المستقبلية futurismo حركة فنية تأسست في إيطاليا في بداية القرن العشرين، إذ عرفت أوج نفوذها بين عامي 1909 و1944. وتعني المستقبلية نبذ كل ما يتعلق بالماضي وبدأ ثقافة جديدة، وينشط المستقبليون في كل فروع الوسط الفني بما في ذلك الرسم والنحت والتصميم الجرافيكي، والتصميم الصناعي، والأزياء، والمنسوجات، والأدب، والموسيقى والهندسة المعمارية، وحتى الطبخ لم يسلم منهم. إن المستقبلية، بشكل عام، تبتعد عن كل ماهو ماضوي قديم هادئ، وقد عبر مارينيتي هن هذا الابتعاد بقوله "إن سيارة السباق أجمل من تمثال ساموثراس".

انطلقت المستقبلية من الأدب نحو فنون أخرى، حيث قام الأديب ورجل القانون فيليبو توماسو مارينيتي Filippo Tommaso Marinetti بإصدار بيان سمي بالبيان المستقبلي Manifesto del Futurismo، الذي نشر لأول مرة في الجريدة البولندية Gazzeta dell'Emilia في 05 فبراير 1909، ثم تلقفته الجرائد الإيطالية تباعا؛ حيث نشر بجريدة Il Pongolo di Napoli في 06 فبراير 1909ن وبجريدة la Gazzetta di mantova وl'Arena di verona في 09 فبراير 1909، ثم توالى نشره في الجرائد المحلية والعالمية، إلى أن وصل إلى جريدة Le Figaro الفرنسية في 20 فبراير 1909 وأعطته شهرة منقطعة النظير.  يشجع البيان في مجمله على تبني السرعة والحركة والعنف وقطع دابر الماضي، لأنه لا يساعد نهائيا في بناء المستقبل والنهوض به. ويأتي هذا البيان في إحدى عشرة نقطة أساسية هي كالتالي:

  • Noi vogliamo cantare l'amor del pericolo, l'abitudine all'energia e alla temerità.

-1 نريد الغناء لحب الخطر وروح النشاط والجسارة المندفعة.

  • Il coraggio, l'audacia, la ribellione, saranno elementi essenziali della nostra poesia.

-2 ستصبح الشجاعة والإقدام والتمرد العناصر الجوهرية لشعرنا.     

  • La letteratura esaltò fino ad oggi l'immobilità pensosa, l'estasi ed il sonno. Noi vogliamo esaltare il movimento aggressivo, l'insonnia febbrile, il passo di corsa, il salto mortale, lo schiaffo ed il pugno.

 

تلخيص
سنحاول في هذه الدراسة مقاربة رواية (قطط إسطنبول) للروائي السوري زياد كمال حمامي والنبش في دلالات ورمزية القطط في هذا العمل وفق منهج الثنائيات الضدية  لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات) ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإظهار تناقضات المجتمع، والربط بين ما قد يبدو منفصلا، مع ردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان) لنتساءل عن السر في اختيار القطط دون غيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة للتعبير عن الواقع العربي.

 

تواصل الرواية تأكيد نفسها باعتبارها الجنس الأدبي الأنسب لتصوير ذبذبات الواقع العربي ورصد كل تفاصيله، والأقدر على مواكبة تفاعلات الإنسان العربي في واقع  زئبقي مختل عصي على التصنيف يعاني أزمة قيم، يتحول (se métamorphose) باستمرار، لا يستطيع أي تعبير فني آخر غير الرواية مواكبة جميع تلك التفاعلات،  فاستطاعت الرواية بذلك ملامسة كل المواضيع والقضايا الراهنة... ولعل من القضايا المعاصرة الحارقة في عصرنا، قضية وضع اللاجئين العرب في الدول المجاورة التي اضطر الكثير من العرب اللجوء إليها بعد تفجير الأوضاع بأوطانهم غداة انفجار أزمة الخليج الثانية والغزو الأمريكي للعراق ، وما نتج عنها من اندلاع أحداث الربيع العربي التي دحرت الكثير من العرب خارج أوطانهم... فتهاوت قيمة العربي في بورصة المعاملات الإنسانية، وجعلته يتقبل المهانة ويعيش معاناة الإذلال والاحتقار...

وقد حاولت الرواية تصوير هذا الواقع وتجاوزت تشييء الإنسان العربي إلى حيونته وإبراز أرذل الحيوانات أرقى منه، بعدما رأى الروائي العربي أن اللغة المباشرة عاجزة على استيعاب حماقات وزئبقية هذا العصر، وربما وجد في الرمزية الوسيلة الأنسب للتعبير عن واقع اختلت فيه الموازين وصار فيه الحيوان (الذي كان رمزا للوحشية والهمجية) أرقى من الإنسان وقيمه الإنسانية التي تتبجح كل حين بالكرامة والتسامح والتضامن...  وقد يكون في حيونة الإنسان، وأنسنة الحيوان طريقة للتعبير عن واقع يعيش أزمة قيم، واقع أشبه ما يكون بغابة البقاء فيها للفاسد الأقوى، ولا مكان فيها للنبل والشرف، وضحاياه الأوائل العفة والكرامة الإنسانية... ولعل من الروايات الصادرة حديثا في هذا الموضوع رواية (قطط إسطنبول للروائي السوري زياد كمال حمامي لتنضاف إلى فسيفساء مشروعه الروائي بعد روايات (الظهور الأخير للجد العظيم) و(الخاتم الأعظم) ورواية (قيامة البتول الأخيرة) ...

عند تصفحي لرواية " صابرين" للكاتبة نُعمى شاكر، المغربية المولد، العربية الانتماء، المهجرية الإقامة، لم أشعر إلا وأنا أجاوز العتبات بسرعة فائقة، تتجاذبني الحكايات المتتابعة مثل غزلان تتهادى بلا توقف، لأجد نفسي إزاء الصفحة الأخيرة أتساءل معها: (ماذا لولا القبو؟)
الكتاب سيرة ذاتية بحس نفسي عميق، لكاتبة باحثة في علم النفس، وهذا ما أعطى للحكي بعدا جماليا من نوع خاص. فإذا قيل بأن الكتاب الأول لا يُعوَّل عليه، فإن الانطباع الأول الذي ينتاب القارئ يبدو إيجابيا إلى أبعد الحدود باتجاه ضمان استمرارية الكاتبة، لما تتوفر عليه من قدرات لغوية ومعرفة سيكولوجية ونفسية وغزارة في الحكايات، وسهولة في السرد الذي ينزاح صوب السهل الممتنع...
تطالعك العتبات المتداخلة بشكل غريب، تتحسس من خلالها مضامين الرواية، حيث تمتزج جمالية الإسم (صابرين) بحمولة معنى الكلمة وما توحي به من حث على صبر النفس بصيغة الجمع... وتمتزج في لوحة الغلاف للفنان معاذ السيد، صورة شابة تُسند همَّها على ركبتيها وتعطي ظهرها للكون ، بصورة بدر مكتمل خلفها يرسل بارقة أمل وسط الظلام المخيم... تُجاوز صفحات الرواية مائةً وخمسين صفحة بقليل، وهي صادرة عن دار "اسكرايب للنشر والتوزيع، بجمهورية مصر العربية". وقد اختارت الكاتبة أن تؤثت الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب بفقرة معبرة، تلخص معاناتها ونظرتها للحياة، مذيلة كل ذلك بصورتها الشخصية وهي مبتسمة، في إشارة واضحة إلى الأمل والصمود الذي يجب أن يتحلى بهما الكاتب حتى في أحلك مراحل الحياة... كما اختارت أن تهدي هذا الكتاب إلى كل من يصر على الحياة ويحارب كي يعيش... بل اختارت أن تنهي الكتاب من حيث بدأت: تحذير القارئ من دخول القبو، سواء دخله أو لم يدخله، والتجاؤها إلى القبو في النهاية كحل أخير وهي تتساءل عن مصيرها في حال غياب هذا "القبو..." تاركة للقارئ مساحة التأرجح بين قبو معنوي وقبو محسوس...
ورغم أن الكاتبة جعلت من الحكايات المؤطرة فصولا مرقّمة بلغت عشرين فصلا، إلا أنها تبدو فصولا بلا فواصل، بل إنها حكايات مندمجة ضمن الحكاية الإطار، حكاية صابرين، تسردها في تتابع وانسجام مبرزة أدق تفاصيل الأحداث والأوقات والفضاءات والشخوص، عبر مراحل متفرقة ومجتمعة في آن واحد من حياتها، بنكهة نوسطالجية ، وتحليل نفسي لمختلف الحالات التي طبعت ذاتها والشخصيات المصاحبة...

يتضمن ديوان «صمت الخيام» للشاعر المغربي داحوس عبدوس نصوصا تتشكل من عناصر الإبداع الشعري الإيقاعية، والبلاغية فضلا عن موضوعات ذات أبعاد ودلالات متنوعة ترسم أفق تجربة كتابة تنحت مسلكياتها الخاصة في خارطة شعر متعدد الرؤى والمقصديات.

فإن جاءت نصوص المجموعة بأسلوب نثري إلا أنه لا يعوزها الإيقاع بشقيه الخارجي والمتمثل في نص «لونك ملك يدك» : " واعلم سر الصبائغ زيتا وماء... فالكل سواء . " ص 10، حيث الروي ( الهمزة)، والتي يمكن اعتبارها ساكنة بجرْس مغلق، والكاف في قصيدة« لوجودك وجهان » : "مرفوض طلبك . لا وجود لقهوتك " ص 28، وهنا الروي ( الكاف) قابل للإشباع . والداخلي من خلال تكرار نفس الحروف مما يجنب النص مغبة السقوط في رتابة نثرية ؛ في مثل عنوان« لونك ملك يدك » ص 9، والذي يجسده تكرار الكاف، والهاء والتاء في : " والأمهات المكرهات " ص16، والسين في قصيدة« لوجودك وجهان » : " على ضفتي كل طاولة جنسان نظرات الأنس وحميمية الجلوس .حديث رومانسي. " ص29، فتجانس الحروف يمنح القصائد إيقاعا ينبع من طبيعة تركيبها وتتابعها. وتوظيف الثنائيات الضدية مما يخلع على الأسلوب زخما جماليا ودلاليا عبر استخدام عنصر الطباق كمكون بلاغي في قصيدة « إنشاد الشعر قدري »مثلا : " الصوت والصمت تحت قدمي " ص 13، لاحظ من تقابل الصوت والصمت، نفس التضاد يحضر في غرضيْ الشعر الهجاء والمدح : " هجاء ومدح " ص22، و : " فرح وحزن " ص26، و: " بين مد وجزر " ص33، حيث يتوالى الطباق كشكل تعبيري بحمولات متعددة الأوجه والمناحي . والجناس الذي استعمل في العديد من أساليب المجموعة، مثل قصيدة «هناك ... بلا إذن أحد» التي تستهل بعبارة : " الروح تناجي الروح " ص 64، وقصيدة « حياة تحت الصفائح » حيث تتوالى كلمات : " ونكبر، وتكبر فينا الطفولة، ويكبر الفرق بين طفولة وطفولة ،طفولة سيد، وطفولة عبده ..." ص18، فبالإضافة إلى تكرار ( طفولة )، و(يكبر ) لتجسيد الجناس يحضر، على شكل تضمين، الطباق في : سيد وعبده، عبر خلق نسق بلاغي متداخل ومتآلف العناصر. وعنصر التشبيه الذي انضاف لعنصريْ الجناس والطباق لإثراء وتعميق السمة البلاغية التي ميزت القصائد، في استعمالات متنوعة اقترن فيها بأداة الكاف تارة : " وكالغابة التي تصحو من نومها " ص59، وفي : " حيث تحط كالندى " ص 115، وخال من الأداة طورا، في مثل : " البيوت كلها أضحت لوحات " ص10، كما طغت على نصوص المجموعة سمة المجاز التي طبعت العديد من أساليبه وعباراته كما في قصيدة « هناك » : " أنصت إلى روح النجوم إلى السحب وهي نائمة في حضن الظلام " ص7، في استعارة الكلام للنجوم، والنوم للسحب، وهي تعابير ترقى بالمتن الشعري إلى مقام بلاغي يمنحه جمالية لغوية، وبعدا دلاليا.

     شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان ، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل ، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ ( الانطفاء ) ومَرجعيةِ الحُزْنِ ( الاشتعال ) ، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ ، وتَخليدِ المَيِّتِ . وإذا كانَ البُكَاءُ على المَيِّتِ لَن يُرجعه ، فإنَّ اللغةَ قادرة على إرجاع المَيِّتِ طَيْفًا حالمًا مُتَدَفِّقًا لا جسدًا ذابلًا مَحدودًا .

     والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء ، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .

     مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب ، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ ، وإعادةُ تأويل للوُجود ، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه ، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة ، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .

     والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين ، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر ، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود ، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع ، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية ، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .

آه يا تونس الخضراء لقد مضى ربيعك سريعا خجولا تائها منهكا هرما وصار صيفا لهيبا حارقا يلفح أغصان ثورتك البريئة، هذا ما أرادت أن تبوح به رواية حرائق قرطاج للمبدع خير الدين جمعة من خلال مشهد سردي شامل لأحداث الثورة التونسية التي وقعت في العام 2011.

اعتمد الكاتب في بنائه لهذا المشهد الروائي على أسلوب السرد بالشخصية المتعددة  بالمعنى الذي ذهب إليه المفكر الفرنسي رولان بارط ، ويسمى أيضا أسلوب السرد بالضمير الأول؛ فقام بتقديم أحداث الرواية من خلال رؤية ومنظور شخصيات الرواية نفسها مستخدما ضمير المتكلم، ليكون السرد مباشرا وشخصيا عكس من خلاله آراء ومشاعر وتغيرات هذه الشخصيات النفسية والاجتماعية والفكرية، الأمر الذي يسمح للمتلقي بالتواصل والتفاعل العميق مع الشخصية، وفهم دوافعها وتحليلاتها الفكرية، والتأثر بها أيما تأثر؛ ليضفي مزيدا من الواقعية على أحداث الرواية.

استخدم الكاتب في روايته لغة شاعرية مترعة بالصور والتعبيرات البلاغية، وتنوع في أساليب السرد والوصف والحوار مع توسع ملحوظ للوصف والسرد ،  الأمر الذي أضفى المزيد من الحركية المناسبة للصراع بين شخوص الرواية والواقع المرير، والمزيد من الواقعية أيضا.

الشخصية الأولى: خليل بن خليفة (المال )

يصدق فيه قول الشاعر  الفلسطيني محمود درويش ( انتصرت، مجازا أقول خسرت، ويمتد وادي سحيق أمامي  ). خليل الانتهازي رمز لتلك الطبقة الثرية التي تتكيف مع كل الظروف لتحقيق مصالحها، وتعيد تشكيل نفسها وتغيير جلدها كالحرباء، وقد تكون هذه الفئة الأكثر تأثيرا في فشل المشهد الثوري التونسي برمته؛ لأنها تلدغ في العمق، وتسري كالسرطان في كل مجال من المجالات التي تمثل المجتمع ككل.

لم تظهر شخصية خليل في الرواية بهذه السلبية والسوداوية بشكل مفاجئ بل تطورت مع تطور الأحداث وتناميها؛ فقد نشأ خليل في أسرة  انتهازية محبة للمال والنساء، وكان قدوته في هذا خالد الأخ الأكبر له، وهو الذي أوصله بطريقة ما إلى سناء، وكان والده تاجرا بخيلا على ما يبدو على أبنائه، وعندما رفعوا عليه قضية الحجر على الأموال استغل خليل الفرصة جيدا وحصل على الثرورة كلها بحكم علاقته الجيدة بوالده، بعدما تعاون معه في تسليم رفاق الأمس للأمن  الداخلي و من ثمّ اعتقالهم و سجنهم  فترة توهج الثورة ، ثم انعزل عن  رفاق الثورة بالثروة  متلفعا بعاره .

يبدو أن التفكير في الأدب لا ينفصل عن الممارسة الأدبية نفسها، على الأقل حين تمر هذه الممارسة عبر الكتابة: إضافة إلى الثقافة الغربية، فإن كل الحضارات التي عرفت الكتابة، سواء أتعلق الأمر بالهند، أم الصين، أم اليابان، أم بالفضاء الثقافي الشاسع للأمة الإسلامية، قد أنتجت ثقافة محلية حول الإنتاجات الأدبية. صحيح أن طريقة التفكير التي طورها الغرب قد بدأت نتزع إلى استئصال أنماط التفكير المحلية، منذ القرن التاسع عشر، بموازاة مع التوسع السياسي والاقتصادي للحضارة الغربية: ولكن من المهم أيضا أن نؤكد على أن الحضارة الغربية لا تنفرد بالتفكير في اللغة، كما أن المفاهيم الوصفية والمنهجية المؤسسة لتقاليدها النقدية لا تشكل النمط الوحيد الوجيه للتفكير في الأدب.
ليس مجالنا هنا أن نقدم عرضا لتاريخ التفكير في الأدب عند الغربيين، والذي لم يتوقف عن مواكبة التطور الأدبي بأشكاله المختلفة ، منذ أرسطو وحتى خلال العصر الوسيط (خلافا للرأي الشائع)، (انظر كلوبش، 1980، هوغ ، 1985). سنقتصر هنا على التذكير ببعض الوقائع العامة التي يمكن أن تساعد على فهم أحسن للوضع الراهن.

النموذج الكلاسيكي
منذ العصور القديمة حتى نهاية القرن الثامن عشر عموما، مورس التفكير في الأدب أساسا وفق ثلاثة محاور، مع اختلاف في التأكيد على هذا العنصر أو ذاك باختلاف العصور:
1) الشعرية: والمقصود بذلك دراسة الوقائع الأدبية من زاوية الفن اللفظي. إن التفكير في فن الشعر الذي أسسه أرسطو كشكل خاص للدراسة، قد ظل حاضرا عبر العصور، رغم أنه سيفقد بسرعة استقلاليته التي منحها له صاحب كتاب فن الشعر، وسوف يتم احتواؤه من طرف البلاغة. واقتضى الحال أن ننتظر عصر النهضة، وإعادة اكتشاف نص أرسطو لكي تستعيد الشعرية استقلاليتها.
2) البلاغة: وتعني تحليل الخطابات ، وخاصة مجموع الوسائل المستخدمة لضمان التواصل الجيد. إنها مهارة تقنية مرتبطة بالحياة العمومية أولا ( يجب أن يتعلم المرء الوسائل اللسانية المناسبة للاستخدام من أجل تحقيق الهدف المقصود)، ومع ذلك فإنها تحمل في طياتها منذ البداية مكونا تحليليا ما دام اكتساب فن الخطابة يمر عبر دراسة النماذج الخطابية الجيدة. ولأسباب تاريخية ( ومنها على الخصوص تراجع الديمقراطية في العصور القديمة)، فإن النصوص الأدبية بحصر المعنى ( الأعمال التخييلية والشعر) ستحظى بمكانة متزايدة الأهمية على مستوى النماذج الخطابية التي تشكل موضوعا للنقاش. وفي نفس الوقت، فإن الخطاب الأدبي سيحتل مكانة مركزية بين الأجناس الخطابية المدروسة. وسوف يستمر هذا التطور خلال العصر المسيحي ليؤدي إلى إفقار حثيت وعنيف للبلاغة التي سيتم اختزالها تدريجيا لتقتصر على مشاكل البيان.
3) الهرمنوطيقا: والمقصود بها نظرية التأويل. ورغم اقتصارها في الأصل على النصوص المقدسة، فإنها تناولت أيضا منذ العصر الإسكندري المشكل الفقهي اللغوي المتعلق بتأسيس النصوص الآدبية الدنيوية. أضف إلى ذلك أن النصوص المقدسة في التقليد اليهودي والمسيحي تحمل مجموعة من القواسم البنيوية مع النصوص الدنيوية الترفيهية (نصوص سردية وشعرية): فبعض المشاكل الخاصة التي تتناولها هرمنوطيقا النصوص المقدسة تتدخل أيضا في فهم النصوص الأدبية بحصر المعنى، خاصة قضية الرمز والحكاية المجازية. وفي النهاية عوض النقد الفيلولوجي ابتداء من عصر النهضة بشكل متزايد هرمينوطيقا النصوص المقدسة، رغم اقتصارها في البداية على الأعمال المنتمية للعصور القديمة.
في دراسة كلاسيكية حول تقاليد النقد الغربي، ميز أبرامس ( 1953) بين أربعة ، وليس ثلاثة ، توجهات نقدية. حسب ما إذا كان الناقد يركز على الفنان المبدع، على العمل الإبداعي، على الواقع كما يعبر عنه هذا العمل أو كما يفهمه الجمهور المقصود بهذا العمل. لقد ميز أبرامس بين : النظريات التعبيرية، التي تحدد العمل الأدبي كتعبير عن ذاتية فنية؛ النظريات الموضوعية التي تحصر العمل الأدبي في بنيته النصية المحايثة؛ النظريات المحاكاتية التي تحدد هذا العمل في علاقته بالواقع الذي يمثله؛ وأخيرا النظريات التداولية التي تحلل العمل الأدبي من زاوية آثاره على المتلقي. تنتمي الشعرية طبعا للنظريات الموضوعية، وتنتمي البلاغة للنظريات التداولية. هذا صحيح على الأقل إذا التزمنا بالحدود الكلاسيكية لهذين المجالين المعرفيين، رغم أن هذه التحديدات قد تبدو إشكالية نظرا لصعوبة الفصل بين العوامل التركيبية والتداولية ضمن تحليل الخطاب. أما النظريات المحاكاتية فإنها تنتسب للقطب الهرمينوطيقي، إذا نظرنا إليها كنموذج مميز للتحليل الدلالي ( وهو عمليا تحليل من زاوية العناصر المرجعية). أما النظريات التعبيرية فلم تتطور بشكل فعال إلا مع العصر الرومانسي.

     قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية ، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ . وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا ، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا ، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية ، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية ، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها .

     وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا ، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري ، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا ، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا ، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة ، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى ، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

     وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها ، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا ، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه ، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق ، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

     وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا ، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع ، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي ، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة