يؤشر هذا السؤال المركب، على كتابة غربية حداثية، ترتهن  في سيرورة اشتغالها، بضديدين يتلابسان فيها، إلى الحد الذي يتباعدان فيه عن حديهما، ويعدلان عن قصديهما.
أولهما، الشعر الذي  يخرج عن كيانه الرمزي، ونسقه الإبداعي الإلهامي، ويتجرد من رعشته الجوانية، ويطرح عنه ثراءه الذاتي.
وثانيهما، الرياضيات التي تخرج عن تجريديتها المنطقية العقلية، وانضباطها الموضوعي، وتطرح عنها صرامتها العلمية النظرية.
فهما ضديدان تترتب عنهما، في تلابسهما النصي، احتمالات تسرد لغوي رياضي غير متواتر، فيه من التنوع النسقي ما لم تعهده الكتابة من قبل، فعن تراكبهما ينتظم الشعر تبعا لإجراءات رياضية تبديه لعبة دلائل، التي تؤول به في حركية استرسال الدوال والمدلولات إلى أنساق لغوية مشحونة باللامنتظر، فيكون الهاجس المحرك آنئذ هو "تنصيص" الرياضي ضمن كتابة شعرية تنتظم في اشتغالها وفق إجراءاته، وتختلق لذة لعبية، تستغرق الكاتب، وتأخذ بذهن المتلقي بمتعتها وبتنوع احتمالاتها.
نحن بهذا المنحى الذي يتوالج فيه الشعر مع الرياضيات، إزاء سؤال ينسحب على كتابة، تنم عن استراتيجية لعبية، يتلابس في صميمها النسبي بالإطلاقي، والذاتي بالموضوعي، والمعرفي بالتمرني، والتأويلي بالوصفي تلابسا يحدو بها إلى ارتياد أفضية كتابة الغرابة.
فإلام تنسب هاته الكتابة؟

" أبرزت التجارب النقدية العميقة أن التحليل هو محك كل ادعاء نقدي  على أساس أن يكون التحليل مقنعا و منسجما "  : محمد أنقار  
 
الأدب و تعميق الوعي الإنساني :
شهد النقد الأدبي العربي في الثمانينيات و التسعينيات من القرن العشرين صحوة بالغة الأهمية ، بفضل انفتاح الدارسين و المعنيين بمقاربة المعطى الأدبي على الفكر النقدي العالمي  ، و نجاحهم في أكثر من محطة في التوفيق الإيجابي   بين ما زخر به تراثنا الأدبي من رؤى نقدية راجحة و بين اجتهادات إنسانية معاصرة ، توخت الانتقال بالمنجز النقدي من وضعية التناول العفوي و ربما الذاتي إلى وضعية النزعة العلمية العقلانية ، و في هذا السياق هيمنت في هذين العقدين الساخنين تيارات نقدية رامت ملامسة نصية العمل الأدبي " داخليا " ، و ذلك بالانطلاق من " قناعة " مفادها أن العمل الأدبي شعرا أو سردا أو مسرحا يكفي ذاته بذاته ، و بالتالي فإن مهمة النقد الأدبي تنحصر في الغالب في استجلاء " أدبية الأدب " أي المكونات الأدبية الثابتة في النصوص الإبداعية ، ابتداء من مساهمة الشكلانيين الروس و مرورا بالجماعات النقدية البنيوية و النزعات السيميائية و التفكيكية .. و لئن كانت مختلف هذه الجهود المعرفية قد استقرأت جل الآليات المتحكمة في التكوين و التكون الأدبي الداخلي و بشكل يثير الإعجاب ، إلا أنها ظلت دون مستوى تطلعات النقد الأدبي بحصر المعنى ، ذلك النقد الذي لا يقبل الاقتصار على إعادة بناء جزئيات النصوص و الدوران في محراب هيكلها الثابت ، بقدر ما يروم محاورة الإبداع الأدبي لتعميق الوعي البشري بوجود الإنسان و العالم المحيط به . و لعل الناقد المغربي محمد أنقار ( 1946 - 2018 ) من النقاد العرب القلائل الذين كانوا مدركين لمخاطر  المواكبة غير المحكمة للمناهج النقدية الحديثة ، و المبالغة في القراءة المبتسرة للإنتاج الأدبي .

لاشك أن التعصب، بمعناه الإيجابي الذي يحيل على الاعتزاز و الاستعلاء، هو أحد البُنى الكامنة في أعماق كل جماعة بشرية. وقد يشكل وقودا للتضحية و البذل والريادة. إلا أن المشكلة تكمن في تغلب جانبه السلبي، واستهدافه العلاقة مع الآخر. لذا من الطبيعي أن يرتبط المفهوم ذاته في أذهان الناس بصور التحامل و الإقصاء، وطغيان الدم لغة وحيدة لتأكيد الذات.
بخلاف الباحثين الاجتماعيين، يقدم "القارئ" والمؤلف الموسوعي ألبرتو مانغويل نهجا مغايرا لتناول قضايا الهوية والتعصب، ورصد سبل التعايش واحترام التعددية الثقافية. حيث تسمح الرحلة إلى عالم الكلمات والقصص، ومتعة الإنصات إلى الروائيين و الشعراء باستعادة المفاتيح المخبوءة في دولاب الفكر و الأدب، لتبديد سوء الفهم، وتدشين سلسلة من القراءات المتجددة لتمتين الرابط الإنساني.
يقدم مانغويل عبر (مدينة الكلمات) تجربته الخاصة في محاولة تهدئة العالم عن طريق الكلمات، ومنح اللغة الإبداعية فرصة تجميع هوياتنا المشوشة و الحائرة. من يدري؟ فقد تنجح القصص في مَدنا بالقدرة على احتمال العيش المشترك وتغيير العالم !      
تجربة المنفى طورت إدراك الروائي الألماني ألفريد دوبلن للغة لتصبح أداة تعيد صياغة الواقع وفهمه. إنها صيغة من حب الآخرين الذين لا نحتاج إليهم قطعا كي نتنفس، لكننا بحاجة إليهم للتحدث !

Anfasse2203344إذا شيعوني يــــــــــوم تقضى منيتي
وقالـــــــــــوا أراح الله ذاك المعذبـــــــــا
فلا تحملوني صامتين إلى الثرى
فإني أخاف اللحد أن يتهيــــــــــبا
وغنوا فإن الـــــــــــــــموت كأس شهية
ومــــــــــازال يحلو أن يغنى ويشربا
ولا تذكروني بالبـــــــــــــــــكاء وإنما
أعيدوا على سمعي القصيد فأطربا
وصية العقاد لمشيعي جثمانه

رحل العقاد الجبار في آذار من عام 1964 ومن عجائب الأقدار أن يكون يوم دفن جثمانه بمسقط رأسه أسوان هو يوم 13 مارس هل غلب الرقم 13 العقاد الذي تحدى مظاهر الشؤم ومنها الرقم 13 نذير الشؤم والنحس؟ العقاد الذي يعيش بعقل الناقد والممحص وبروح الاستعداد والمواجهة بارز حتى هذا الرقم لا مبارزة دونكشوت لطواحين الهواء لكن بفروسية أبي زيد الهلالي فسكن في البيت رقم 13 بشارع السلطان سليم بمصر الجديدة واختار يوم 13 لإعادة بناء بيته القديم بأسوان هل هزمه هذا الرقم ؟ كلا وإنما هي محض مصادفة.

يكثف عنوان القصة الأولى" أطفال بلد الخير"لمحمد زفزاف الواردة ضمن المجموعة القصصية الموسومة ب "العربة " مضمون القصّة نفسها ،وقد تختزل دلالته الرؤية الفكرية للكاتب المتحكمة في المجموعة ككل.
جاء عنوان القصة تركيبا اسميا ف"أطفال " مبتدأ ،وهو مضاف ،و"بلد" مضاف إليه و"الخير "مضاف إليه كذلك .في حين أنّ الخبر يمكن تقديره انطلاقا من القصة ذاتها ب "جائعون ".
نلاحظ أن كلمة (أطفال)معرّفة بالإضافة ،وليس بأل ،وهناك فرق دلالي ينتج عن  حالتي التعريف هاتين .فالتعريف بأل يضفي على المعرّف سمة التّحدد والتعيّن من تلقاء ذاته .أمّا التعريف بالإضافة ،فينزع عنه هذه السّمة ؛إذ يجعله مفتقرا إلى غيره ،كافتقار (الأطفال )إلى خير (البلد).
إنّ العنوان يصوّر البلد كرقعة جغرافية مفتقدة لأي بعد إنساني ،فالبلد مجرّد وعاء لا غير بالنّسبة للأطفال الذين لا حق لهم في خير بلدهم .
وتتضح دلالة تعريف البلد بالإضافة عند مقابلتها بدلالة تعريف كلمة الخير.،فتعريفها بأل يدل على التّحدّد والتّعين ،فخير البلد إذن ،حقيقة ثابتة.وإذا كان الأطفال لا يستفيدون من ثرواته ،ويتضح ذلك من قول السارد :"وهناك ثلاثة أطفال بعيدون عنه بعدّة أمتار يتحرّشون به ،وهم يأكلون قشور البرتقال[1]".ويعانون من الجوع "لكن مع ذلك فالخير موجود ،وبالرّغم من أنه موجود ،فقد كان الأطفال خلف الضاوية جياعا [2]".
إن هناك من يحرم الأطفال الثلاثة من إشباع جوعهم ،ويستفيد من إبقائهم على الطوى ،وهو ليس فردا ،بل طبقة اجتماعية ،مستغلة ترمز إليها القصة ب "الفيلات "
نقف بدءا من العنوان إذن ؛على موضوع القصة .بما هو تصوير لواقع الصراع الطبقي بالمغرب.
-في المتن :
تصوّر القصة صراع الضاوية من أجل العيش ،وذلك من خلال بيعها للبرتقال،و تحملها مسؤولية تربية ابنها تربية صالحة بمقاييسها الخاصة ،هكذا تجهد نفسها لثنيه عن مرافقة أطفال الشارع ،هؤلاء الذين يتضورون جوعا ؛مما يدفع بهم إلى التخطيط لسرقة بضع ليمونات من ليمون الضاوية .وحين يغير القمع على الباعة ،وتفرّ الضاوية تاركة وراءها ما تبقى من سلعتها البرتقالية ،يتعاورها أطفال الشارع ،ويشرعون في التهامها غير عابئين بما يدور حولهم.

مقدمة:
          لقد جرت مياه كثيرة عبر التاريخ، في أنهار الدراسات الأدبية، من نقد –بشتى مذاهبه- في محاولة لحصر المجال الأدبي، وتحديد العلاقات الثقافية داخل الأنساق والبنى، أو خارجها، وقد كانت كل محاولة، سعيا للتخلص من "تكرار كل الصيغ الجاهزة والسعي إلى تحيين الاشكاليات من منظور تنقيدي يربطها بانشغالات الحاضر وأسئلة المستقبل.[1]" وحفاظا على المحلية وصونا لخصوصياتها. فكان ذلك إعلانا لظهور الدرس الأدبي المقارن، باعتباره درسا لعلاقات الأسباب بالمسببات، وأيضا درسا للنقد الجديد في تحديد مدى تداخل وسائل التعبير، في محاولة صريحة لردء التصورات المتشبثة بالبعد المحلي، والانفتاح من خلال تلك الانتاجات على بعدها العالمي، إنها دعوة لتجسيد مفهوم العالمية، واختراق تلك الحدود الوهمية التي تحصر الانسان في جل المستويات.
         يعد علم الادب المقارن من العلوم الحديثة، ومن المعروف أن منشأه كان في فرنسا، على الرغم من أن طبيعة الموازنة بين الأدباء في لغة واحدة أو لغات مختلفة كان أسبق، وذلك ما جعل بروزه كعلم مستقل بذاته، متميز بخصوصياته وقواعده المنهجية، لا يكون إلا في القرن التاسع عشر ميلادي، يقول هنري باجوD.H. PAJO  في هذا الصدد أنه في 12 مارس1830[2] "أخذ نوع  جديد من البحث طريقه إلى الولادة في فرنسا في سنوات ظهور الرومانسية والليبيرالية."[3] وكان وراء هذا الظهور دعوة من مختلف الباحثين والأدباء ممن "يؤمنون بالانفتاح الأممية، وينكرون كل نزعة إلى الانغلاق والانعزالية."[4]، وتأخر هذا الظهور كان مرتبطا بإثارة جدل في تحديد مفهومه حسب الأقطاب والمدارس، وتؤكد سوزان ياسنت  SOZAN YASNETعلى أن جل الباحثين في هذا المجال "اتخذوا منطلقات مختلفة في تعريف المصطلح... ولم يلتقوا في نقطة محددة."[5] وهذا ما خلف تشرذما في رؤى لا تؤسس لمفهوم ثابت للأدب المقارن، وهذا ما كان سببا في إثراء هذا العلم من خلال ابتكار نظريات حديثة حاولت جعله علما متكاملا.

لا أميل الى قراءة أدب الحرب، أو مشاهدة الأفلام الحربية ، فقد أتخمنا بمئات الروايات والأفلام عن الحروب ، التي لم تتوقف يوما في التأريخ البشري ، ولكنها باتت أكثر بشاعة ، مع تطور آلة القتل .  وضاع عمر جيلنا في أجواء الحروب ، ما أن نخرج من حرب ، حتى تداهمنا حرب جديدة أشد ضراوة من سابقتها ، وليست ثمة حروب جيدة ، وأخرى سيئة ،  كما تزعم البنتاجون ، فهي كلها مآسي ودماء ودموع .
كانت رواية " الأشبال" هي اول ما وقع في يدي من نتاجات الكاتب الأميركي " اروين شو"
و" الأشبال " عنوان ، لا تشمّ منه رائحة الحرب ، ويتبادر الى الذهن ، أنها ربّما رواية عن الحيوانات ، أو الصيد في مجاهل أفريقيا. ولم أكن أعرف أن شو ، أعد لنا – نحن الذين لا نقرأ أدب الحرب – مقلباً ذكياً ومثيراً . فما أن تبدأ بقراءة الصفحات الأولى منها ، حتى تج د نفسك أمام شخصية جذّابة - فتاة أميركية جميلة تظهر في الفصل الأول من الرواية ، ثم تصحبك  من جديد في بعض الفصول الأخرى ، لتجد نفسك في أجواء أشرس معارك الحرب العالمية الثانية ، وتتابع بشغف مصائر الشخصيات الرئيسية للرواية، وهم ثلاثة جنود –أميركيان اثنان وثالث ألماني .

هندسيا يتّسمُ الفعل الإبداعي لدى مثل هذه القامة ،بانتشاره الدائري المنطلق من وإلى جوهر الإشكالية الإنسانية بدرجة أولى ،عبورا إلى منظومة ما يحقّق استنفار متتالية الزوائد التي قد تشكّل وجود الذات في أقرب حالاتها إلى التلاشي والانهيار.
وبحيث لا يحفر الدّفق التعبيري إلاّ على مقاسات منسوب جلد الذات،عبر انسكابات هذيانية وقف على حلزونية توبيخ راهن اضطهاد المادة والكائن ،على نحو هيستيري وغير مسبوق.
من هنا تحوز قصائد الشاعرة السورية ريم سليمان الخشّ مصداقيتها وسلطتها على القلوب، وإن أعلنت اكتظاظها وتكتّلها في سياقات خليلية مهيمنة لا تزيغ إلى شعر التفعيلة إلاّ فيما ندر.
صوت الأنثى المتمرّدة على صنوف اغتصاب الهوية وسحق طفولة الوطن، رافلا في صوره الغضّة مثلما يمليها شريط استذكار يناور بـــــإرسالية "نيوكلاسيكية" مدغدغة و مفتوحة على تكعيب الذات ،داخل تخوم ما يؤثّر فيها وتؤثر فيه من مكونات وعناصر.
هكذا نعيش بميعة ريم وهي تهدل مغرقة في تلوين أوجاعها التي تكاد تختزل وجع شعب كامل، وأحيانا ما يتخطّى كهذا غرض، إلى انخطافات و طقوسيات مستترة،تغذي المشترك الإنساني ،نعيش القصيدة داخل قصيدة.
فنجد الغربة لديها مضاعفة ،وتفجير العاطفة مزدانا بأسيّته وتعدّد دواله.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة