إذا كان لا بد من كلمة تقال في شعر التفعيلة أو الشعر الحديث كما يحلو للبعض تسميته تكون مفتاحه أو تلخص مساره أو مضمونه فلن تكون تلك الكلمة غير كلمة الرفض، إنه شعر استهل مشواره الإبداعي بالتمرد على عمود الشعر الكلاسيكي، ولئن حاول بعض الشعراء المحدثين التجديد في الشعر باطراح التقليد والتكلف اللغوي بانتقاء اللفظ البراق والحرص على الصدق الفني والتأكيد على التجربة الوجدانية شأن الرابطة القلمية وجماعة الديوان وجماعة أبولو فإن رواد الشعر الحديث رفضوا هذا الموقف مصرين على الثورة حريصين على سلوك مسلك في الشعر فريد من نوعه لا يكتفي من التجديد بما سلف ذكره، بل يرفض عمود الشعر ويتمرد على القافية لأنها تخنق روح الإبداع وتؤكد تبعية الشاعر للغة فضلا على الإصرار على روح التقليد و رتابة الماضي.
وهكذا فالشعر الحديث استهل رفضه بالثورة على القالب الشعري زاعما أن القالب التقليدي لا ينسجم مع روح العصر و لا يلبي الاحتياجات الفكرية و الجمالية المستجدة خاصة و عصرنا هو عصر العلم والديموقراطية والحرية الإنسانية – حرية الفكر و المعتقد – وعصر حصلت فيه المرأة على حقوقها ناهيك عن تأثير الإحتكاك بالثقافة الأوروبية التي تدمر روح الجمود لحساب روح الإبتكار وتؤكد على المضمون الإنساني و تحرص على احترام فردية الإنسان وتميز كيانه الفكري و الإيديولوجي والتي هي في النهاية خلاصة التجربة الديموقراطية المنبثقة عن الثورة الفرنسية و إعلان حقوق الإنسان هذه القيم التي تمثلها شعراؤنا المحدثون وتبنوها كقناعات فكرية ومن ثمة تبلور الرفض وتحتمت الثورة كصرخة عميقة تزلزل الروح موقظة إياها من سبات عميق وخدر فكري زين للإنسان العربي أوهام الماضي على أنها حقائق وفي مقدمتها فكرة تاريخية عميقة تداولتها الأجيال على أنها مسلمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي فكرة المركزية ونعني بها اعتقاد العربي أنه مركز التاريخ ودرة الوجود وحامل لواء الحقيقة وما عداه فذيل أو هو على الهامش، لا هو في العير و لا هو في النفير وقد انتهت تلك الأفكار بالعربي إلى إدانة العقل و تبني التقليد وانتشار الثقافة الفقهية على حساب الثقافة العلمية ووئدت الحرية و أجهز على الروح الإنسانية في المرأة وهمشت أحقابا طويلة كما استبد الحاكم وعبث بالإنسان وبالمال العام فعمت الجهالة وانتشرت الفوضى وترسخت الطبقية و أصبحت الحياة العربية إلى تاريخ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 حياة عبثية مجردة من القصدية انتهت بالعالم العربي إلى الوقوع فريسة سهلة بين مخالب القوى الاستعمارية الفرنسية و الإنجليزية خاصة كنتيجة حتمية لتراكمات العصور السابقة بظلالها القاتمة.
قراءة في المجموعة القصصية و الشعرية : همس الروح ـ د.المصطفى سلام
انطلاقا من العنوان الذي اختارته الكاتبة لهذا المنجز الشعري القصصي عنوانا شاعريا و شعريا " همس الروح " و الهمس نمط من الكلام بصوت لا يكاد يفهم ؛ قال تعالى : " وخشعت الأصوات للرحمان لا تسمع إلا همسا "... طه 108. و كأن هذا المنجز اتخذ الهمس نمطا وصيغة من صيغ التعبير، فهو لم يتخذ الصراخ ولا العويل ولا الغناء ....بل الهمس . كما يكشف هذا النمط من الكتابة و الإبداع صيغة التلميح والتعريض، وليس التقرير و التعيين، وبالتالي كان الرهان على نوع من القراءة أو على نمط خاص من القراء، أي ذلك الذي يدرك الهمس و يفكك شفراته ويرصد معانيه الخفية ...هو قارئ تحرر مسبقا من تأطير إيديولوجي أو نزعة فكرية أوعقيدة دينية تبررله ما تجب قراءته وما لا يجب . هذه النصوص تقرأ بعيدا عن أية إيديولوجيا ودون تأطير من أية عقيدة دينية أوقومية أوعلمية. إنها نصوص تأتيك همسا وتهمس في أذن القارئ معنى وترسم له دلالة وتلمح له على أجوبة ممكنة لأسئلة يطرحها الإنسان في وجوده ، وفي علاقاته ،وفي صيرورته ...
في هذا العمل الإبداعي نوعان من الهمس: أول شعري وثان قصصي. وسننظر في الهمس القصصي لنرى ما فيه من مدارات دلالية وخصائص فنية وجمالية .
النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر بين تخطي المحسوس والانعطاف نحو الباطن ـ بغاديد عبد القادر
توطئة:
إنّ التلازم الطبيعي بين الأدب والثقافة أوجد أديب الحداثة العربية أمام انفجار معرفي هائل الكثرة والتعدد والتعقيد، فاختلط بتجربته الخاصة وانعكس هذا المزيج الفريد والغني على النص الشعري، فأصابه بالعمق والبعد المضموني، كما أصاب تقنياته الإبداعية بالتعقيد، وهذا لا يعني أنّ الأديب يتحرك في أفق مُزدحم بهذه الثقافات فحسب، وإنّما يعني ازدحاما دلاليا فيه من الضبابية والتعدد ما يُصيب المتلقي بالحيرة والذهول أمام النص الشعري.
ومن ثم وجد الشعراء في المنحى الصوفي منفذا إلى عالم المُثل في محاولة للهروب من عوالم محيطة بهم أملا في الخلاص وبحثا عن المعادل الوجداني لكياناتهم المفعمة بالسُّمو والامتلاء« فالصوفية استنباط مُنظّم لتجربة روحية، ومحاولة للكشف عن الحقيقة والتجاوز عن الوجود الفعلي للأشياء.» (1)
وبهذا فالشاعر يحاول أن يلج الأعمق ويرتقي إلى الأسمى والأنبل، واعتلاء العوالم الأبدية المتعاقبة وحقائق الروح المُثلى بكل معانيها وتجلياتها، ذلك « أنّ الإنسان في الفكر الصوفي لا يعيش حالة من اللاوعي أو السلبية، بل إنّ الإنسان هو الحقيقة الأكثر حياة في هذا الوجود.» (2)
لقد أراد الخطاب الصوفي أن يتوغل بالوعي الإنساني نحو أعمق معاني السُمو على تفاهة الحياة وماديتها ويتخلص من سجنه ويخرج من هشاشة الواقع ويُحلق به في سموات المُطلق اللامتناهي وارتقاء أعلى درجات السمو نحو المتعالي، هذا ما يُعبّر عن قمة الحس الصوفي المثالي، يقول أدونيس:
"المشرط"1 لكمال الرياحي بين مكر الرّاوي وكابوسيّة المشهد ـ الناصر بوعزة رياحي
افتتاح: كي لا نقع ضحيّة لسخرية الرّاوي
لا يزال "المشرط" لكمال الرياحي يتعهدنا استفزازا، موقعا في روعنا أنّنا إزاء نصّ تقوى فيه زاوية الانحراف لا عن سائد الكتابة الروائية فحسب، وإنّما حتّى عن مألوف انزياحاتها، بما يجعله نصّا اقتحاميّا اختراقيّا يستنهض فعل قراءة من جنسه، يناوش المعتاد للوقوف على ما تَخَفّى في تضاعيف النّصّ من جماليّات ودلالات لا تمنح نفسها إلّا بعد مناورة ومداورة، إغراءً بتدبّر فراغات، الصّمت ومن ثَمّ بالاستقصاء السّرابيّ الفاتن لغائر الأدبيّة وروغان المعنى، وإلّا وقعنا ضحيّة لسخرية الرّاوي ومن ورائه الرّوائيّ بداهة.
فالنّصّ برمّته خطاب ساخر يستهزئ بكلّ الثّوابت والمستقرّات، ويوقعها تحت سطوة سخرية لاذعة ينهض بها راو موغل في مَكرِه الفنّي حدّ التّلاعب بكلّ ما يطاله من العوالم والنّصوص تفكيكا وتركيبا وتشظية لعناصرها، دفعا للمماثلة وبحثا عن المغايرة، سعيا نحو الإخصاب عبر المؤاخاة بين المتناقضات. ومن أشدّ ألاعيب الرّاوي فتنة ههنا الزّج باليوميّ المعيش في دائرة العجائبيّ والكابوسيّ. ولعلّ تلك مفارقة النّصّ الجوهرية في تركيب مُتُونه المقامة أصلا على حشد المتنافرات وتدَبّر مثير علائقها، باعتبار ذلك استراتيجيّة خطاب تستهدف قراءة ساخرة يقوى فيها البعد التّداولي المنبثق عن جدل المفارقة (ironie)، بما هي "لعبة...ماهرة وذكيّة بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها على نحو يقدّم فيه صانع المفارقة النّصّ بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى رفضه بمعناه الحرفيّ لصالح المعنى الخفيّ الّذي غالبا ما يكون المعنى الضّدّ" ، وهو المعنى العريق للسّخرية في قيامها على منطق الضّدّية.
الواقعيّ والحكائيّ: المشهد والخلفيّة:
ثنائية الحياة والموت في قصص إيفان بونين ـ جودت هوشيار
نبذة عن حياة وأعمال بونين
إيفان بونين (1870 ـ 1953) أحد الأعلام البارزين في الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد بدأ حياته الأدبية شاعراً ، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره حين نشرت مجموعة أشعاره الأولى، التي نال من أجلها " جائزة بوشكين "، ثم منح الجائزة ذاتها للمرة الثانية حين ترجم عن الشاعر الأمريكي (لونغفيلو) ملحمته الشعرية " هياواثا ".
بيد أن بونين معروف في المقام الأول ككاتب نثر ممتاز، ويعد أهم كاتب للقصة القصيرة بعد تشيخوف. ويتميز أسلوبه بالثراء اللغوي والعمق السيكولوجي. بونين شأن تشيخوف يأسر القارىء في قصصه بوسيلة أكثر من أي متعة أخرى، إن قصصه مواقف آسرة وشخوص فريدة، فالكاتب يجذب إنتباهنا فجأة لما هو عادي تماماً ومألوف عندنا في خبرتنا اليومية والحياتية، ولما مررنا به في الماضي مرات عدة دون أن تصيبنا الدهشة لولا ذاكرته الفنية.
في عام 1909 ـ عندما كان في التاسعة والعشرين من العمر ـ منحته أكاديمية العلوم الإمبراطورية الروسية لقبا أكاديميا تقديراً لإبداعه الأدبي، وهو شرف لا يحظى به، إلا القلة من العلماء والمبدعين.
نال بونين جائزة نوبل في الآداب لعام 1933، عقب صدور روايته " حياة ارسينيف " . و كان أول كاتب روسي يحصل على هذه الجائزة. وجاء في نص قرار منح الجائزة ما يلي: " بقرار من الأكاديمية السويدية تمنح جائزة الآداب لإيفان بونين لقاء الموهبة الفنية الحقة التي تمكن بواسطتها من إعادة خلق الشخصية الروسية بقالب نثري جميل " .
عندما تقرأ قصص بونين لا يمكنك إلا أن تفكر في لغز الوجود الإنساني ومواجهة الإنسان لمصيره المحتوم .
ثنائية الحياة والموت في قصص إيفان بونين
ثنائية الحياة والموت ، كانت واحدة من اهم الثبمات الرئيسية في ابداع ايفان بونين . وقد عالجها الكاتب بطرق مختلفة ، ولكنه في كل مرة توصل الى إستنتاج مفاده أن الموت جزء لا يتجزأ من الحياة.و ليس للأنسان عزاء أو سلوى ، لا في العمل ، ولا في الحياة الأسرية . الحياة اليومية روتينية ومملة، والعمل مرهق ، والناس غرباء بعضهم عن بعض . عندما يأتي الإنسان الى الحياة ، فأنه يندفع على الفور الى نهايته . العالم – هاوية ، مستنقع ، والموت مسألة صدفة . حياة الأنسان لا شيء بالمفارنة مع العالم .
بلاغة الإقناع في النص الشعري: قراءة في ديوان "عودة الخريف" للشاعر المهدي لعرج* ـ د. محمد أبحير
1 – تقديم :
ينخرط هذا العمل في إطار إعادة النظر في المنجز الشعري قديمه وحديثه ومحاولة قراءته من جديد باعتماد آليات تحليلية جديدة ، فـ" متى غيرنا زاوية النظر وطورنا أدواتنا المعرفية في دراسة هذا التراث الأدبي وتجاوزنا الشرح البلاغي و اللغوي البسيط للقصائد أدركنا عمقها وثراءها وقد نقف على منطق خفي يحكم بنيتها ويصل بدقة بين أجزائها المتنافرة في الظاهر " [1].
لهذا فنحن في أمس الحاجة الى مسايرة التطورات الطارئة في أدوات النقد و مناهجه، من أجل قراءة القصائد قراءة جديدة. كما أننا نطمح إلى تأويل جديد للنصوص ،فقد سجنتها مقاييس الدراسات التقليدية، مما أدى الى تشابه نتائج التحليل عند العديد من الدارسين .
وهكذا تصبح القراءة الحجاجية للنص الأدبي ولادة جديدة أو إعادة إنتاج له ، عن طريق استثمار طاقة التأويل، التي ستمكن من الكشف عن الجوهر المكنون الثاوي في الأعماق ،لأنه ليس مطروحا في الطريق ، إنما يحتاج إلى الغوص مرات و مرات إلى أن نظفر به أو بمثله .
إلا أنه لا بأس من التذكير في ختام هذا التقديم، بأن موضوع تحليل الخطاب الشعري من زاوية حجاجية ، ما زال يتلمس طريقه معرفيا و منهجيا ، لهذا فهذه المحاولة لاتعدو أن تكون اجتهادا في هذا المجال الفسيح و الرحب .
قراءة في المتن الحكائي لرواية جيل آخر ( أولاد النصرانية) لأحمد الشطيبي ـ السعيد أخي
تعد الرواية جنسا أدبيا راقيا ، يلجأ المبدع إلى كتابته ، عندما يحسّ بالرغبة في معالجة قضية ما بطريقة فنيّة، ويتسنى له ذلك من خلال مجموعة من المكانيزمات المتحكمة في العملية السرديّة، وذلك عندما تستوي حبال الأحداث في بوثقه ذهن الراوي وتسعفه اللغة للتعبير عن أفكاره بشكل أنيق بلا حدود أو قيود ، فالرواية عمل له قدرة على منح الراوي إمكانات سردية عبر مسافات الأزمنة دون إحساس بالضجر وهذه الإمكانية لا تتيحها الأجناس الأدبية الأخرى.
جاءت رواية (جيل آخر ) باعتبارها تصويرا للأزمة الرّوحية التي يحسها الإنسان المنشطر بين الواقع العيني المفعم بالتناقضات ، والعالم المفترض المثالي الذي ترنو إليه النفس وتتشوق لمعانقته.
إن (جيل آخر) عمل إبداعي يحكي قليلا من كثير، على عكس بعض الأعمال الروائية الأخرى ، فقد كثفت السارد المعنى ولم يسهب في رسم التفاصيل ، لربما لأنه يحكي عن لحظات يضمر فيها المسكوت ويعلن من خلالها المشترك.
هذه الرواية هي عمل إبداعي يشد القارئ من خلال قراءة عتباته ، لا من حيث اللغة أو طرق تشكلها ، ولكن من حيث معالجة قضية ، متشابكة الخيوط ، وصعب في الوهلة الأولى أن يدرك القارئ أو الناقد مرامي السارد الفكرية ، إلا بعد لَأْي.
الحداثة بين قلق السؤال والمغامرة في المجهول : توظيف الأسطورة - بغاديد عبد القادر
يُشير أكثر من دارس لنصوص الشعر الحداثي إلى دور الاسطورة في تكثيف المعنى إلى درجة الإبهام والغموض، وهذه العودة إلى الفكر الانساني في تراثه القديم وثقافته العالمية من الناحية الفنية تبرز اهتمام شاعر الحداثة العربية بالأساطير كونها شكلا من اشكال التعبير يتجاوز لغة التعبير الخطابي « فشاعر الحداثة يبحث عن اشكال يتجاوز بها لغة عصره لأنه في أمس الحاجة إلى جديد يخرجه من دائرة المباشر والواضح».
لقد أرادت حركة الحداثة الشعرية العربية أن ترتفع بالشعر إلى مستوى يتحقق معه الدور الفلسفي أو المعرفي للوجود، أي أن يستوعب الشعر كل ما يطرح من مسائل فلسفية وقضايا اللاهوت وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا فضلا عن السياسة والتاريخ وعلم النفس من خلال امتلاك الشاعر المعاصر لثقافة عالمية في بعدها الإنساني، حيث كونت لديه مخزونا ومرجعيات ثقافية وفكرية نهل منها ما انسجم مع تجاربه الآنية، ومنها الأساطير التي عرفها واطلع عليها وعلى أبعادها الرمزية والإنسانية والدلالية.