ظل النقاد العرب الذين تناولوا بالدرس والتحليل أو مجرد الشرح لمقامات الحريري يحتفون بالجانب اللغوي والبلاغي البحت فهي بحق مدونة لغوية تحتوي شوارد العربية وألفاظها الفصيحة التي شكلت المخزون اللغوي للشعر القديم ناهيك عن فرائدها الأدبية واستعاراتها البليغة وأمثالها وفرائد النحو والبيان إنها باختصار ديوان شامل للأدب والثقافة العربية الكلاسيكية في عنفوانها ولهذا احتفي بها وظلت تدرس في حلق الجوامع والمعاهد الأدبية، وإذا كان ابن خلدون يقول (إن أصول هذا الفن-أي الأدب- وأركانه أربعة دواوين وهي أدب الكاتب لابن قتيبة ، وكتاب الكامل للمبرد، وكتب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتابع لها وفروع عنها) .
هذه الكتب أو الدواوين كما أسماها ابن خلدون وشيوخه غدت أركان الأدب وأصوله ينبغي على كل ناشئة متأدب أن يلم بها درسا واستظهارا لتستقيم له الملكة الأدبية، فإن مقامات الهمذاني أخذت نفس الاحتفاء وغدت أصلا للبيان وللإنشاء العربي ينبغي على كل متأدب سائر في طريق الكتابة أن يلم بها درسا وفهما وربما حفظا.

تقديم استهلالي
علاقاتي التأمليّة مع سبخة السيجومي، ليست وليدة الآن، بل كانت طقسا خاصا، يلازمي كلما تستقبلني مدينة تونس (مفترق المرناقية-تونس). كنت اراها كالبحر، ثم في مرحلة دراستي بكليّة الآداب والعلوم الانسانية 9 أفريل بتونس، حيث طوابقها العليا تشرف على سبخة السيجومي، مشهد فاتن يحيلني على شعرية الـتأمّلات في ظلّ صرامة السوسيولوجا. دأبتُ على أن اتأمّل السبخة في اوقات مختلفة، في الصباح في الظهيرة وعند المساء وفي الليل. وها هي، تلك التأملات، تنبعث من جديد بين ذهاب واياب حيث أمر غالبا من سبخة السيجومي وأشرف على امتداد مساحاتها من قريب. لا أعرف هل هذا الاحساس اشترك فيها مع أغلب من يمرون من هنا ام لا؟ اذن، هي مقاطع بعضها كان محبرا على هامش محاضرات عدّة اساتذة من كليّتي -في التسعينات- راحت الان مخيلتي تتكاثف وتتداعى من كان يتوقع في تلك اللحظات من الزمن أنّي سأستعيد الآن تلك الخربشات واللحظات الشاردة والشريدة؟ فأسترجع وأضيف لها كتابة أخرى. هي دوما هذه لحظات شاردة شاهدة ان الكون يسكنني. (سبخة السيجومي من شارع 9 أفريل 1938 تقع في دائرة مدينة تونس ، ويتراوح ارتفاعها بالنسبة لمستوى سطح البحر بين 8 و10 أمتار. الولي الصالح هو حسين بن عطية بن إبراهيم بن عبد الله السيجومي توفي في أوائل ربيع الأول سنة 624 أحد تلامذة أبي الحسن الشاذلي (انجزت عنه شهادة في الكفاءة في البحث في 9 أفريل 1993) ه )

هناك علاقة عضوية بين النقد والايديولوجيا، وأعني بالأيديولوجيا ليس فقط المنظومة الفكرية، انما القدرة على الربط بين الثقافة والمجتمع، بين الثقافة والانسان. وهذا هو الغائب الكبير عن الممارسات النقدية وعن فكرنا وثقافتنا عامة!!
ان الثقافة بمسارها التاريخي، ابداعا او نقدا، شكلت ظاهرة اجتماعية ودافعا لإثراء الوعي الثقافي والفكري للإنسان. والنقد هو أحد الأدوات الهامة في هذا الفعل. وهنا لا بد من التأكيد ان النقد هو مدرسة للتوعية وليس مجرد مديح او ذم.
للثقافة النقدية مدلولات ابعد كثيرا من مجرد الابداع الأدبي، الأدب هو الجانب الروحي للثقافة، والثقافة بمفهومها التاريخي تشمل الابداع المادي ايضا، أي انجازات الانسان العمرانية في الاقتصاد والعلوم والمجتمع والأدب والسياسة، وهذا يُحمل الناقد على الأخص، وكل المبدعين في مجال الثقافة الروحية، مسؤولية كبيرة ان لا يغرقوا في المبالغات المرعبة في بعدها عن الواقع، تماما كما في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أي الالتزام بفن الممكن ومعطيات الواقع، بدون مبالغات باسم الثقافة والنقد الأدبي واثارة الأوهام بالوصول الى القمة الابداعية من اول غزوة، خاصة لدى الأدباء الناشئين... واضيف لدي غير الناشئين أيضا كما نعاني في ثقافتنا ونقدنا!!

" .. لكني ما لبثت أن اضعت صوت الولية فيحاء في زحمة الصيحات من حولي واشتداد وقع الخطى والأحذية المصفحة .. " (ص:361)
هل أضاع " زين شامة " صوت الولية فقط ؟
1 ـ نهاية لبدايات متعددة ..
تلك نهاية الرواية " زين شامة .. المعطل بينكم " للروائي بنسالم حميش، نهاية جمعت الرواية وفتحت لها ـ من جديد ـ بدايات تطل على الآتي.. الآتي الذي يتتبع الخطى.. خطى الذين صنعوا وانصهروا مع أحداث الرواية، وبنوا فضاءاتها وأحداثها، مداخلها ومخارجها وأسرارها، آلامها وآمالها.. أو الآتي البكر الذي لا يزال في رحم التكوين التخييلي في ذهن القارئ الذي أنهى الرواية، ليعيد إنتاجها ببناء خاص، يكون امتدادا لنهاية فتحت للآتي هوامش الإبداع والمغامرة والانطلاق..وبما أن القراءة وجه آخر للكتابة، وخوض لغمار لعبة السرد، كتابة أو تخييلا أو تماهيا..فإن القارئ الذي تعول عليه الرواية / القراءة لم «يعد مجرّد مستهلك للنص بل أصبح مشاركاً فيه بصوره أو بأخرى»(1)

"عبور" عنوان للمجموعة القصصية الأولى لآمال الحرفي، مجموعة صادرة عن الراصد الوطني للنشر والقراءة سنة 2021، وتضم عشرة نصوص، تسافر بالقارئ إلى مختلف دروب الحياة، عبر أمكنة متنوعة، تعيد الذاكرة بناءها باتساق وانسجام مع الزمن الذي تجري فيه الأحداث. إن الأماكن ليس لها وجود محايد ومستقل، بل تبنى وتستكشف باللغة، بالرمز والاستعارة...، غير أنه قبل التوقف عند هذه النصوص، يجدر بنا أن نواجه عنوانا لا يمكن تجاوزه بيسر، عنوان يسائل مخيلة القارئ، عنوان يخفي، يحجب ويضمر أكثر مما يصرح، ويبوح. " عبور"، عنوان يضعنا منذ البداية في قلب الحيرة و التساؤل:
بأي معنى "عبور"؟ هل هذا ال"عبور" تم وانتهى أم هو سيرورة مستمرة لا تنتهي؟ كيف يتم، من أين وإلى أين؟ هل هو " عبور" فيزيائي أم نفسي أم هما معا؟
لاشك أن القصة، تعد من الأجناس الأدبية الأكثر اقترابا من الواقع ولتفاصيله المنسية، تنصت لشخوص، وأمكنة الهامش والمركز، لا، إن القصة لا تصنت فقط، إنها لا تكتفي بالحقائق الظاهرة فحسب، إنها توغل في التنقيب والتساؤل، بل والاستنطاق أحيانا. إن الحقيقة ليست متروكة على السطح، تنتظر من يضفر بها، إن قولا كهذا سيكون ساذجا. تعيد القصة تركيب اللحظات الهاربة، اللحظات التي تنفلت جراء رتابة اليومي وتكراره، التكرار الذي يجعلنا نعتقد أن كل لحظات المعيش تلك، لحظات بديهية لا تستحق التوقف والتأمل، ولكن القصة، القصة الحقيقية، تدهشنا عندما تعيد تركيب كل هذه التفاصيل بصورة نراها، وكأننا نشاهدها للمرة الأولى، إن القصة، والأدب الحقيقي عامة، يدفعنا للتعرف على أنفسنا عن طريق المزج بين الواقعي والخيالي، مزج يعيد تركيب الحقيقة الهاربة.
الذاكرة

إذا كانت اللغة أساس إقامة الانسان، حسب صاحب " الكينونة والزمان"، وإذا كان هولدرلين يعتقد بأن الشعر أسمى تجليات الفعل الجمالي، فإن شاعرنا، ينحت حضوره الشعري على نفس الإيقاع، إذ يعتقد بأن الشعر أصل كل فن وإبداع، وبأنه تجربة مفتوحة على المجهول واللانهائي؛ ألم يقل هولدرلين: " أيها الشعراء، كونوا أحرارا كالسنونو"؟
يعتبر الشاعر "صلاح بوسريف" صوتا شعريا، قدم إلينا من عقد الثمانينات من القرن الماضي، السلسلة الثالثة من المشهد الشعري المغربي المعاصر، مخترقا أفقا مختلفا عن شعر الستينات والسبعينات المثخن بالشعارات السياسية. كان اسمه ولا يزال انعطافة مختلفة في مسار الشعر المغربي والعربي المعاصر، كما قال عنه الناقد " نجيب العوفي". بكثير من وله الشعر يرتل قلقه الوجودي، يصطاد المعنى على أشجار عدة مرجعيات: فكرية، وفلسفية، وصوفية؛ ليخلق كينونته الشعرية المتفردة، التي لا تنأى عن سؤال الحداثة الشعرية ومزالقها وغواياتها. يقول مع لوركا: " أكثر الأفراح حزنا، أن تكون شاعرا. كل الأحزان الأخرى لا قيمة لها حتى الموت ". لا يكتمل الهلاك إلا به وعبره. في شكه وتساؤلاته، شيء من حق الشاعر في النص المختلف، لخلق الشغف والدهشة نافذتا الشعر الحالمتين.
شاعر مَشَّاء؛ خَبِرَ رعشات الكتابة الشعرية، ذلك النص المكتنز، الكثيف والشفاف، فكان ديوانه الأول: فاكهة الليل سنة 1994. لم يدركه موسم الهجرة إلى أي جنس أدبي آخر، لم يعتبر الشاعر صلاح بوسريف الشعر تمرينا: شعر فقصة ثم رواية؛ فكان مكوثه المشتهى في محراب الشعر عنوانه الذي يراهن عليه، والذي حاكه بإبدالات أنعشت تجربته الشعرية المتجددة باستمرار.

لا تهدَأ الحركة حول مبنى تاريخي قديم وسط العاصمة الأسكتلندية أدنبره منذ الصباح وحتى وقت متأخر من الليل. رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار يتوافدون على "بيت الفيلم" لمشاهدة عروض سينمائية، أو المشاركة في إحدى ورشات العمل والندوات، أو استخدام مقهى المبنى لتناول إحدى الوجبات وعقد اللقاءات بين الأصدقاء. ثلاث قاعات صغيرة للعروض السينمائية، ومقهى صنع حالة ثقافية على مدار العام في المدينة، ويستضيف أقدم مهرجان سينمائي مستمر حتى الآن منذ عام 1947، وهو مهرجان أدنبره السينمائي الدولي. إذ يمثل "بيت الفيلم" -كمؤسسة خيرية- حالة للدور الذي تقوم به السينما الشعبية في مواجهة السينما التجارية.

تعرض المؤسسة أيضا أفلاما قديمة وحديثة، وتستضيف مهرجانات سينمائية محلية على مدار العام، مثل مهرجان السينما الإيرانية ومهرجان السينما الإسبانية، كما تقوم بدور في توزيع الأفلام على دور العرض الأخرى في بريطانيا. وعلى بعد أمتار في شارع لوثيان ذاته بأدنبره، تقع دار سينما حديثة تعرض الأفلام التجارية الموسمية، ليجد الجمهور نفسه أمام مشارب متنوعة للثقافة البصرية عبر عدة أماكن تلبى احتياجات كافة الأذواق. وكان مشهد دخول وخروج الممثل الهوليودي الراحل شون كونري ابن مدينة أدنبره إلى مقر "بيت الفيلم" خلال مهرجان أدنبره السينمائي الدولي، أحد الأحداث المميزة المتكررة التي تبين الصلة والجسور بين السينما التجارية التقليدية والسينما الشعبية.

صدر حديثا عن منشورات دار التوحيدي، وفي أول إطلالة على المشهد الثقافي، رواية "زهرة اللأرنج" للكاتبة والفاعلة في مجال البيئة المغربية حسناء شهابي. الإصدار، رواية بصيغة المؤنث، والكاتبة امرأة والعنوان "زهرة". يبدو التأمت نون النسوة في تشكيل نص قامت بإخراجه الكاتبة حسناء شهابي، عن محكيات وأسرار لا تقف عند حدود.. فقط محفل الجسد، يجعل الجميع يدور في حلقة دائرية تبدو أشبه ب"شظايا" قصص.
التقيت بالرواية، وساردتها، صداقة النص، سابقة عن صداقة الكاتبة، وفي هذا سر للحاء الرابعة... ألم تطلب الساردة منا جميعا، قراء على اختلاف مرجعياتنا الجنسية، أن لا نسألها ما المقصود بالحاءات الثلاث (ص180)، هناك وعد من الساردة أن يكون الرد عند نهاية الرواية، ومادمت القارئ هنا، فإني أحتفظ بما فهمته جوابا وإيضاحا لنفسي، لكني سأخبركم، عكسها بالحاء الرابعة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة