1ــــ توطئة قبل ملامسة المحتوى
أديب متعدد الشخصيات جمع بين ما هو فني وأدبي بشعب مختلفة، فملأ جعبته بالكثير والمختلف، وشخصية من هذا النوع، لا يمكن أن تُوَفّق بين هذه المجالات المتعددة كلها، إلا إذا كانت مسلحة بعتاد فني وأدبي، لملمته من الموروث الثقافي، أو من معانقتها للواقع، أومن تجارب الآخرين؛ أو شخصية تمتاز بالصلابة والتحدي، بإمكانها أن تخترق الصخر، لتخلق ممرا يفضي إلى المرفأ المضيء.. وعلى الرغم من امتدادات شاعرنا نور الدين حنيف أبو شامة الثقافية اللامحدودة، فهو يتملص من لقب شاعر بصيغة التواضع، والاشتغال تحت الظل، مشيحا وجهه عن البهرجة والظهور، مع رفض تام تسليط الأضواء عليه..
أُهرّب الكلام إلى فنّ الخاطرة
حتى لا أُوصَمَ بالشِّعر
فشاعرنا يمحو منجزه من لائحة الشعر، ليقحمه في خانة الخاطرة، ليس ضعفا منه، ولا عدم ثقته في قدراته الشعرية، ولا لأنه لا يتوفر على عناصر شعرية، وإنما صبغة تواضعية كبيرة منه تحلى بها بفخر عظيم، ومن جهة أخرى فشاعرنا لم يرض بما قدمه، بل يسعى بكل ما في وسعه إلى الوصول للقصيدة المكتملة، التي تحتسب شعرا ؛ تَعلّق صارخ بمشجب الطموح ليصل إلى الأوج، إلى الذي يحقق مطمح القراء، ويلبي ميولهم وإن كانت الأذواق تختلف.. وأنا أمام الإشهاد، أقسم له أن ما بين أيدينا شعرا، وشعرا مرموقا، وشاعرنا متمكن باحترافية كبرى من توظيف عناصر شعرية، وبصياغة مدهشة لا ينازعها فيها أحد، وسوف نتوغل معا بين مطاويه لنرى حقيقة ذلك ...
2ـــ العتبة النصية للولوج إلى المحتوى
أطل علينا شاعرنا نورالدين حنيف أبوشامة، بمخطوط شعري، شاء له كعنوان ( سرْ وقمر لك ).. يضم أكثر من 20 قصيدة، تستوطن 104 صفحة، وكل قصيدة خصص لها قمرا، في سلسلة عددية حسب عدد القصائد، بدءا من واحد وعشرين إلى خمسة وعشرين...
ـــ العنوان/ عتبة قرائية تساعد على تلقي النصوص
دعونا نلقي نظرة خاطفة على العنوان : يتكون العنوان من خمس كلمات وحروف، ليشكل جملة تامة قائمة بذاتها، يتم إعرابها كالتالي :
سرْ : فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت
وقمر : الواو واو الحال /قمر مبتدأ
لك :جار ومجرور ( وشبه الجملة خبر المبتدأ ( قمر )
والجملة الاسمية المكونة من ( قمر لك ) في محل نصب حال..

المقدمة:
   في زمن الرواية تستمر الأقصوصة حضورا وفعلا، وفي زمن الجنس الإمبريالي، يستمر أحفاد الدوعاجي والأخوين تيمور وعبد الرحمان مجيد الربيعي...في الكتابة الأقصوصية منوّعين معدّلين لكنهم ظلوا أوفياء للأقصوصة عمارة فنية والانتساب، غالبا، إلى الكتابة الواقعية بما تعنيه الواقعية من متن حكائي وطريقة في الكتابة. ولقد تميزت الأقصوصة التّونسية منذ جماعة تحت السّور بالمحافظة على هذه المنازع الواقعية في الكتابة مع بعض الاستثناءات القليلة والعناية بالصّياغة السّردية. وهي منازع يلتقي فيها الجمالي بالدّلالي والوجودي بالإيديولوجي وتلك ماهية النص ووظيفته. وفي هذا السّياق تتنزل مجموعة "فتنة البدايات" للتونسي عبد الرزاق السومري التي حككها صاحبها جماليا وجعلها شاهدا على ما تكون به الأقصوصة سردا وموقفا. ورأينا التركيز على الشّخصية مدخلا إلى سرديات هذه الأقاصيص.

الشّخصية والتأصيل السّردي:

   الأقصوصة جنس أدبي سردي وجيز عمدته الحدث ومداره الزّمان "جنس سردي وجيز يتميز بتقلص عدد الشخصيات والأحداث وضمور سعة المكان وامتداد الزمان"(2) ونرى في هذا التعريف بصمات أرسطو وهو يحدد مفهوم الحبكة وعلاقة التراجيديا بها. يركز أرسطو على الحدث والزمن ليصوغ منهما الحبكة وما يسميه محاكاة فعل كامل "لقد عرفنا التراجيديا بأنها محاكاة لفعل تام في ذاته وكامل...والكامل هو ما لديه بداية ووسط ونهاية"(3). ويمكن أن نشير إلى أنّ مجهودات بول ريكور لدراسة العلاقة بالزمن(4) تشكل قطيعة جمالية ووجودية مع غالبية الإرث الأرسطي...وبحكم هذا التّعريف للأقصوصة نستخلص أنّها تنتمي إلى الأشكال الوجيزة. وهو ما يفرض عليها التقيّد بالتّكثيف والاختصار خاصة في مستوى الشّخصيات والمكان. ويدرك النّاظر أنّ نصوص هذه المجموعة قد صيغت جماليا وفق الضّوابط والمعايير الأجناسية وهو ما يعني التزام المؤلف بميثاق قرائي. ولكنّ هذا الالتزام كان خدعة وحيلة من الكاتب لأنّه تقيّد بقلة الشّخصيات وبالطّابع الواقعي لكنّه حوّل مركزية الفعل السّردي من الحدث إلى الشّخصية. وبهذا الفعل لا يخالف الكاتب التّعريفات المختصة، بل يتمرد كذلك على النزعة التي سادت في سبعينات القرن العشرين نزعة عملت على تهميش الشّخصية وجعلها وظيفة لسانية أو سردية تأثرا بالصّنافة التي ذهب إليها فلاديمير بروب عن نظرية الفواعل. يجعل السّومري الشّخصية الموسومة بالواقعية في غالبية النّصوص، والدة سردية ويوظف كل العناصر السّردية الأخرى الزمان، المكان، الحدث لخدمة الشخصية. وهو منزع في الكتابة نطالعه منذ الأقصوصة الفاتحة " سكاروف". تستعيد الشّخصية مكانتها ودورها وتتمدّد لتكون ظاهر النص (العنوان) وباطنه (البطل). تنشأ حركة السّرد في الأقصوصة الأولى على شخصية واحدة هي شخصية الطّبيب "سكاروف" شخصية نراها مهيمنة على المكان الذي يحضر باعتباره مدًى للشخصية وامتدادا لها. مدى يتوسع حسب حركة الشّخصية ويضيق وفق نفسية البطل. نطالع البلدة والعيادة والخمارات والشوارع لكنها تتجلى أمامنا سمة من سمات الشخصية ورسما من رسوم البورتريه. فالبلدة النائمة بين الجبال هي مجال ممارسة الشّخصية مهنتها "كل من في البلدة يعرف الطّبيب الرّوماني سكاروف" (ص5) ومن يعرف الطّبيب سكاروف سيعرف بالضرورة رومانيا تلك البلاد المنتمية إلى أوربا الشرقية والمعروفة بتخريج الأطباء. ويفقد البيت خصائصه الهندسية والمادية ليغدو سجلا بعادات الشخصية وطبائعها" في كل ليلة سبت لا يخرج سكاروف وككل نهاية أسبوع يقضي الوقت في البيت " (ص6).

" ..يعترف سقراط ، مثل السفسطائي، بتعدد الإجابات، لذلك اعتبر مشابهًا له. ومع ذلك، فإن هناك فرقا أساسيا يميز بينهما: يتظاهر السفسطائي بالإجابة، بالسعي للاقتدار على الدفاع عن أي واحدة كيفما كانت، في حين لا يحتفظ سقراط بأيٍّ منها بالضبط لأن من الممكن أن يُدافَع عنها جميعا"[1]

فاتحة:

  يستمرّ محمد العمري في الفقرة التّالية التي أقترحها للمناقشة في هذه المقالة في  الاستدلال على سعة بلاغة عبد القاهر الجرجاني؛ فيأتي مرّة أخرى بما لا حجّة له فيه من كلام لا يُسعفه على تحصيل ما يرتجيه، ولا يفي بأدنى ما يعلنه هو نفسه في مقدمة كتابه وفي تضاعيفه من واجب تَحرّي صدقَ المعلومة وضبطِ العبارة. لنورد كلامه قبل أن ننظر فيه في ضوء منطلقاته وشعاراته.

1.    إثباتُ البلاغة العامة في التّراث العربي بطريق المواربة:

  «الجرجاني كان يفاوض من داخل نسقه الفلسفي، ثم اللساني، علمين كبيرين: الجاحظ والقاضي عبد الجبار: ناكفهما، وخاصمهما، ثم أخذ منهما. أخذ من الجاحظ حل لغز اللفظ بعد عناء: أخذ منه اللفظ بمعنى التصوير، وأخذ من القاضي عبد الجبار معنى النظم وإشكالاته، ولا عبرة بالاختلافات الأخرى بينهما. ومن هذا الحوار العالي )مع الجاحظ، والقاضي عبد الجبار، ومع الفارابي قبلهما (خرجت بلاغة الجرجاني بجناحين: اللفظ، بمعنى التصوير، والنظم، بمعنى ملاءمة التراكيب للمقاصد. لقد حاورهم ثم صنع نسقا لا يخطر على بال أحد منهم، لأنه جاء من منطقة لا يجاريانه  فيها، وهي منطقة النحو بمعناه الموسع، كما هو في الخصائص، وهذا رافد آخر من روافده. بهذه التقاطعات صار الجرجاني صاحب زمن بلاغة الانتشار. فحتى تقليله من شأن الموازنات الصوتية أدى إلى التركيز عليها وخصها بمؤلف مستقل من قبل منافسه المدهبي، ابن سنان كما سبق. الجرجاني واقع في منطقة التقاطع أدناه:

قصيدة افتراق للأديب الشاعر حمودي عبد محسن تمثل قطعة أدبية تحمل في طياتها عمقًا شعريًا مدهشًا. تستكشف هذه القصيدة مشاعر قوية تتعلق بانفصال الحبيبين، حيث يصعب على القلب تحمل تلك الفجوة بين السماء والأرض. يبدع الشاعر في استخدام الصور الشعرية المتنوعة لنقل هذا الانفصال والتناقض العميق بين مفاهيم متناقضة مثل النور والظلام، والسلام والحروب، والحياة والموت. في هذا المقال، سنقوم بتحليل نقدي لبعض العناصر المميزة في هذه القصيدة، لفهم عمق معانيها وتأثيرها الشعري. في هذه القصيدة، نجد صورًا شعرية تعبيرية وقوية ترسم لنا مشهد انفصال الحبيبين بأسلوب مذهل. الصورة الأولى تصف انقسام الشاعر وحبيبته بشكل ملموس، حيث يصعد الشاعر نحو السماء على أجنحة عنقاء، بينما تنزل حبيبته إلى الأرض في ليلة ظلماء بمساعدة أجنحة شيطان. هذا التناقض يعكس حالة الأمل والتفاؤل التي يعيشها الشاعر مقابل تدهور وانكسار حبيبته. الصورة الثانية تجلب لنا منظرًا مائيًا مدهشًا، حيث تصف المياه وهي تُغسل العناصر المختلفة مثل الحجر والصخور والعشب الذابل وأوراق الخريف. هذا المشهد يعبر عن عملية التجديد والتطهير التي يمكن أن تحدث في الحياة والعلاقات. الصورة الثالثة تصف حبيبة الشاعر وكيف تبقى متصلة بالطبيعة والجمال من حولها. ترتسم صورة رومانسية لها وهي تنظر إلى الأعلى وتستمتع بضوء القمر، مما يعكس تفاؤلها ورغبتها في البحث عن الجمال في العالم. أما الصورة الأخيرة، فتكشف عن نهاية نهائية للعلاقة حيث يتجه الشاعر نحو السماء وحبيبته تنحدر إلى العالم السفلي، وهي تُشبه الآلهة عشتار في ليلة ظلماء، وهو رمز للمصير المأساوي الذي تلازم هذا الانفصال. تلك الصور تلقي الضوء على تفاصيل عميقة في نفوس الحبيبين وتجعل القصيدة أعمق وأقوى في تأثيرها. الشاعر يتقن استخدام التناوب بين العناصر المتناقضة في هذه القصيدة ببراعة. يبدأ النص بالتناوب بين النور والظلام، حيث يصعد الشاعر نحو السماء ويتحدث عن النور الذي "يضيء العالم"، مما يمثل الأمل والسعادة. بينما تهبط حبيبته إلى الأرض في "ليلة ظلماء"، مما يرمز إلى تدهور وانقسام العلاقة. يتناول الشاعر أيضًا التناوب بين السلام والحروب، حيث يصف السماء بأنها مليئة بالسلام والمحبة والعناق، بينما يشير إلى تحول حبيبته إلى الحروب والكره والنفاق. هذا التباين يظهر كيف يمكن للحب أن يتحول إلى صراع وتوتر. أما التناوب بين الحياة والموت، فهو واضح في النص حيث يصف الشاعر النور السماوي والأمل كرمز للحياة والتجدد، بينما يشير إلى الظلام والموت والهياكل العظمية كرمز للنهاية والفناء.

" وَإنَّ الصُّبْح لَيَمْلأ الأُفق، ثمّ لا يراه النّائم ومنْ قَدْ أَطْبَق جَفْنه"([1])
فاتحة:
جَعلتُ مُنطلقَ مناقشةِ محمد العمري في كتاب "المحاضرة والمناظرة" ميثاقَه الّذي واثقَ به القارئ بصيغٍ شتّى ترجع في المجمل إلى انتدابه نفسَه لِلتّأسيس في مجال المعرفة البلاغيّة وتحصين تلك المعرفة ومقاومة التّزييف؛ ونظرتُ في ما إذا كانت دعاواه وحججه تأخذ ببعض ما يشترطه ويجاهر به من واجب التّحرّي والضّبط. وقد لَفَتْتُ الانتباه في المقال الأوّل إلى ما فيه من إسقاطات وزيادات وآراء غير مدعّمة وأحكام متسرّعة بتتبّعي لطريقة استعماله لكلام وجيز اقتطفه من "دلائل الإعجاز"([2]). والفقرات الموالية استمرار في بيان وجوه أخرى من الانحراف. والقاعدة عندي - قبل أن أُجري القلمَ في ما سطّره ونشره- أن أورده بنصّه.

1. تقديم محمد العمري لبلاغة الجرجاني:

يَقولُ محمد العمري في الفقرة التّاليّةِ لِكلامه الّذي جعلتُه موضوعَ المقال الأوّل:

«وخلال هذه الرحلة جربَ الجرجاني وصفةَ التأويل العربي لنظرية المحاكاة حيث تم إنزالُ المحاكاة من خشبة المسرح إلى مستوى التركيب الدلالي: التشبيه والتمثيل والاستعارة، وإظهار البعد النفسي التأثيري للمحاكاة بالحديث عن التوهيم والتخييل. طبق الجرجاني هذه الوصفة بتكتم في كتاب أسرار البلاغة متوخيا حل مشكلة الطبيعة النفسية غير الصوتية للكلام. وعندما استكمل تصوره لبلاغة العدول والغرابة اكتشف أنها لا تغطي إلا قليلا من نصوص القرآن، وأن مفهومَ التخييل يلتبس بالكذب(حرج ديني)، فبدأ رحلةً أخرى مستثمرا رصيده النحوي، فأضاف مفهوم النظم إلى مفهوم العدول، وأعطانا كتاب دلائل الإعجاز. وفي هذا السياق ألفَ معاصرُه ابن سنان الخفاجي كتاب سر الفصاحة مقترحا بلاغة صوتية، وهي تغطي المنطقة التي تلافاها الجرجاني، بلاغة الموازنات الصوتية»([3])

تعدّ مجموعة جويس القصصية "أهالِي دَبْلِن" (1914) من  الأعمال العالمية المهمة، فقد ساهم جيمس جويس  في تطوير حَركةِ الحداثةِ في الأدب فِي مطلع القرن العشرين. وتتمحورُ معظم قصص "أهالي دبلن" حولَ سكّان المدينةِ العاجزينَ عن التّغيير – سَواء كانَ هذَا علَى صعيد شخصياتهم أو على صعيد مدينتهم. فالاثنانِ يرتبطانِ ببعضهمَا ارتباطاً وثيقاً – المكان والزّمان والشّخصيّة يتفاعلونَ في فضاء سرديّ متكامل يضيءُ بإشعاعاتٍ ترميزيّة مُتعددة. إذ يعبّر جويس عن إحباط وعجز الشّخصية عن طريقِ الإشارةِ إلى البيئةِ المُحيطة/المكان. ومثال ذلك وصفه لشخصية إيفلاين الّتي ((جلست عند النافذة تراقب المساء يغير على الطريق. رأسها منحني على ستائر النافذة، وفي خياشيمها عبق الكريتون المغبر. كانت مرهقة)) (جويس، 37). فالغبارُ واللّون الأسودُ والرّماديّ والبنّي كلّها تعبّر عن وهن الشّخصيّة، وهذا النّمط يتكرّر في جميعِ القصصِ الجويسيّة. نراهُ في قصّة "متأنقان" التي يبدأها بوصفِ "دبلن" وحُشود البشر فيها من بعيد، ثم تقتربُ الكامِيرا أكثرَ فأكثر من الشّخصيات الرّئيسيّة. ويتميّزُ هذا الوصف بالرّتابة المملّة المكرُورة: ((حط المساء الحار الشاحب من آب على المدينة...))، وأرسلَ ضوء المصابيحِ ((همهمة رتيبة، لا تتوقف في المساء الدافئ المغبر)) (جويس، 51). الـ ((همهمة الرتيبة)) تحاكي جملة ((عبق الكريتون المغبر)) في قصّة "إيفلاين" وكل هذه الصّفات تشيرُ إلى "الشّلل" الذي تعاني منهُ مدينة "دبلن".  

"وَلوْ قيل: هاتوا حَقِّقوا لم يُحقِّق"[1]

فاتحة:

   أُخصِّص الفقرات التالية للنَّظر في قراءة محمد العمري للبلاغة العربية القديمة في كتابه «المحاضرة والمناظرة، في تأسيس البلاغة العامة». وسأسعى ما وسعني الجهد ألّا أنساق إلى التّأويل لاعتبارات تصوّريّة ومنهاجيّة ليس هذا مقام تفصيلها. [2] والفرض الأساسي الذي أنطلق منه وأنظر إلى مسائل الخطاب في ضوئه أن سيرورة الدّليل مفتوحةٌ وغير محدودة لكنها مراقبة بقواعد يضفي"عليها التّاريخ الثّقافي نوعا من الشرعيّة"،[3]مما يعني أن الخطابات والنّصوص إنْ كانت مفتوحة وقابلة لأن تُسعف القراء والمؤولين وتتيح لهم إمكانيات تأويلية غير متناهية فإنها – مع ذلك –تُقيّدهم وتفرض على قراءاتهم أن تراعي أنساقها وسياقاتها.

تزداد قيمة إيراد هذا الاحتراز إذا علم القارئ أن المسعى في الفقر القابلة لا يتعلّق بِفَحْص قراءة تنشغل بتأويل نصٍ ذي بنية منفتحة على نحو قصدي؛ بل يتعلّق بالنّظر في قراءة بلاغيٍّ حديث هو محمد العمري للبلاغة العربية القديمة بِقَصْدِ "مناجزة النّكوص والتّزييف المتناميين في مجال البحث البلاغي".[4]المتوقّع أنْ يحفظ خطاب محمد العمري الفرق بينه وبين خطابات البلاغيين القدامى الذين يلجأ للاستعانة بآرائهم وأن يتجنّب الإسقاط ويستعمل الضبط. إلا أنّ تَتبّع كلامه يُبيِّن أنّه ينزلق من قراءة أقوالهم إلى استعمالها، ويقع في تَخْليطٍ يُلْحِقُ قَوْلَهُ بِقَوْلِ مَنْ يُناجِزه؛ وهو ما لا يُمْكِن أنْ يكونَ"لصالح الطّالب الباحث"[5] وفقا للقصد المعلن عنه في تقديمه للقسم الأول من كتابه.

1.    السياق:

   ألّفَ محمد العمري"المحاضرة والمناظرة" ليناقش دعاوى رشيد يحياوي في كتابه "التّبالغ والتّبالغية" وردودَه على النّقد الّذي وجهه إليه. يقول إنّ دراسته:«مرصودة لشيء واحد، لولاه لم تكن، وهو محاولة بيان موقع البلاغة في هذا الكتاب، والتوتّر الذي أحدثه الجوارُ الذي وضعها الباحث فيه. وذلك بعد الذي لاحظتُه من تعامل المتلقين(من أدنى السلم إلى أعلاه) مع الكتاب على أنه كتاب في البلاغة، وكتاب في الدراسات الأدبية بالتبعية، وكتاب في النقد الأدبي بالسماع ومتابعة الأتباع في «حَلْب السِّباع!». نحاول رفع هذا اللبس لأن السكوتَ عليه يُحَوِّل الكتاب عن مغزاه، من جهة، ويهدد الجهود التي بُذلت، على مدى أربعة عقود، من أجل إعادة الاعتبار للبلاغة، بتنسيقها وتدليلها في حوار بين التراث العربي الغني تنوعا وعمقا، وبين المعطيات المنهاجية التي يتيحها البحث الحديث في الموضوع. نحن نحاور مشروعَ المؤلف كمغامرة علمية مشروعة ومحبذة ولا نُقَوِّمُه، وندافع عن حمى البلاغة ولن نُسْلِمها للمُتوهمين»؛[6] وهو يضع  دراسته بين أعماله الموزّعة بين الكتابة الأكاديميّة الّتي يهيمن فيها الموضوع والمنهج والكتابة التّطبيقية الحوارية البيداغوجية الّتي تكون فيها الهيمنة للمتلقي[7] في منحى ثالث:«يدمج المنحيين السّابقين ويدعِّمهما كلا من جهته: يخوض في القضايا الابّستملوجية المؤسّسة للعلم عامّة، ولتخصّصه حصرا (أي البلاغة التي صارت إمبراطوريّة، واسترجعت صفة العلم الكلي لعلوم الإنسان واللسان)، ويخوض في المعرفة النّسقيّة الدّقيقة للبلاغة العربيّة(وهي تقتضي التّفكيك والتّركيب، وضبط المحيط).

بداية، لا بد من الإشادة بما راكمه، ولم يزل، الشاعر المغربي المجدِّد، العربي الحميدي، فهو صاحب مشروع شعري، يؤمن بثقافة المحو، أي جبّ السابق، وعيش هواجس المستقبل، بذاكرة حية، ترعى أدقّ التفاصيل، وتصون نثار الكامن، بوعي جمالي متوهِّج.
إنه شاعر البلاغة الجديدة، ما ننفكّ نستقي مثل هذا النزوع في جديده الذي يحاول جبّ كل ما هو قديم، ضمن حدود ما يمكن أن نصطلح عليه” نيوكلاسيكية النسخ”، أو بعث الكامن.
بتسليط الضوء على عتبة هذا المنجز الجديد، يتبيَّنُ حجم تغليف أسلوبية المغامرة الشعرية لدى الحميدي، ودائما على المنوال الذي يكرّس لمفاهيم بلاغية جديدة، تثري لغة الضاد، مثلما تخضّب وتخصِّب مدلولاتها.
فبوادر الاستثناء، ليس تنبت سوى في مِخيال الشخصية المتردّدة، أو الذات الشّكَّاكة القلقة، بمعزل عن الاضطراب بالطبع، أو الطّبعْ المرضي، الذي ليس هذا سياقه.
فالشّك” الشعري”، هنا، هو بمثابة النار الهادئة التي تُنْضج حمولات بلاغة التجاوز، وتتماهى مع عوالمها المغرقة في الوهم الذاتي، فينقل الذات، بالتالي من خندق العذابات والمكابدات، إلى ربيع الإبداع، المعطّل لصيرورة الزمن، والمجمِّل للعبور الحالم في كل الأمكنة.
الذات الشاعرة، من خلال هذه الأضمومة، تحصر خوفها في خريف العمر، وأشواط انقطاعه المذيَّلة بفَناء حتمي ومؤكد، وقد تمّ الاستهلالُ بما يفيدُ هذا، وفي ذلك مدعاة للتّمني، بل إنه أشبه بالتجديف الجواني، قصد خلق مخرج، أو منعطف إلى قناعة واهمة أيضا، بالتوحّد مع الموت كلغز وجودي كبير، ضاجّ بكل ما هو فلسفي وعميق.
يقول:

مفضلات الشهر من القصص القصيرة