I. الكتابة وتَمَوُّجَات المعنى:
لن تغدو الكتابة فِعْلاً ألِقاً ومتوهِّجاً إلا إذا انْوَسَمَتْ بخصوبة في التفكير، وتميزت باستراتيجيتها في تَطَارُح القضايا، وجِدَّة منظوراتها في طَرْقِها ومُناولتها. نفهم من هذا الكلام أن الكتابة نمط تفكيك، وموقف فكري قُصُودُه النَّبش في اللاَّمَقول، وتقليبه في كل أوجهه هَدَفاً إلى تقديمه أمام القارئ انفعالاً للنظر.(الخطيبي: النقد..ص. 189)
ذلك أن الكتابة، فضلا عن كونها نشاطا مفتوحا داخل قبيلة الكلمات، هي التزام مع الذات، وميثاق بين صاحب النص وقارئه. ميثاق لا يكون المتلقي بمقتضاه منفعلا، منصاعا لمحمول النص (ح.بركات: ص: 153) وإنما متفاعلا معه إلى أبعد الحدود عبر اختراقه بالاستفهامات الحَيَوِيَّة المُحَرِّكة لأوتاره الدَّفينة الحَاِجِبة للمعضلات الكبرى التي يَمُورُ بها المجتمع (الخطيبي: المغرب.. ص: 122)
ولعل هذا، فيما أُقَدِّر، هوالرهان الذي تنتظم حوله حَرَكِيَة الكتابة الأدبية عند الأستاذة " انتصار حدية"، وتحديدا عملها الروائي المنشور تحت عنوان « الغريبة».

II. « الغريبة »: من العنوان إلى النص
«الغريبة» هو ما اقترحه الأستاذ «أحمد جوهري» تعريبا للنص الأصلي ‘L'Inconnue’
يتضمن نص «الغريبة» 190 صفحة مُوَزَّعة على 28 فصلا تَتَصدَّرها ديباجة نقدية هي من إنجاز الترجمان نفسه فضلا عن الخاتمة.
نَنْبَرِي بدءا للعنوان من خلال القاموس فنقرأ: من الجذر العربي:غ . ر. ب. اشتق الغريب / الغريبة: الرجل والمرأة البعيد« ة» عن الأهل. والغريب / الغريبة البعيد عن الفهم والوضوح، والغامض واللامألوف. وهو أيضا من ليس من القوم، ومن لايمُتُّ إلى الحارة، والأسرة، والبلد بأية صلة. إنه المجهول وغير الجَلِيٍّ.( القاموس المحيط +المنجد) وهو الخَفِي كذلك واللَّامُحَدَّد الذي يُطْمِرُ أسراراً يَستلزم الأمر سبْرُ أغوارِها، والحَفر في بَوَاطِنِها (قاموس روبير الفرنسي.)

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، المسلمة والعربية في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي. وهي جريئة لأنها اهتمت بالذات بعذرية الفتاة التي تعد إحدى أهم طابوهات مجتمعات الشرقيين والمسلمين. ولهذا ليس من الغريب أن تجلب إهتمام المفكرين والنقاد حيث كتب عنها الاستاذ إبراهيم البليهي مؤكداً على أهميتها وتأثرها بكتّابٍ أوروبيين وعرب عقلانيين مثل شكسبير ونجيب محفوظ والعروي وبن جلون وآخرين، ويرى أن “نهاية سرّي الخطير” تتميز “بمعالجة عقلانية باهرة لقضية ثقافية وإجتماعية شديدة التعقيد”. ص 5. كذلك كتب عنها الدكتور خليل إبراهيم حسونة والكاتب أحمد محمود القاسم ويوسف عز الدين والأديب والشاعر عبد الكريم الكيلاني و د. عبد العلي جبار و د. يوسف الكايدي. وأحاول هنا تسليط الضوء على بعض جوانب هذا العمل الجاد من خلال قراءتي الشخصية لها. يقوم معمار هذه الرواية على صيغة سردية قديمة: لقاء- فراق ومعاناة – لقاء ونهاية سعيدة من خلال ستة عشر فصلاً، يبدأ بالأول بعنوان “أشهد أنك عذراء” مثير ومقلق ويوحي بمضمون معقد، وينتهي بالأخير “وعادت شهرزاد إلى فاس” عنوان رحب يشير إلى نهاية سعيدة بعد أقل بقليل من خمسمائة صفحة. تعتمد هذه الرواية على موضوعة مهمة للغاية إذ إن البطلة المراهقه غاليه تتعرض لشيء بسيط جداً لو كانت تعيش في بيئة عائلية ومجتمعية متفتحة، لكنه هنا حدثٌ “لا يرفع رأسها” وتخشى منه: قطرة دم تنزف منها على ملابسها الداخلية. تُخبر غاليه اختَها غير الشقيقة “العنود” بالأمر، التي تقول لها بعد أن "بتسمت إبتسامة خبيثة…لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قالت غالية وجسمها يرتعش: سر خطير؟ ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيباً؟ وسراً خطيراً هل، هل، توقف الكلام في حلقها وانفجرت تبكي، وإذا بأختها تمسك بيدها بقوة تجرها إلى الحمّام غسلت سروالها وقالت لها بلهجة المعلم إن اخبرت امك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيباً كبيراً إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئاً لم يكن”. ص 14.

ننساق وراء الوظائف وتكوينها، ومنها الوظائف السياقية التي تؤدي إلى وظائف حركية لتكوين استقراء النصّ؛ وهو ضمن حركة الخلق من خلال الأدوات الفنّية وحركة الأفعال، ومنها حركة أفعال الكلام المعتمدة في النصّ المنفرد؛ ومنها أيضاً الأفعال الانتقالية والتموضعية، أي أنّها الأفعال التي تنسجم مع الحدث الشعري وليست تلك التي تخبرنا عنه، حيث إنّ النصّ يعتبر ذلك حدثاً منفصلاً عن الأحداث العامة التي تمرّ بنا، فاليومي غير الخيالي، والواقعي غير التصوّري، وفي الوقت نفسه أنّ النصّ الشعري وانسجامه مع الحدث، يعتبر النصّ الخلاق، حيث يتداخل من خلاله الخيالي والواقعي والتصوّري، أي أنّه سيعيش حالة فكرية وتفكّرية مع الشاعر.
يتعلّق النصّ الشعري بجديده وليس بموروثه أو تكرار ما أبدعه الآخرون، لذلك لكلّ نصّ جديد، ذات جديدة، ومتعلّقات غير مطروقة، فليس هناك انسجام نصّي يخرج من النصّية إلى النصّ، بدون تأثيرات انسجامية، فالحدث الشعري يعيش مع الشاعر وإن كان لقطة لحظوية، فهذه اللقطة أو اللحظة ستكبر عندما يغذّيها الشاعر بما يلائم حركة الدال في النصّ المنظور.
طالما أنّنا في الوسط الوظيفي والمتعلقات النصّية من خلال وظائف النصّ التكوينية وانسجاماتها، إذن نحن في منطقة المقاربات التداولية والتي يبدو من خلالها الصراع بين الـ " أنا " والآخر، وكذلك بين الأشياء، فليست جميع الأشياء منسجمة مع بعضها، فبعضها يتعلّق بفعل تنافري، وبعضها بفعل تناقضي، وبعضها ينحاز إلى الفعل المختلف، وهو الدالّة المختلفة التي نسعى إلى توضيحها من خلال نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.
يعتبر النظام التداولي ذا تنظيم داخلي للنصّ، ولكن في الوقت نفسه نلاحظ تشعّباته وعدم استقراره في نقطة معيّنة، فإذا أخذنا القول اللغوي للنصّ الشعري، نجده ضمن المتعلقات النصّية، فالنصّ لغة قبل كلّ شيء، لغة ليست بدائية وليست مطروقة بشكلها اليومي، بقدر ما تسعفنا هذه اللغة في التناقضات والاختلافات النصّية، وتشكل المشهد النصّي المنظور، وذلك بين سياق التواصل وسياق التفاعل؛ ويكون للنصّ الشعري خصوصيته الجمالية ضمن المنظور الاستطيقي، حيث تعتبر الجمالية العنصر الفعل مع كلّ نصّ نموذجي يمنحنا الرمزية من جهة أو ماوراء الواقع من جهة أخرى.

أسمال الصوت، تخلع صمتها، تلك اللوحة الشعرية البديعة، تنبض بالحياة والجمال، فتتأملها وترى الحقائب الخاوية والأجواء الثقيلة والجبال العجاف، وتشاهد الطيور تطير بأجنحتها المتكسرة، وتتدلى النجوم من السماء المنهكة، فتجد نفسك مبعثراً بين فصول القصيدة، تستمع إلى الأصوات المبحوحة التي تشعل الصحاري، وتشعر بالرياح التي تمزق أسمال السماء. في الصمت تتجلى الكلمات العميقة، وفي الألم تنبثق الأحلام الجديدة، وفي الرمز تتشكل الحقائق الخفية، وفي الشعر تتجلى الإنسانية الحقيقية، فأسمال الصوت تترجم لنا الواقع، وتخبرنا عن حقيقة الحياة الوجودية، ونسمع الأصوات ونستمر في التأمل وراء الظلال المبعثرة. فالشعر هو لغة الروح والفكر، والموسيقى هي الإيقاع الذي يجسد هذا الفكر، فنحن نرقص على أنغام هذا الإيقاع، ونردد كلمات هذه القصيدة الجميلة، التي تحكي قصة الإنسان وحياته الغامضة، وترسم لوحة جميلة عن الواقع والحلم والحياة. يا للفوضى والخراب الحاصل، صوت المغنية يهز المكان الفارغ، أصوات الحروب تسود المكان المهجور، كأن الدمار يتسلل إلى كل زاوية. جبال فشلت في حمل ثقلها وسقطت، أجنحة الطيور تكسرت، انهار جفت، شجرة الصبار لو استراحت ستثير الصحراء، بصوتها المدوي والهائج العاصف. في هذه الحالة من الفوضى والخراب، تتحمل الكائنات بعضها البعض، توزع الأشياء على بعضها كالقطرات التي تنثر على البحر والرمال الناعمة، كالندى الذي يروي الحدائق الزاهية، كالقصائد التي تعانق شغاف الأشعار. ويتوصل الشاعر إلى فكرة أن الحياة تحمل في طياتها الكثير من الإيقاع والتوازن. فكل شيء في الكون ينبض بالحياة وكل الكائنات تردد نغمة الوجود والتفاني. في مكانٍ مهجورٍ، صوت المغنية يُسمعُ وفي الأفق، آهاتُ الحروبِ تَدُوّي، ينهار كُلّ شيءٍ حولَنا ويتفكّكُ. جبالٌ لم تَحتمل، سقطتْ وانكسَرت، أجنحةُ الطيورِ، الأنهارُ الجافّةُ، شجرة الصبارِ، تُثير الصحراء بصوتها المدوّي. تتحملُ الأشياء بعضَها بعضًا، توزّع القطرات الماءَ على البحر والرمال على الشاطئ والندى على الحدائقِ والقصائدُ على الشعراءِ. في ختامِ القصيدةِ، يعبّرُ الشاعر عن حقيقةٍ يُحْكَى عنها، لكنّها تخْتفى. في هذا المجتمعِ، لا فرقَ بينَ الكراسي مليئة بالأشخاصِ، والفارغةِ يتماهون، عدم الأهميةِ للفرد في المجتمع، وتَتراوحُ الحضورُ والغيابُ في نظرِ الآخرين. تعبرُ هذه القصيدةُ الشعريةُ بجمالها، عن الفوضى والخرابِ، وتوزّعِ الأشياء وتتوجّ بفكرة، تقدّس الفرد في المجتمع.

 لقد كان الفقد ورحيل الأحبة مما حرض الشعراء والأدباء والفنانين على البوح واستدراج الذاكرة لاستعادة دفء مكامن الألفة الضائعة، وإعلان الوفاء لمن كان السند الواقي، والمحفز الساقي محبة ووئاما.

         فالغياب في كل مراحل التاريخ الانساني، وكذا تاريخ الإبداع الأدبي والفني، حضوره الذي كان وراء ظهور أفانين القول المفصح الصريح والقريض الفائح بالتلميح، ومن ثم احتل فن الرثاء مركز الصدارة بين الأغراض الشعرية على الإطلاق. وفي هذا الإطار، رأت أضمومة الشاعر محمد العلمي النور. وهي عبارة عن قصائد مكتوبة بدفقات قلب جريح، وبحبر الدم المتخثر في الشرايين المتغضنة توقا وحنينا ووفاء لمن عبرت إلى الضفة الأخرى، الراحلة عن دنياه، تاركة خليلها وحبيبها وشريك عمرها يعاني من تضخم الإحساس بالوحدة القاتلة.

  • القراءة الوصفية للديوان: يطالعنا الشاعر الرقيق محمد العلمي في ديوانه الشعري بقصيدة " زهرة الحجر" والتي اختارها عنوانا لأضمومته، يقول فيها:

" تتخلق من خالص

تهفو إلى النور

تمشي الطريق العنيد

وتحمل للأرض روح الحياة. "

يمكن اعتبار هذه القصيدة بمثابة عتبة للدخول فيما ستبوح به قصائد هذا الديوان، هي إضاءة مساعدة على تلمس ما يساور الشاعر من هواجس وهموم ولواعج، هو المصطلي بنار الغياب والرحيل المفاجئ لهاته التي يرسم لها " بورتريها "  يكاد يكون بألوان المفردات، إنها شريكة عمره  -التي تعجلت الرحيل-  إنها " الزهرة المتخلقة من الصخر الحاملة لروح الحياة ، الحالمة بتلمس النور الصافي، المبشرة بالعطر الفائح في قلوب الأحبة، والملتمسة للقيا الفراشات الزاهية الألوان ، شريعتها البذل والعطاء، مدمنة للصبر، ومقاومة للهموم " . 1

تلك بعض من صفات وملامح المعشوقة الراحلة التي تعجلت السفر العارج نحو لقاء ربها كما تتبدى في هذه القصيدة / العتبة. "زهرة الحجر" 2

وبعد هذه الإضاءة التي فجرت ينابيع ما سيسري متدفقا في بقية قصائد هذا الديوان، يستدرجنا الشاعر للتأمل في باقة مشكلة من عشر قصائد، وضع لها عنوانا جامعا معبرا: " تعجلت " مرقمة من صفر إلى عشرة وهي في مجملها قصائد ذاتية / وجدانية، تفوح منها ما سببه غياب الحبيبة للشاعر من معاناة ومكابدة.

ويدشن الشاعر هذه الباقة بقصيدة أولى وضع لها رقم: الصفر، دلالة على الصمت والفراغ الذي تركته الراحلة، تاركة الموله بالحب الصادق والوفاء الفائض نبلا حبيس ذكراها، حتى ليخيل إليه أنه ترك منسيا في فيافي الحياة دون هاد أو مؤنس لوحشته:

" نسيء فهم"مشروع بروست الفلسفي" حينما نعتقد أنه بإمكاننا العثور على فلسفة قائمة في أفكار"(مارلو بونتي في درس عن مارسال بروست).
" تكشف أعمال مارسال بروست الروائية عن " عدوى روائية أصابت ممارسة الفلسفة" ... " لم يدمج بروست في كتاباته الروائية موضوعات فلسفية كلاسيكية فحسب، بل ابتكر موضوعات صارت فلسفية وذلك بقدرته على الكتابة فيها روائيا، ليفتح الطريق بذلك للتفكير فيها على نحو فلسفي غير مسبوق" ( آن سيمون " صخب عبور المسافات").
"يساعدنا بروست على فهم أسرار الزمن.." ( جان ماري ديران). " ليست الساعة ساعة لا غير، بل هي مزهرية مملوءة بالروائح والأصوات والمشاريع والمناخات ...إنّ دقيقة نمضيها من نظام الزمن تخلق فينا من أجل أن نحسّ بها، إنسانا تحرّر من نظام الزمن".( م. بروست " البحث عن الزمن المفقود").

****

هل علينا أن نقول أولا إنّ مارسال بروست (1871 - 1922 ) روائيّ بالأساس؟ ربّما. ولكنّنا إزاء روائي فذّ أثار جدلا وما يزال على أكثر من صعيد وخاصّة من ناحية علاقته بالفلسفة، أو بالأحرى، من جهة حضور الفلسفة على نحو ما في كتاباته الروائية. ذلك أن النظر مثلا في روايته المميزة " البحث عن الزمن المفقود" ( التي نشرت من1913 إلى 1927) يكشف ، فضلا عما فيها من " مقاطع نظرية" أشبه "بتحليلات الفلاسفة "، يوجد فيها اهتمام بمسائل فلسفية وأخلاقية واستيتيقية ...وإن على نحو خاص . ممّا يؤكّد أنّنا إزاء " رواية " مميزة ، وأنّ ما يميّزها ، من ضمن عناصر أخرى - هو بالخصوص"البعد الفلسفي " . وهو الذي سمح لبعض النقاد بالنظر إليها جنسا خاصا من الرواية هو" الرواية الفلسفية". أو لعلّها كما يقو آخرون من قبيل فلسفة خاصّة ، " فلسفة روائية" أي فلسفة أصيبت بعبارة " آن سيكون " بعدوى روائية". ولعلّ هذا ما يفسّر اهتمام كثير من الفلاسفة بأعمال بروست وبرواية" بحث عن الزمن المفقود " على وجه الخصوص. بل اهتمام كثير منهم أيضا بالبحث في الروافد الفلسفية ( من أفلاطون إلى شوبنهاور وبرجسون الخ ) لكتاباته الفنية ، لرواياته واختلافهم في ذلك في حدّ اليوم. ولعلّ هذا ما يحملنا على التساؤل عمّ يبرّر هذه العلاقة بين ضربين من الإبداع يحيلاننا إلى مجالين مختلفين هما الرواية والفلسفة، إلى الفنّ والفلسفة. ما وجه صلة مارسال بروست بالفلسفة : هل يعود الأمر إلى بروست ذاته، إلى خيار شخصي ام إلى قرابة بين الفلسفة والرواية لم يفعل بروست سوى كشف مقوماتها بل وتكريسها ربما في اعماله؟ وما شأن بروست والفلسفة ؟ هل هو بالأساس فيلسوف ضل الطريق إلى الرواية أم روائي أو فنان يجنح إلى الفلسفة ؟

يعد النقد الثقافي Cultural Criticism من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت (ما بعد الحداثة) في مجال الأدب والنقد، وقد جاء بمثابة رد فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية (الإستيتيقية) التي تعتني بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية من جهة، أو ظاهرة فنية وجمالية وبويطيقية (شعرية) من جهة أخرى. ومن ثم، فقد استهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة والنقد معاً بغية بناء بديل منهجي جديد، يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والمؤسساتي؛ إما فهماً أو  تفسيراً. وقد تأثر المنهج الثقافي بمنهجية جاك دريدا* (1930-2004) التفكيكية القائمة على التقويض، والتشتيت، والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة، وهدماً، وتأجيلاً، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص والخطابات، سواءً أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك بالدراسات الثقافية المتنوعة، وتمثل الماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافياً عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير([1]).

إن النقد الثقافي هو منهج سبقنا إليه الغرب (أمريكا وفرنسا) له أدواته للكشف عن المضمر النسقي في العمل الأدبي([2]). ويمكن القول إن النقد الثقافي هو نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها([3]). ويرى المفكر والفيلسوف المصري صلاح قنصوه* (1936-2019) أن النقد الثقافي ليس منهجاً بين المناهج الأخرى أو مذهباً أو نظرية كما أنه ليس فرعاً أو مجالاً متخصصاً بين فروع المعرفة ومجالاتها بل هو ممارسة أو فاعلية تتوفر على دراسة كل ما تفرزه الثقافة من نصوص سواء  أكانت مادية أو فكرية، ويعني النص هنا كل ممارسة قولاً أو فعلاً تولد معنى أو دلالة([4]).

والنقد الثقافي هو صورة جديدة من العودة إلى ربط النص بمحيطه الثقافي، والمتميز فيه أنه ليس مدرسة محددة المعالم، بل يمكن أن يتبدل بتبديل شخصية الناقد وثقافته وتوجهاته وطبيعة النص وقضاياه وثيماته، كما أن النقد الثقافي مفتوح على التأويل وعلى مناهج السيمائيات وتحليل الخطاب ومختلف العلوم الإنسانية المحيطة بالأدب، بل إنه مرتبط بحركات فكرية وثورية كالحركة النسوية، وحركة " الزنوجة " وصراع الحضارات والثقافات، وغير ذلك مما يقع في باب الخطاب المضمر في النص، والنسق المضمر المحرك له([5]).

في رواية "جميلات منتصف الليل"، تأسرنا حنان درقاوي، الكاتبة المغربية، بحسها الأدبي العميق وقدرتها على استكشاف صراعات المرأة في المجتمع المغربي. تُظهر لنا الكاتبة صراعات المرأة المتأرجحة بين الرغبة الجارفة والتزامات العفة، والتي تواجه فيها النساء العديد من العقبات والتحديات. وببراعة فائقة، ترصد درقاوي لنا تلك المزالق المختلفة التي ينزلق فيها الكثير من النساء، وتسلط الضوء على التمييز والقهر الذي يعاني منه الجنس اللطيف في هذا البلد، والعنف الأصولي الذي يعكس جذوره المتناسلة. وتستخدم الكاتبة شخصياتها النسائية بقوة وصلابة لتسليط الضوء على أحلامهن المجهضة في مشهد يثير الانتباه ويجعل روايتها صرخة أنثوية مؤثرة، تناشد النفوس القاسية الميتة في جمودها، وتدعوها إلى الانفتاح على الآخر وعلى الحياة بكل تعدد أبعادها. وتعتبر هذه الرواية إسهامًا هامًا لتعزيز الوعي بحقوق المرأة وتعزيز المساواة بين الجنسين في المجتمع المغربي.

تنطوي رواية "جميلات منتصف الليل" للكاتبة المغربية حنان درقاوي على صرخة مؤثرة تجسد الصراع الذي يعانيه النساء في المجتمع المغربي، حيث تتخللها مواقف مؤلمة تكشف عن التمييز والقهر والعنف الأصولي الذي يتخذ جذوره من العادات والتقاليد. يرصد النص البعيد تمامًا عن الإدانات والتحليلات السطحية، مأزق الطالبة الجامعية صليحة التي تورطت في حياة الليل الجامحة، حملت جنينًا غير مرغوب فيه. تدفعها هذه الظروف لمواجهة تساؤلات شائكة حول مستقبل الجنين ومصيره، حيث تتقاطع الأخلاقية والدينية والاجتماعية في تحديد قرارها النهائي. فالإبقاء على الجنين يعني العيش في حالة من العزلة والفضيلة الاجتماعية، بينما الإسقاط يعني المخاطرة بحياتها وتعريضها للعقوبات القانونية والاجتماعية. يتناول النص أيضًا الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها النساء الفقيرات في المجتمع، والتي تزيد من تعقيد الوضع وتعكّر صفو الحياة. لكن، تشير الكاتبة في روايتها "جميلات منتصف الليل" إلى أن الصراع ليس فقط في اختيار بين الاحتفاظ بالجنين أو إسقاطه، بل في مواجهة مجتمع يميز بين الرجال والنساء ويمارس العنف والاضطهاد ضد النساء. فهي تستكشف العقبات التي تواجهها النساء في المجتمع المغربي، وتسلط الضوء على التمييز والقهر الذي تعاني منه النساء، والعنف الأصولي الذي يعكس جذوره المتناسلة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة