عنوان الكتاب: النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة.
المؤلف: عبد الرزاق المصباحي.
دار النشر والسنة: بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022.
عدد الصفحات: 160 صفحة.

حقيقٌ بنا الاعتراف، أنَّ الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو Theodor Adorno (1903-1969)، أول من عمد إلى صياغة مفهوم للنَّقد الثَّقافي في الغرب، حيث يعتبرٌ واحدا من أهم رواد الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت Frankfurt School. انْكَبَّ هو وزُمَلاؤه، على تحليل مفهوم "صناعة الثقافة"، معارضين لمفهوم "الثقافة الجماهيرية"، التي توالي "الثقافة الرسمية"، التي يؤيِّدُها النظام السياسي الحاكم، من منطلقٍ، مفاده: أنَّ "الثقافة الرسمية" ماهي إلَّا تعبيرٌ صارخٌ عن البرجوازية، وأحد مُخرجات المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، حيث يتم تحوير مفهوم "الثقافة" لتصبح مجرد سعلة، تخضع للتشيؤ، والأداتية، والتسليع.[1]  كما يندرجُ مفهوم "النقد الثقافي" ضمن مظلة فكرية واسعة، تتبلورُ جميعُها في سياق "الدراسات الثقافية" بصورة عامة، وهي حركية بينية، تتحرك بين أنساق معرفية متباينة، تضم "نظرية الأدب"، كما تتصل بصورة وثيقة بدراسات نقد ما بعد الكولونيالية.[2]

ويكمن الهدف المركزي، الذي يستند إليه "منهج النَّقد الثقافي"، في محاولته إجلاءَ المُتواري في النُّصوص الأدبية والفكرية، مُتناولًا إياه في أنواعٍ مختلفة من الخطاب، ونائيًا بنفسه عن الطبقية في الأدب، من منطلق، أنَّ هذه الرؤية في النصوص الأدبية، لها تأثيرٌ قويٌ سلبي على الأدب، حيث ينبغي التَّعامل مع النصوص الأدبية، على نحوِ جودته، نظمه الحَسَن، بٌغية الحفاظ على قيمة الأدب ورصانته. وعليه تكون المفاضلة التي يستعملها النقد الأدبي، أمر يخدم الأدب، ويقوم بالحفاظ على تكامل ملامحه.[3] ولا يزال إلى يومنا هذا، وما يزال النقد الثقافي إلى يومنا هذا، يثير الكثير من الجدال على مستويات عديدة، كما لا يزال يجابه نقدًا وتشكيكًا في القيمة المُرتجاة منه وكذلك قيمته الإجرائية، إذ يعمد خصومه إلى تشبيهه، بالنشاط الهجين في منهجه، ومقارباته، وفلسفته، واختلاطه بعلوم شتى، وهو وفق منظورهم من دون هوية، ويجمع في جوهره مناهج تحليل متضاربة إلى حد التناقض، دون أن يكون النُّقاد الثقافيون قادرين على التأليف المنتج بينهما. (ص 9).

زيارة عابرة، هلوسات من زمن الكوفيد، مجموعة من النصوص أو أضمومة، تتوزع على (...) نص يجمع بين الرصد والتخييل، تحاول من خلالها الكاتبة رصد واقع حال الأزمة الصحية الكارتية التي أصابت العالم و شلت حركته.
أول ما أثارني و أنا أطالع نصوص هذه المجموعة من النصوص عن الكوفيد وتجلياته، أننا إزاء كاتبة تميل في كتابتها إلى السرد على شكل الحكاية، نصوصها تتسلسل فيها الأحداث مُشوّقة بأسلوب بلاغي والفاظ معبرة ذات شحنة عاطفية و في نفس الوقت حاملة لرسالة.
كل نصّ من زيارة عابرة يسرد لنا حكاية من زمن الكورونا بطريقة مختزلة ومكثفة.
تبدأ الحكاية عن المنبع الأول لهذا الوباء في" الصين" وتسرد الكاتبة بشكل دقيق أثر الحجر المشوب بالانتظار والاحساس بالخوف، تجربة قاسية سببت شللا عارما لكل أشكال الحياة. أسلوب يتخلله التشويق، نستمتع من خلاله بالاسترسال في قلب صفحات الكتاب بشغف لجمال الأسلوب ورُقيه.
في أول نص، تضعنا الكاتبة في الإطار العام لحالة الوباء الذي شل العالم، راسمة لوحة تجسد من خلالها ما آل إليه الوضع، واصفة بدقة وحرفية عالية واقع الكوفيد وآثاره النفسية والاجتماعية حين انقطعت الصلة الفيزيقية بين الناس وعوضتها وسائل التواصل الاجتماعي، تقول " مشهد فرضه الكوفيد وجعل الفضاء الأزرق نقطة ضوء نُطلّ منها على العالم الذي تجمّد فجأة وبدون سابق انذار، حيث أصبح التماس محظورا والعزلة قانونا. لحظتَها استسلمت الى الوحدة داخل صمت العالم"، وتسترسل في اسلوب شيق عن معاناة الإنسان في زمن الكوفيد، عن الرعب الذي ينذر بمستقبل مجهول، لتنهي النص بالأمل المفتوح على "غد يندثر فيه الوباء".
بعده تبدأ المشاهد في التواتر وملامح اللوحات النصية تؤثث فضاء الأضمومة.

مدخل:
منذ وُجِد الإنسان وُجِد القتل، فكان أبشع فعل دالّ على رفضه للاختلاف، وخضوعه لمشاعر الغيرة والحسد والحقد، وسعيه إلى نبذ الآخر وإقصائه، كأن الآخر فعلا هو الجحيم، كما قال سارتر.

ومنذ جريمة قابيل ضد أخيه هابيل ظل تاريخ البشرية سلسلة متلاحقة من جرائم القتل، لا تكاد تتوقف إلا لتُستأنَف. بل إننا عرفنا، عبر تاريخنا الذي اقترن بتاريخ الجريمة، أنواعا مختلفة من القتل، بأسماء متعددة، والمسمّى واحد. فظهَر القتل العمد، والقتل الخطأ، والقتل الاضطراري، والقتل الرحيم... ناهيك بالحروب المدمِّرة التي تأتي على الأخضر واليابس، وتقضي على الجاني والبريء على حد سواء.

تشتغل قصة "الغراب" للأستاذ مبارك السعداني على موضوعة القتل. فالعنوان، بما هو عتبة أولى للنص، يحيل في الموروث الديني والشعبي على الموت. لذلك يتشاءم البعض من الغراب ونغيقه، وتنقبض نفوس البعض الآخر عند رؤيته، وتنفر من سواد لونه.  وهو يحيل كذلك على خاصيتي المكر والذكاء، إذ أثبتت بعض الدراسات الحديثة أنه أذكى الطيور. كما أن العرب كانت تسمي الرجل الذكي، منذ القديم، غرابا.  

أولا: المتن الحكائي:

المقصود به الحكاية، كما وقعت فعلا، أو كما تخيلها الكاتب. ويَعتبر الشكلانيون الروس أن المتن الحكائي "يثير في الذهن واقعا ما، وأحداثا قد تكون وقعت، وشخصيات روائية تختلط، من هذه الوجهة، بشخصيات الحياة الفعلية."[i] فالمتن الحكائي، بهذا المفهوم، لا يعدو أن يكون القصة بمكوناتها المعروفة، من حدث، وشخصيات، وزمان، ومكان، تتصل في ما بينها، وتتداخل، وتتكامل لتشكل الحكاية.

تنفتح القصة التي نحن بصددها، بإحالة على حكاية الغراب، وهو يواري جثة أخيه في التراب، كما روتها الجدة لحفيدها، محاوِلةً بذلك أن تغرس في نفسه اقتناعا راسخا بأن أباه مات مسموما من قِبَل شقيقه. ثم نكتشف عبر تداخل الأحداث، وتشابك السرد أننا إزاء عدد من الجرائم المتتالية، انعكست آثارها على الجدة، حتى غدت مسكونة بشبحها، وصار كل موت لديها، ولو كان طبيعيا، يخفي وراءه جريمة قتل.

الجريمة الأولى: مقتل والدها، وهو "رجل قوي العزيمة، قال "لا" لغطرسة أبناء عمومته، فوضعوا حدا لحياته غدرا..." والباعث على قتله هو تمرّده على سلطتهم، وتحديه أعرافهم وتقاليدهم، وتَحالفُه مع أسرة أخرى منافسة لهم، فكاد له (الأعور) المعروف بجوره، وقضى عليه.

يستهل الدكتور الهادي الهروي كتابه الفخم، بتمهيد  رائع يبين فيه  القواسم المشتركة بين الروائي والسوسيولوجي، من حيث علاج ظواهر المجتمع، فالأول يعتمد في أسلوبه الخيال والرؤى، والأصباغ اللغوية  من المحسنات البديعية؛ بينما الثاني يعتمد التحليل المنطقي، من قياس وتمحيص  بآليات علمية ومناهج دقيقة؛ والقواسم المشتركة بينهما، هي كل منهما يوجه بوصلته إلى المجتمع  والنشاط الإنساني، والجوانب الأخلاقية، والتفاعلات الميدانية والتصرفات، والتنظيمات، والتيارات الدينية، والجَمعِية؛  ما يفرق بينهما أن الرواية إبداع فني ، والسوسيولوجيا اشتغال علمي، لكل منهما مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة..

الكتاب موسوعة كبرى  صدر عن مطبعة(( روافد )) للنشر والتوزيع / القاهرة  صمم غلافه رائد مجدي، حدده كاتبنا في 346 صفحة، شملت عدة أقسام  وفصول وعناصر كبرى وعناوين صغرى، وجّه فيه كاتبنا بوصلته إلى نخبة من الرواد الروائيين العرب والمغاربة، واقفا بعمق على النصوص شكلا ومضمونا، محددا القيم والقضايا التي يعج بها عالمها  السردي .. متسائلا في الفصل الأول عن دواعي كتابة الرواية، هل هي امتداد لما هو تاريخي، أم هي نتاج احتكاك بالأدب العالمي؟؟؟ فاستخلص إلى أن الرواد الروائيين سواء المغاربة أو العرب  تشبعوا بثقافات مختلفة، فنهلوا مما هو إسلامي وفارسي، وكلاسيكي، وأدب الرحلة، والأفكار الفلكية القديمة، وغيرها من روافد ثقافية واسعة دينية /تاريخية/ علمية، صوفية /خرافية/ فولكلورية/ غزلية... وأغنوا أساليبهم بالإبحار في المعاجم الزاخرة بالمعلومات، مما وسع خيالهم، فصقلوا ملكتهم الروائية شكلا ومضمونا.. وليوضح الكاتب بالضبط المنابع التي تشبع بها روادنا الروائيون، استعرض نماذج من الكتاب القدامى، وعينات من المواضيع المدرجة في الأدب، المتشبعة بالثقافات والمؤثرات العربية والفارسية، لينتقل بنا إلى المؤثرات الغربية في الفصل الثاني ..

التعريف بالكاتب:
محمد الحيرش من مواليد مدينة تطوان سنة 1963، وهو أكاديمي وباحث مغربي. متخصص في اللسانيات والتأويليات، يشغل حاليا منصب أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة عبد المالك السعدي. حاصل على دكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها  سنة 2009 بعنوان " تفسير النص وتأويله في علوم القرآن: دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة "، له العديد من الأبحاث والمقالات المنشورة في دوريات ومجالات متخصصة، ويشغل حاليا مدير مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية في كلية الآداب تطوان.

التعريف بالكتاب:
يعد كتاب " النسق والاستعمال " من أهم الكتب التي ألفها الدكتور محمد الحيرش، وهو كتاب صادر سنة 2021 في طبعته الأولى عن دار فاصلة للنشر – طنجة - يقع هذا الكتاب في 332 صفحة، يتضمن بالإضافة للتقديم والفهرس قسمان اثنان وثمان فصول معنونة كالآتي :

  • القسم الأول : لسانيات اللغة الأصول النظرية والمنهجية
  • الفصل الأول : اللسانيات والنزعة التاريخية
  • الفصل الثاني : اللسانيات والنزعة العلمية
  • الفصل الثالث : اللسانيات والنزعة الوصفية
  • الفصل الرابع : اللسانيات والنزعة المعرفية
  • الفصل الخامس: اللسانيات والنزعة الوصفية الجديدة
  • القسم الثاني : من لسانيات اللغة إلى لسانيات التواصل
  • الفصل السادس : لسانيات التداول
  • الفصل السابع : تداوليات الأفعال
  • الفصل الثامن : لسانيات الحوار

قراءة مفاهيمية لبعض مفاهيم الكتاب:

لكي نفهم محتوى الكتاب الذي نحن بصدد إجراء قراءة فيه، لابد أولًا من تقديم قراءة لبعض المفاهيم المركزية التي يؤسس عليها الدكتور محمد الحيرش  موضوعاته في الكتاب، وهي كالتالي:

أولًا: مفهوم لسانيات اللغة : وهو مفهوم مركزي ضمن هذا الكتاب حيث يعتبرها محمد الحيرش لسانيات علمية صارمة تتعامل مع اللغة بما هي نسق مستقل عن كافة الشروط والملابسات الخارجية التي تحيط به كالذوات المتكلمة أو السامعة، والمجتمع والثقافة، والمقتضيات الزمانية والمكانية. وهي نوعان من اللسانيات: الأولى تعمل الوصف والاستقراء في تقعيد اللغات الطبيعية من جهة، والثانية التي تعمل التفسير والاستنباط ، الأولى تسمى وصفية كما أرسيت مع فرديناند دوسوسير وورثته من البينيويين، والثانية اللسانيات التفسيرية كما طورها تشومسكي وتوسعت مجالات اهتمامها مع أتباع المدرسة التوليدية. كلا النوعين ارتبطا بمقتضيات النزعة العلمية التي نادن في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بوجوب استقلال العلوم بذاتها وتحديد موضوع كل منها، فكان الاهتداء إلى موضوع مستقل تنفرد به اللسانيات ومنهج علمي يضفيان عليها صفة العلمية.

احتضنت قاعة مسرح مدينة الثقافة والفنون بأسفي مساء الأحد 22 يناير 2023 عرضا لمسرحية "مقال افتتاحي" لفرقة "حوار" في إطار الجولة التي تقوم بها الفرقة دعما من وزارة الثقافة والشباب والتواصل قطاع الثقافة... المسرحية من تأليف محمد زيطان، تشخيص كل من هشام بهلول في دور حمزة العرفاوي، حسناء المومني ي دور الصحفية فريدة، حنان الخالدي في دور الفانة التشكيلية كنزة زوجة الطاهر الخشباوي، وعبد الله شيشة في دور نادل بالمقهى...
نشير في البداية إلى أننا سنكتفي بملامسة العرض المسرحي المقدم للجمهور في تلك الليلة بعيدا عن النص المكتوب ولغته وحواراته، من خلال عشر ملاحظات سريعة نطل من خلالها على مضمون المسرحية ورسائلها وبعض الخصائص الفنية. وهي ملاحظات متفرج شاهد العرض لأول مرة، ولم يقرأ النص ومن تم فهي ملاحظات آنية ظرفية وليدة المشاهدة الأولى، ليست تقويما أو تقييما للعمل، بعيدة عن أحكام القيمة عسى تكون محاولة لإثراء النقاش حول عمل مسرحي استقطب جمهورا غفيرا تفاعل بإيجابية مع العرض وصفق كثير للتشخيص، وقد تتغير هذه الملاحظات بعد مشاهدة ثانية أو قراءة متأنية للنص:

مقدمة
الإبداع مهما كان نوعه شعرا، أو سردا، أو غناء، أو موسيقى، أوفنا تشكيليا، لا يأتي من فراغ، وإنما من أربعة أشياء أساسية لا خامس لها:
ـــ أولها اطلاع المبدع على تجارب مختلفة، وما لملمه من الغيْر عبرَ قراءة الكتب والصحف؛ وما تبثه مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام من منشورات ثقافية متنوعة..
ـــ ثانيا ما ورثه المبدع عن أجداده من ثقافة شعبية مختلفة المواضيع، عبر الحكي الشعبي والأمثلة، ومنثور الأقوال والحكم، والقصص الخرافية والأساطير والحكايات الخيالية..
ـــ وثالثا من احتكاك المبدع بالواقع، وتوغله في جوهر الأشياء، وتأمله الواسع لحيثياته وتغيُّراته، وما يجري فيه ..
ـــ رابعا وأخيرا، ملكة الإبداع أو الإلهام، الذي يجعل الفكرة تلتمع في الأذهان، فيذكيها المبدع ويثريها بالعناصر سالفة الذكر...
وشاعرنا كغيره من المبدعين، لم يدخل مغامرة الإبداع من أجل الحيازة على لقب شاعر، ولا رغبة عن طيب خاطر لكتابة الشعر، وإنما شيء ما أشعل مشاعره وأجج عاطفته، فأجبره على أن يكون من حمَلة القلم والبياض، لينفذ برأيه الثاقب في الأوضاع الموبوءة ويقول كلمته ..
1ـــ الحرف يحقق الكينونة
حلقت الأيام بالذات الشاعرة، فأصبحت تائهة تتشابك الطرق أمامها، وتلوح في أفقها الأشباح، مرت فترة من الزمن وهي تتخبط خبط عشواء، فعادت بها الذاكرة إلى الحرف، إلى الشعر، حيث الخيال يطير بها عبر مفازات الكون، لبناء عوالم تريح النفس، فتحقق الكينونة، ويصبح لها حيز جغرافي في الوجود يعترف بها التاريخ، تاركة بصمة ذهبية في عنقه.. والحرف كما يعلم الجميع لن يأتي على طبق من ذهب بسهولة، أو بقدرة قادر، ليصبح المرء بين عشية وضحاها شاعرا، وإنما هو إلهام يدغدغ الذهن حين تعتصره المشاعر من الدواخل؛ وتأملات ثاقبة تناغمت مع اجتياح الخيال، لتتوغل في عوالم الأشياء، نافذة في عناصر الوجود، ملامسة الجوهر، حيث في بهو الحرف، تستأنس بمتعته، بمحاورته، بالإنصات إلى ترنمه، وشطحاته ..

1ـــ مقدمة
أول ما أستهل به قراءتي المتواضعة عتبة العنوان "سحر البحر " كعلامة سيميائية لها وظائف متعددة ، تخص أنطولوجية النص ومحتواه، وتداوليته في إطار سوسيو ثقافي، كتعريف وكشف له، وهو الباب الأول لاقتحام المضمومة، والعنوان" سحر البحر " مركب من خبر لمبتدأ محذوف ومضاف إليه كجملة تامة المبنى والمعنى ...وكلمة سحر تتعدد معانيها لغويا، فهي تعني :جلب العين بدهشة ،أو عمل من أعمال الشيطان الذي يُذهب الصحة ،ويُحّول الشيء عن حقيقته، أو تعني الخديعة والغواية، غير أن مبدعنا يتناولها بشكل رمزي في إطار الإعجاب والافتتان بالشيء والروعة التي عليها البحر، لكن لا يقصد البحر العادي بأمواجه الخلابة وشاطئه ورماله الذهبية، وإنما عالم الشاعر المتقد بالتنوع : العشق ــ الحب ــ الموت ــ الحزن ــ الهلوسة ــ بل الكون برمته وما يحتويه من جمال ورونق مطليين بالقبح والتلوث.. وهي رؤية تفاؤلية /تشاؤمية في نفس الوقت لإجابية الحياة والكون مهما اعتلتهما من قضايا إنسانية شارخة، ومهما توسّده الكاتب على سريرها من مخدات الجمر والبؤس والألم ، وسلبيتهما حين اقتحمت الرؤيةَ بالسوداوية والقتامة.. فعين الكاتب مشرقة على الحياة، تراها وردية مزهرة تارة، وأخرى تُوشحها قيَم سائرة نحو المنفى، فكانت تلكُم شوكة حادة وخزت حِس الكاتب، ليزرع في واقع تَلبّد بالإبهام والغموض والمتنافر الأبهى والأروع من الإبداع "رواية "سحر البحر "..
استهلت الرواية بدفقة شعرية واسعة الدلالات كفاتحة، كأنها تناسلت من شعر أبي تمام، بضروب من المحسنات، تتلاطم ألفاظها وتشتق في جَدَلية لامحدودة، تنطق بصور شعرية بديعة، مكتنزة بالرمزي والإيحائي والمجازي والاستعارة، ليفتح شهية القارئ بلقطة، يعانق فيها الأشياء، ماحيا المسافات بينه وبينها، فانصهرت الذات الشاعرة والذات السردية في توحد عميق، بلغة متينة وصياغة مائزة، ترقص على وتره العازف لتقول ما لم يكن مألوفا ...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة