغي، بعدَ هذا وذاك، ردَّ هذه النّصوص إلى النواةِ الدلاليّة الأولــى[2] وأنماط التّسريد التي خضعت لها؛ فنحن لا نريدُ أنْ نكونَ كالبوذيّ الذي يرى مَظاهر الوجودِ كلّها في فولةٍ صغيرةٍ [3]. كلّ ما تتغياهُ، إذًا، هو الإشارةُ، بتكثيفٍ دالٍ، إلى بعضِ الـمَداخلِ القرائية التي قد تكونُ مَساربَ صوبَ احتمالاتٍ دلالــيّةٍ ممكنةٍ.

إنّ النّص السّرديّ، استتباعًا، لا ينطوي على معنى ناجزٍ، كامنٍ، ومنتهٍ، بل إنه نصٌ مشرعٌ على مفاجآت صاعقةٍ إنْ هو وَجَدَ قارئًا خليقًا بـقراءته. إنّ لا وعيّ النّص أكبرُ من وعي الكاتب وسُلطته. فكلُّ العوالـم الــمُمكنة[4] التي يخلقها السّرد تُبنَى من خلال اللّغة وبواسطتها. واللّغة –كما يوكّد ذلك السميائيون والهرمسيون- حوضٌ رمزيّ زلقٌ وزئبقيٌّ، وفضاءٌ منذورٌ للاعوجاج والالتواءِ والتشتّت. يستدعي هذا اللاوعيّ، المعبّر عن نفسه اعوجاجًا والتواءً وتشتّتًا، قراءةً صغريّةً تفصيليّةً بالمفهوم البارثيّ للكلمةِ؛ أي قراءة تتتبّع سُبُلَ انصراف المعنى ومسالكَ تَدْلالِهِ: تقفّي سيرورات هروبِ المعنى من حدّ إلى حدّ ومن علامةٍ إلى أخرى في حركةٍ دائبةٍ، مترابطةٍ، ومستمرةٍ...

تَضَعُنَا المجموعةُ "حافية القدر" حُيال عوالــمَ رمزيةٍ تحتفي بالهامشِ والمنسيِّ ومَا اعتادتِ العينُ الإنسانيّةُ المعاصرةُ- التي فقدت رَهافة الـنّظر وعُمقه بفعلِ هيمنة وسائط التواصل الجماهيريّ وقنوات التلويث البصريّ- رؤيته مألوفًا وعاديًا وبسيطًا.

يمكن، بهذا المعنى، القول إنّ هذه الــمجموعة القصصية تعتمدُ السردَ وسيلةً لــتدثير مناطقَ إنسانيّة، أضحت، بفعل العوامل المذكورة أعلاه، عَاريةً، مُنتهكةً، ومُهملةً. يتراءى رهانُ التدثير السّرديّ، انطلاقًا من مُنظورنا القرائيّ، في جعلَ الغيابِ منطلقًا رئيسًا لبناءِ المعنى، ونسُوق صورَ هذا الغيابِ، ترتيبًا وتفصيلاً وتـــأوُّلاً، في ما يلي:

"وكذلك العلوم كلّها يوضع منها في مبادئ أمرها شيء يَسيرٌ، ثم يزداد بالتّدريج إلى أن يستكمل آخرا"[1]

فاتحة:

   تتبّعت في المقالات الثلاثة السّابقة ما قاله العمري عن مرحلة البلاغة العامّة في «المحاضرة والمناظرة» دون أن أخوض في التّقسيم الّذي قدّمه وبنى عليه. وقد كان ذلك مراعاة لحقّه في اختيار زاوية التّناول ومنهجه وإجراءاته وأجهزته من أجل تقديم تصوّره للمسائل التي يضعها موضع المباحثة. لذلك قدّمتُ تتبُّع أقواله الشّارحة التي يُفْتَرض أن يُبَرِّر أَثناءَها ذلك التَّقسيم. وقد تبيّن أنّ فيها تَخْليطاً لا يوصل إلى بناء تصوّر وجود بلاغة عامة عند السّلف بصفات وسمات ستُختزل من قِبَلِ الخَلَف بعدهم. لذلك، قدّرت أنّ الانتقال من تتبّع الفقرات التي خصّصها لـ"بلاغة الانتشار" إلى تتبّع الفقرات الّتي أدارها حول ما سَمّاه "بلاغة الانحسار" يسمح بالوقوف عند تقسيمه وتسمياته، خاصة أنّ أساليب المواربَة ظهرت في عناوين الفصول والفقرات نفسها. ومن أجل ذلك أقدِّم، كالعادة، كلامه بنصِّه قبلَ مناقشته.

1.    تقسيمات وتسميات محمد العمري:

    يقول محمد العمري:

  «تَنْتمي البلاغتان إلى زمنين، بل أنموذجين مختلفين: نُسِبَ الأوّل للمتقدم زمنا ومكانة، للمؤسس الفعلي للبلاغة العربية، عبد القاهر الجرجاني، ونُسب الثاني تلقائيا للقزويني صاحب تلخيص المفتاح للسكاكي الذي يعتبر، بدوره، قارئا ملخصا للجرجاني.

زمن الجرجاني هو الزمن الذي تفاعلت فيه مذاهب ونزعات بلاغية: شعرية وخطابية، تخييلية وتصديقية، أما «زمن» القزويني فهو الزمن الذي تناسلت فيه شروح وتلخيصات وحواش لشعب واحد من شِعاب البلاغة، وفرع واحد من فروعها. والمقصود بالزمن هنا الأنموذج، paradigme. زمن الجرجاني هو زمن الانتشار، في حين أن زمن القزويني هو زمن الانحسار، بمعنى الانكماش)»[2]

مفضلات الشهر من القصص القصيرة