يتضمن الفن عنفا حادا. يحضر الدم والعنف والموت في أعمال الفنانين الكبار. فمنذ سربندات بروجيل حتى ساحرات غويا، ومن طوباويي رامبرانت الى اللحوم الشائهة لباكون، ظل العنف دائما في قلب الفن الأحمر، الصارخ، الكلي الوجود. اليوم، تخطى الفن التشكيلي مرحلة جديدة. لم يعد الفنانون المعاصرون يكتفون بتمثيل العنف، بل أصبحوا يشخصونه. إنهم يستعملون اللحم والدم كعناصر تدخل في تكوين لغتهم الفنية. يبترون أجزاء من أجسادهم تارة ويعرضون جثامين الحيوانات تارة أخرى. في الغالب الأعم، يسيل الدم بشريا كان أم حيوانيا. كيف نفسر هذه الظاهرة؟ وماذا يعني ذلك؟ هل أصيب هؤلاء الفنانون بالجنون؟ لأجل الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نقوم سويا برحلة إلى عوالمهم. سوف تكون تلك رحلة صادمة ومثيرة وأخاذة.

قي الواقع، تفسر مزايداتهم وعنفهم وتصلبهم بمشوار فني طويل يعود إلى بداية القرن الماضي حيث كان الإصرار على إيجاد أدوات أخرى وعلى التعبير بطريقة أكثر قوة وعنفا وأصالة. وكان الانطباعيون قد استبدلوا توصيف المشاهد بالتعبير عن أحاسيسهم الذاتية وانفعالاتهم الشخصية. كانت تلك طريقة في استثمار ذواتهم بشكل أعمق لإنجاز أعمالهم الفنية وفي تكسير المسافة الفاصلة بين الفنان ولوحته. في القرن العشرين، ذهب هذا الاستثمار إلى أبعد من ذلك؛ إذ أقدم في 1916 تيستان ثارا والفنانون الدادائيون على إدماج أجسام عينية وحضور مادي في أعمالهم، وجسدوا هكذا ادعاء الفن بأنه يمثل الطبيعة. تخلى هؤلاء الفنانون عن مواضعة المتاحف والتجأوا إلى أمكنة أكثر واقعية كالمقاهي والحانات والشوارع. لم تعد المسألة هي الاختباء وراء اللوحة والصورة والرمز. من الآن، غدا الواقع يستعمل كعنصر خام وغني ومباشر لأجل الكشف عن الوجه الآخر للديكور، كذلك سوف يقرض الجسد ذاته عن طريق الروح بصورة مفارقة.

يعرف المشهد الروائي المغربي، تأليفا ومتابعة ونقدا، حركة حيوية ونشاطا دؤوبا منذ سنين عديدة، ولعل مساهمة ثلة من الأسماء الجديدة بإنتاجاتها الروائية، وحرصها على مواصلة الكتابة، والمضي قدما في درب الإبداع الطويل، زاد من حركية ونشاط هذا المشهد. ومن بين الأسماء التي سعت إلى تأكيد حضورها في الساحة الأدبية، وخوض رهان التطوير والإضافة النوعية لصيغ الكتابة الروائية؛ الكاتب المغربي مصطفى الورياغلي الذي أصدر روايته الأولى "جنة الأرض" سنة 2013، قبل أن يُثنّيَها سنة 2016 بروايته الجديدة "أبواب الفجر"، التي تخيّرتها هذه الورقة كي تكون موضوعا للقراءة والمساءلة والتذوق.
إن أول ما يستوقف القارئ لرواية "أبواب الفجر" عنوانها الذي فضله الكاتب من بين عدة عناوين لا شك أنها قد انثالت عليه ، قبل أن يطمئن إلى هذا العنوان الذي وجد فيه - ربما- قدرة على الإيحاء إلى عوالم الرواية، أو إثارة تحفز على  الإقبال عليها ، قصد قراءتها والكشف عن ملابساتها وخباياها.
عند الوقوف على هذه العتبة النصية، يتبين أنها تندرج ضمن فئة العناوين الخبرية، فهي عبارة عن جملة اسمية خبرية ، تتكون أساسا من خبر لمبتدإ محذوف تقديره هذه(هذه أبواب الفجر)، ولما كانت هذه الأبواب موضوع الإخبار في هذه الرواية وعليها مدارها، فإن ذلك يدفع المتلقي إلى التساؤل عن طبيعة هذه الأبواب التي ستدور حولها القصة، خصوصا أن إضافة كلمة "الفجر" إلى "أبواب" زادت من التباس وغموض المراد منها، فالفجر   – كما هو معلوم – هو وقت انكشاف ظلمة الليل عن نور الصباح، وقد يكون هذا الفجر –حسب تقسيم الفلكيين- صادقا أو كاذبا، الأمر الذي يعمّق المفارقة الدلالية بين الكلمتين ويباعد العلاقة بينهما، لارتباط الكلمة الأولى بالجماد وإشارة الثانية إلى الزمن، لنكون بذلك أمام جملة مجازية تقوم على تكسير العلاقات المنطقية بين الأشياء، فاتحة مجالا واسعا لمحاولة الفهم والتفسير والتأويل،عاملة على إغراء القارئ للدخول إلى عالم النص، قصد مضاهاة توقعاته وﭐفتراضاته ، بما يقدم له العمل من تعابير وأحداث وشخصيات وعوالم حكائية وسردية.

   «الناس تمر على الأشياء دون أن تلاحظ شيئا، الناس تحسب الحقيقة جامدة، تُلقَّن أو تُحفَظ.. الحقيقة اكتشاف دائم، هي مدى مطابقة فكرة للواقع.. في مساجلات سقراط، يحسب الناس الحقيقة ما سمعوا أو لُقنوا، فإذا أعملوا عقلهم ألفوا أن ما يعتقدون ليس الحقيقة. والمعتقدات هي الأفكار العامة التي يرتبط بها مجتمع، ولكنها ليست بالضرورة الأفكار التي يمكن أن يتقدم بها، بل قد تصبح وزرا تصده عن الحركة. المعتقدات تملكنا، والأفكار ملك لنا. أثقلت عليك أيها الحمار الفضي. هو عيب المهنة.. تفضل.. هنا بهذا الكهف أعيش، ليس به باب، ومزيته الكبرى هو أني أشرف على أليلي.. تبدو المدينة صغيرة من هنا، قضاياها كلها تبدو من هذا الكهف صغيرة...»[1]
*     *     *
     وردت هذه الصورة في سياق محاورات الحكيم للحمار، التي انفتحت على موضوعات عدة، بدون ترتيب أو تنظيم، فجاءت كأنها خواطر عفوية ورؤى تلامس قضايا وجودية  وهموما إنسانية عامة وخاصة. وواضح أن الصورة تتأرجح على عمودين متقاطعين كقطري دائرة، أحدهما يجسد تأرجحا بين التحامل والعتاب من جهة، والتوجيه والتعليم من جهة أخرى، والثاني يجسد تأرجحا آخر بين الحقيقة من جهة، والمعتقدات والزيف من جهة أخرى. فلا يخفى إيقاع التحامل على الناس بسبب أنهم يحسبون الحقيقة جامدة، وهو كلام يحيل على ما عاينه البطل أسنوس في مغامراته ومشاهداته، سواء لدى سكان أليلي الذين ركنوا إلى رواية السلطة حول مقتل أذربال وحول التلويح بمؤامرة وخطر يتربص بالمدينة، أو لدى بني سنوس وبني ييس الذين يعتقدون بالأساطير التي ينسجها أعيانهم ويقدمونها على أنها حقائق قطعية. ولا يخفى كذلك إيقاع التعليم والتوجيه في شرح الحقيقة من خلال قول الحكيم «الحقيقة اكتشاف دائم»، وهي عبارة تعني أن الحقيقة تكتشف بإعمال العقل والموازنة بين الفكر والواقع.
     [1]ثم لا يخفى حجم الهجوم الذي تشنه الصورة على المعتقدات وتلقي بها في زوبعة من الشك والتمزيق، في مقابل إعلاء شأن العقل وتمجيد الأفكار التي هي بنات العقول.

أـ في العنوان.
  يطل الروائي عبد النبي بزاز ، أيقونة البوح ، على القارئ عبر كوة السؤال ؛ هل سأعود يوما ؟ وللسؤال ثقافته . 
 عندما يصبح للسؤال سلطة ، يُرتهن توهج النص . فضلا عن وضعه للمتلقي أمام خارطة تلقي الخطاب . إن الكاتب، من هذا المنظور، يريد من عاشقيه أن يكونوا في الحدث، مستكملين دورة الإبداع. عن طريق ملئهم الحفر التي تركها الروائي خلفه ، عبر تقنيات السرد المعروفة ؛ يتخطى الزمن ، يلخبط  الكرونولوجيا  ، يثب إلى الأمام ، يستدعي الحلم عن طريق الفيد باك . كلها تقنيات عجَّ بها النص الروائي . 
ـ "هل" من حروف الاستفهام، تفيد التصديق. بما هو إثبات النسبة بين شيئين. لذا يُنتظر من المتلقي الإجابة بالنفي أو الإثبات. ويؤسس الكاتب ، بذلك ، جسور التواصل مع القارئ ؛ كي يرتفع منسوب التفاعل ، بما هو أقنوم الإبداع و الغاية منه. 
ـ من الصورة المصاحبة و العنوان " العودة " ظلال المعاني و إيحاءاتها .
إن العودة تشي بالهجرة بما هي رحلة من... إلى ... سواء داخل الوطن أو خارجه. يتغير معها المكان ، يتغير معها الهواء ، تتبدل معها السلوكات . فالهجرة سفر وجودي تتحقق فيها الذات . تفضح وتعري واقعا هشا أو مزيفا أو أنانيا أو مكيافليا . فالهجرة الوسيلة و الأداة التي وُظفت واستعملت بطريقة ذكية ؛ لفضخ الاختلالات و اللاتوازنات بين عالمين متناقضين . عرى الكاتب  شراسة الإدارات العمومية تجاه المواطن ، و رفع الستار عن مصاصي الدماء ، الذين عاثوا في البلاد فسادا ، يقول :" الله يرحم والديك خاصني نمشي للبلدية ... طفق يتأمله كأنه يراه لأول مرة...  " ص.28

تأتي دراسة جوليا كريستيفا  Julia kristevaللمدلول الشعري في إطار أنه يحيل على مدلولات خطابية مغايرة، حيث إننا يمكن أن نقرأ خطابات متعددة داخل الملفوظ الشعري، بشكل يجعلنا نخلق فضاء نصيا متعددا حول المدلول الشعري. وإذا ما أخذنا الملفوظ الشعري داخل هذا التعدد أو التداخل، سيشكل مجموعة صغرى لمجموعة أكبر هي فضاء النصوص الموجودة في محيطنا الثقافي.
هذا ما يضفي على المدلول الشعري طابعا تعدديا، فهو مجال للتقاطع، ولعلاقات متبادلة. وهذا التقاطع بين عدة خطابات داخل النص في اللغة الشعرية، قد أشار إليه دوسسيرDe Saussure في  “الجناسات" التي تساهم في بناء خاصية أساسية لاشتغال اللغة الشعرية، يعني امتصاص نصوص متعددة داخل الرسالة الشعرية التي تقدم نفسها من جهة أخرى باعتبارها موجهة من طرف معنى معين. ومن الواضح أنه لا يمكن اعتبار المدلول الشعري نابعا من سنن محدد إنما هو تقاطع لعدة شفرات تجد نفسها في علاقات متبادلة.
        يسمح السيميائي بهذه التحولات داخل الممارسة النظرية ، بخرقه للنظري، وهذا ما تسميه جوليا كريستيفا بالإبداع. يبدو هذا الفيض السيميائي في اللغة الشعرية حيث تعاد نمذجة النظام الرمزي. إن اللغة كممارسة اجتماعية تستدعي صيغتي السيميائي والرمزي، التي تتركب لأجل تكوين أنماط للخطاب. فالخطاب العلمي يميل إلى اختزال السيميائي، بما أنه يستلهم الميتالغة.
     ترى جوليا كريستيفا أنه عند امتلاك اللغة وممارستها عند البالغ يتمركز التلفظ على اعتباره يمثل تكونا للوحدة الذاتية من جهة، يعني انفصال الأنا عن جسد الأم ومرحلة المرآة، ووضعية الآخر كموضوع ومرسل إليه، وإدماج للسيرورات الغريزية السيميائية من جهة أخرى. فالإسناد أو التلفظ، يظهر كممارسة تناقضية، وهذا التناقض يوجد مع التناقض الذي يمثل الذات المتكلمة انطلاقا من الجسد. فالجسد هو نفسه يصبح حمولة توليدية متحركة، واستبدالا اجتماعيا، وموقعا للتغييرات الطبيعية والاجتماعية، بما أن الحمولة التوليدية هي تشكل تمفصلا سيميائيا لإجراء الذات، ومنطقا توزيعيا، يتجاوز الجسد داخل الفضاء الاجتماعي، ليخلق ذلك التحول في المواضيع وفي العلاقات بالآباء وبكل الشريحة الاجتماعية.

كوجيطو المعدم: أنا أموت إذن أنا موجود
الجوع أيضا أسلوب في مقاومة الموت، تقنية في البقاء حيّا. في رواية " في بلد الأشياء الأخيرة " لبول استر، كتبت آنّا بلوم لصديقها :" .. لولا جوعي لما استطعت أن أستمرّ. على المرء أن يتعوّد على الاكتفاء بأقلّ قدر ممكن. فكلّما قلّ ما يريده، رضي بالقليل، وقلّت حاجته، وأصبح في حال أفضل. هذا ما تفعله المدينة بك.." تلك المدينة الأوروبيّة التي خرّبتها الحرب العالميّة الثانية وصار فيها الجوع " لعنة تحلّ في كلّ يوم. والبطن حفرة لا قاع لها، بحجم العالم"، ممّا جعل عدد النحيلين جدّا يتكاثرون حدّ أنّهم "أحيانا تذروهم الريّح، والرّياح في المدينة شرسة" ممّا يجعلهم "يتجوّلون في جماعات من اثنين أو ثلاثة. وأحيانا عائلات بأكملها ترتبط معا بحبال وسلاسل لكي يدعم بعضهم بعضا في وجه الهبّات القويّة".
والجوع قبل ذلك، فنّ من الفنون التي عرفت في عصور خلت فترة ازدهار. في قصّته "فنّان الجوع" يرصد كافكا سيرة حياة أحد فنّاني الجوع العظماء في عصره. لكن، بأيّ معنى يكون الجوع فنّا استعراضيّا؟ أيّ جماليّة في عرض جسد أخواه السّغب المنظّم حتى قبّحه؟ ما وجع السّعادة في التقاط صورة تذكاريّة إلى جانبه؟ أيّ نفعيّة من هذا النّمط الفريد من الفنّ؟

إشكال كبير يمكن أن يطرح في هذا المحور ألا وهو لماذا اختار الجنس الروائي الحديث عن الآخر وجعله موضوعا للكتابة ، وحينما نتحدث عن الآخر هاهنا فنحن لا نقصد به الغريب الغربي وإنما أيضا الآخر في الجنس –ذكر في مقابل أنثى- ولماذا انصب اهتمام الكثير من المبدعين على موضوع الآخر.تفيد ماجدة حمود بقولها:"إن هذا الفن يستطيع عبر إمكانياته السردية والجمالية ،أن يفضح أوهام الذات وانحرافاتها الفكرية والشعورية.خصوصا حين تسجن الآخرين في انتماءات ضيقة (مذهبية أو عرقية إلخ...)مثلما يستطيع التغلغل إلى أعماق الروح الإنسانية، ليبرز قدرتها على تجاوز هذه الانتماءات ، والدخول إلى عوالم رحبة تحرر الإنسان من إكراهات تربى عليها "[1]

جاءت رواية صيف في ستوكهولم تحمل في طياتها حوارا مع الآخر.انفتاحا على تقافته وتقاليده وعاداته.بالرغم من أن كاتب الرواية مغربي الأصل والنشأة إلا أن بطل الرواية وساردها إيطالي الجنسية.فكان الخطيبي حذقا في محاولته لتبني أفكار وديانة الآخر الغربي لكن ألا يخلو هذا التقمص من نفحات شرقية عربية يظهرها لا شعور السارد؟هل فعلا نجح الخطيبي في إيهامنا بأن بطل روايته شخص غربي يمثل الآخر بالنسبة لنا ؟ أم أن نزعة الأنا العربية ظلت حاضرة تجابه الآخر الغربي؟ما الذي يحاول الخطيبي إيصاله من خلال هذا النص الذي اعتمد فيه على شخصية من وسط غربي لتروي أحداث روايته؟ كل هذا سنحاول اكتشافه من خلال الحوارات التي ضمها المتن المدروس.
تفيد ماجدة حمود دائما في هذا الخصوص على أن الاهتمام بالذات يخلف نوعا من التضخم وعدم قبول الآخر مما يترتب عنه من رفض وإقصاء فتدلي بما يلي "إن دراسة هذه الإشكالية ،تتيح لنا فهم خصوصية الأنا التي تتشوه حين تقوم على تعظيم الذات ،وتنطلق من نظرة واحدة إقصائية تحتقر كل ما يختلف معها.مثلما تتيح لنا فهم خصوصية الآخر المختلف الذي يبدو ديموقراطيا في حياته الخاصة وفي إبداعه الروائي .لكنه في ممارسته السياسية يقهر المختلف عنه، خاصة العربي والمسلم ويصبه في قالب واحد(الإرهاب ،الكسل ،القذارة ،اضطهاد المرأة...)[2] .

إذا كان لا بد من كلمة تقال في شعر التفعيلة أو الشعر الحديث كما يحلو للبعض تسميته تكون مفتاحه أو تلخص مساره أو مضمونه فلن تكون تلك الكلمة غير كلمة الرفض، إنه شعر استهل مشواره الإبداعي بالتمرد على عمود الشعر الكلاسيكي، ولئن حاول بعض الشعراء المحدثين التجديد في الشعر باطراح التقليد والتكلف اللغوي بانتقاء اللفظ البراق والحرص على الصدق الفني والتأكيد على التجربة الوجدانية شأن الرابطة القلمية وجماعة الديوان وجماعة أبولو فإن رواد الشعر الحديث رفضوا هذا الموقف مصرين على الثورة حريصين على سلوك مسلك في الشعر فريد من نوعه لا يكتفي من التجديد بما سلف ذكره، بل يرفض عمود الشعر ويتمرد على القافية لأنها تخنق روح الإبداع وتؤكد تبعية الشاعر للغة فضلا على الإصرار على روح التقليد و رتابة الماضي.
وهكذا فالشعر الحديث استهل رفضه بالثورة على القالب الشعري زاعما أن القالب التقليدي لا ينسجم مع روح العصر و لا يلبي الاحتياجات الفكرية و الجمالية المستجدة خاصة و عصرنا هو عصر العلم والديموقراطية والحرية الإنسانية – حرية الفكر و المعتقد – وعصر حصلت فيه المرأة على حقوقها ناهيك عن تأثير الإحتكاك بالثقافة الأوروبية التي تدمر روح الجمود لحساب روح الإبتكار وتؤكد على المضمون الإنساني و تحرص على احترام فردية الإنسان وتميز كيانه الفكري و الإيديولوجي والتي هي في النهاية خلاصة التجربة الديموقراطية المنبثقة عن الثورة الفرنسية و إعلان حقوق الإنسان هذه القيم التي تمثلها شعراؤنا المحدثون وتبنوها كقناعات فكرية ومن ثمة تبلور الرفض وتحتمت الثورة كصرخة عميقة تزلزل الروح موقظة إياها من سبات عميق وخدر فكري زين للإنسان العربي أوهام الماضي على أنها حقائق وفي مقدمتها فكرة تاريخية عميقة تداولتها الأجيال على أنها مسلمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي فكرة المركزية ونعني بها اعتقاد العربي أنه مركز التاريخ ودرة الوجود وحامل لواء الحقيقة وما عداه فذيل أو هو على الهامش، لا هو في العير و لا هو في النفير وقد انتهت تلك الأفكار بالعربي إلى إدانة العقل و تبني التقليد وانتشار الثقافة الفقهية على حساب الثقافة العلمية ووئدت الحرية و أجهز على الروح الإنسانية في المرأة وهمشت أحقابا طويلة كما استبد الحاكم وعبث بالإنسان وبالمال العام فعمت الجهالة وانتشرت الفوضى وترسخت الطبقية و أصبحت الحياة العربية إلى تاريخ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 حياة عبثية مجردة من القصدية انتهت بالعالم العربي إلى الوقوع فريسة سهلة بين مخالب القوى الاستعمارية الفرنسية و الإنجليزية خاصة كنتيجة حتمية لتراكمات العصور السابقة بظلالها القاتمة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة