أنفاس لقد اقترن الشعر الحديث بضياع الإنسان في عصر الآلة، ومن ثم سعى الشعراء الحداثيين إلى خلق حساسية جديدة، وتصور جديد للواقع الذي أصبحوا محكومين به. ومن هذا المنطلق دعوا إلى النقمة على العصر الذي يسير نحو تدمير كينونة الإنسان ووجوده، والتصدي لكل ما من شأنه أن يهدد طمأنينة النفس والوجدان. ولهذا طغى الحس النقدي الساخر من العالم، والدعوة إلى انتهاك أعراف الإذعان المألوفة.
وقد شكلت المدينة باعتبارها ثمرة التطور الذي قاد إليه النظام الرأسمالي بقيادة البورجوازية الوطنية في أوربا إلى ظهور حساسية جديدة لدى الشعراء الطليعيين الذين وجدوا أنفسهم سجناء فضاءاتها الواسعة، وغير طلقاء بين واجهاتها الخادعة؛ ولذلك راحوا يبحثون عن مظاهر الزيف فيها حتى وصلوا إلى تبني مواقف معادية لها باعتبارها سالبة للحرية المطلقة التي كان ينشدها الشاعر.
أما على المستوى العربي، فقد اتخذ موضوع المدينة في المتن الشعري لشعراء الحداثة اتجاهين اثنين:
الأول: كان أصحابه قد وقعوا تحت تأثير شعراء أوربا، وأعادوا نفس تصورهم لمدنهم، مع فارق جوهري لم يدخلوه في حسبانهم، وهو الفرق الشاسع بين المدينة كإنجاز حضاري صناعي تجاري مالي واجتماعي في أوربا، وبين وضع المدينة كحشد سكاني ممسوخ ليس إلا في الواقع العربي.
الثاني: كان أصحابه منساقين لإيديولوجيا رافضة لفضاء المدينة كسالب للحرية، وكعائق للانطلاق نحو قيم مدنية جديدة تقطع مع ثقافة الوصاية والإذعان التي لازال حراسها يطوقون شوارع المدينة ليحرموا أبناءها الهدوء والسكينة، والتمتع بالقيم الليبيرالية الجديدة. ومن ثم ألح الشعراء على أن المدينة العربية ما هي في حقيقة أمرها سوى فضاء للهموم والفواجع، للعذاب والغربة والتشرد، إنها الوجه الحقيقي لتصور السياسيين للوظيفة التي يجب أن تضطلع بها المدينة، وتتمثل في مسخ إنسانية الإنسان، وملاحقته وتدجينه.
ومن هنا اقترنت المدينة في المتن الشعري الستيني في سورية بالوطن.

أنفاسلعل القارئ المعاصر يعاني من الصعوبة في اكتشاف جوهر الرواية التي يطالعها .. لان ((الرواية ليست شريحة من الحياة . بل إنها قطعة من الفن لها نظائر )) .. فالرواية قصة طويلة .. تسرد حكاية / قصة واحدة أو أكثر .. وقد تكون قصة إثارة بحتة كالرواية البوليسية .. أو الرواية الفنطازية . أو قصص الخيال العلمي .. أو الرواية التي تهتم بالشخصيات .
ليست ثمة حدود توقف الرواية .. لقد وصفها هـ . ج . ويلز. بـ (( الكيس))حيث يقول : (( يمكنك أن تضع فيه ما يعجبك )) .. لأنه يمكنك أن تكتب عن أحداث تعود لقرون خلت .. وباستطاعتك أن تكتب عما يحدث في المستقبل .. والذي قد لايرى النور أبدا .. لك أن تكتب عن إنسان يصل أي كوكب تشاء ويحيا فيه ويعاشر أهله .. أو أن تجعل كائنات من تلك الكواكب تغزو الأرض وتجعل أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ! .. لكن الرواية تبقى طريقة للكتابة عن الشؤون الحياتية المعاشة وعن الإنسان الحاضر بغض النظر عن توظيف الماضي والمستقبل والمتخيل فيها .
    لابد للرواية من بداية تدعو إلى إثارة الاهتمام من خلال شخوص متميزين .. وأحداث تمغنط القارئ .. الرواية البارعة هي التي تجعل القارئ لايغذ السير بها بأقل من إيماءة مذهلة .. عندما يحيط الروائي بالخطوط العامة لروايته، وإنضاجها على نار هادئة في تنور ذهنه .. وليس جيداً أن يمتلك التفاصيل منذ البداية .. لان الروائي يعد (( القارئ الأول )) لروايته .. وكأي قارئ آخر .. حاجته ماسة إلى الاستمتاع والدهشة .
    أن كتابة الرواية ليست بالضرورة مجرد حكايات تسرد عن الناس .. ما لم تضمخ تلك السرود بالعبق الإنساني وتسربل تلك الحكايات بأثواب تركيبية فنية ، والشخصية ليست مجرد كائن يتحرك كما الناس العاديين .. مالم تشكل بعداً فكرياً أحيانا . أو تتشح بسربال يمثل وجهة نظر ما . بتعبير اخر أن الروائي قد يلتقط شخصية حقيقية .. ويجري عليها المزيد من التعديل والتحوير ، لكنه يبقي على العنصر الأساسي فيها .. (( أن الشخصية مزيج من الابتكار والحقيقة )) .. وله أن يلصق بها نتفاً من كائنات بشرية أخرى .. مثلما يضيف لها من نفسه بوعي  أو بدون وعي .. (( قد تكون الرواية جزء من تجربة تكشف حياة المؤلف .. وتثري إحساسنا بها )) .

أنفاسالبحور العربية لا يمكن أن تتهاوى او تُزال بجرَّة قلمٍ من أناسٍ لا يدركون أسرارَها العميقة تماماً ولا يفقهون بالتالي أسرار اللغة العربية , والمبدع الحقيقي هو مَن يكتب للتأريخ .
وأودُّ أن أوضِّحَ أمراً أراه مهمَّاً وعلى صلةٍ بهذا الموضوع ألا وهو مصطلح الأجيال فما يُقلقُ الكثيرَ من شعراء اليوم او المحسوبين على الشعر ليس الإبداعَ وإنما كيفية العثور على سبيلٍ للإنتساب الى الشعراء الرُوّاد وكأنها تميمةٌ تحفظ حامليها من مخاطر السقوط في مهاوي النسيان ومن هنا كان الإقتتال المُخْجِل بين العديد من القبائل وظهرتْ بشكلٍ لافت ٍ للنظر ( أنطولوجيات )  كثيرة للشعر العراقي والعربي تدعوك الى التهكُّم من شدَّة تباينها بل وتناقضها وإلصاقِ أشباحٍ لا تملك حتى أُولى مستلزمات الكتابة الشعرية كالإحاطة بالعروض والتمكُّن من اللغة والنحو وقبل هذا وبعدهِ تنمُّ عن انعدام الموهبة  , والأكثر إستغراباً أنّ العديد من واضعي هذه الأنطولوجيات هم ليسوا بشعراءَ أصلاً ومع هذا تطلُّ عليك أسماؤهم من داخل هذه الإضمامة الجهنمية  وتُتَرجَم نماذجُ من) أشعارهم ) الى اللغات الأخرى بل وبعضهم يكتبون بلُغاتٍ أجنبيةٍ ما يظنونه شعراً بينما هم لا يعرفون كتابة الشعر بلغتهم الأُمّ !
فأية إساءةٍ تُقدَّم الى الشعر العربي ووجههِ الناصع حينما تُقدَّمُ هذه التفاهة الى القاريء الأجنبي من خلال حشدٍ من الإمَّعات باعتبارها خلاصةً للشعر العربي الحديث .
إنَّ الشاعر الحقيقي يرفض أن ( يُبَوَّب ( أضِفْ الى ذلك أنَّ هؤلاء منذ البدء كانت لهم منابرهم الصحفية المقتصرة على مجموعة لا تتبدَّل ولا تتحوَّل إلاّ بقدر ما يتطلَّبه المزاج .
وعودةً الى مصطلح الأجيال أقول :
في الميثولوجيا الشعبية هناك حكايةٌ او حادثة طريفة تُنسَب الى فرعون وبعضهم ينسبها الى الإسكندر الكبير  , تقول الحكاية أنّ فرعون على جبروتهِ قتَلَتْهُ بعوضةٌ او ذبابة إذْ أنها دخلتْ أذنَهُ فَحُشِرَتْ هناك فلم يستطع هو ولا أطبّاؤه ولا سَحَرَتُهُ إخراجَها فكان طنينُها المتواصل في رأسهِ يمنعهُ من الإستقرار في مكانٍ واحدٍ وفي الختام طلَبَ من أتباعهِ أنْ  يستمروا في الضرب على رأسهِ بقبضاتهم وأحياناً بالعصيِّ وغيرها ففي تلك الحالة فقط كان يحسُّ بالهدوء والراحة !

أنفاسيشهد التجريب المستمر في الفن و الأدب العربيين على النمو والإدراك الواعي للتغيير عند الفنانين و الأدباء لا من أجل الانفصال عن الحقب السابقة فحسب، بل لتأكيد قدرة الذات على الإبداع والتفوق في ظل إيقاعات الزمن المتلاحقة، والتطور المذهل في النمو المعرفي، والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والاستجابة الايجابية لمظاهر التغير عند مختلف الشرائح الاجتماعية، و لذا انعكست آثار هذا التجريب في أعمال الكتاب  والفنانين من خلال الحركات الفنية و البيانات الأدبية يصدرها الكتاب و الشعراء بين وقت  وآخر توضح أبعاد و آفاق أعمالهم الفنية.
و قد جاء هذا التجريب في مرحلة انتقال عاشتها الثقافة العربية، و هي مرحلة بالغة التعقيد في ظل صراعات وطنية لا زالت مستمرة من جهة، و في ظل علاقة هذا الانتقال بالنموذج الذي قدمه الأدب و الفن الغربيين من جهة أخرى.
و من هنا، كانت المرحلة الشعرية في طرحها الأساسي- كما يذهب إلى ذلك " إلياس خوري: " جوابا أو محاولة جواب على تقنين الشعر وقوليته،  لكنها، منذ البداية، لم تكن موحدة على المستوى الإيديولوجي. ففي منبريها الرئيسيين: "الآداب" و "شعر" ثم في منابرها المتعددة - بعد ذلك- كان واضحا مدى الاستقطاب الإيديولوجي و السياسي الذي تتعرض له. فالمنبر/المجلة، هو جواب داخل ظرف محدد. إنه موقف، وهو مسيس بالضرورة. لذلك كانت المعركة الرئيسية بين "الآداب" و "شعر" تعبيرا عن خيارات سياسية محددة و انتماءات ثقافية بدت مختلفة ".(1)
هكذا دخل الشعر العربي افق تجربته عبر معاناة طويلة و معقدة، و قد مر هذا الانتقال الشعري بمراحل تبدو في الواقع و كأنها محاولة سريعة أو متسرعة لاستعادة تاريخ الشعر الغربي وحرق مراحله انطلاقا من حركة الإحياء ثم الحركة المجهرية التي أنتجت اللغة الجبرانية وصولا إلى "الديوان"  و "رومانتكية أبوللو" و "رمزية  أديب مظهر" وغيره.

أنفاسفي البدء ، لا بد من الاعتراف بأن النصوص التي تحرّضني على اقتراف خطيئة الكتابة الأخرى قليلة ونادرة..  ولعل كسلي في كتابة ما يسمى بــ (القراءات العاشقة)، والاكتفاء بالتلصص على نصوص الآخرين من بعيد، يعزى إلى عدوى خمول النقد. 
محاسن الحمصي كاتبة أردنية تؤسس- بصمت، وبلا ضوضاء-   مملكتها السردية الخاصة.  خبرت كتابة المقال السياسي والأدب الساخر والخواطر، ومؤخرا اتجهت إلى مملكة السرد  الغاوية.. 
قصة :" ويطول الدوار...!" تكشف زيفَ واقع بائسٍ، مازالت تعاني فيه المرأة  من معاملتها كجارية مما ملكت الأيمان..  دون أن تسقط كاتبتنا في فخ  توظيف كلمات تدغدغ مشاعر رخيصة لدى القارئ!!
سرد يفضح سلوك الرجل الشرقي، وتوقه إلى احتواء بقية الأجساد، وفي المقابل يطالب قرينته بالإخلاص...
على لسان البطلة كتبت المبدعة محاسن الحمصي :
" ملف جديد ، أراه لأول مرة، تعبث يدي به عن غير قصد ، يغلي التوتر في أعصابي ، ويتسلل إلى صدري الخوف .. إنه ( حدس ) المرأة !
صور ..
صور ..
صور نساء ماضِيهِ ، وبأوضاع حديثة .. السمراء والشقراء ، الجميلة والقبيحة ، النحيلة والبدينة ، جمعها في ملف وأخفاها عن عيني؟؟
لم تمض أسابيع على آخر نزوة ..!!
 - تخبرني أنك دفعت ثمن ساعة مع ( ....) تلامس اللحم الحرام لتثبت وفاءَك ؟
- لا أخفي عنكِ حقيقة ، أجل حاولت .. وعدت إلى عشنا الهاديء أكثر حبا واقتناعا أنك الأطهر ،الأنقى ، والأجمل" ...
لكن  الساردة لا تكتفي بالسلبية والصمت الانهزامي  خوفا على عشّها، وحتى لا تـُشهرْ في وجهها البطاقة الحمراء،بلغة حكام كرة القدم.. بل تدافع عن حقها المشروع في الحب والوفاء أيضا:

أنفاسقد أخذ المنحى الشكلي ـ بما فيه من مقاربات عروضية و إيقاعية و غيرها ـ جهودا جمة في مقاربات الشعر الحديث حتى بدا التجديد فيه يكاد لا يتمثل إلا  في مظهر المباني بينما ظلت مسألة المعاني و الرؤى والصور قليلة الحضور و التناول على مستوى النصوص النظرية والحجاجية لذلك نرى أنه يتعين على المتابعين لتطور القصيدة العربية الحديثة أن يعكفوا كذلك على سبر مثل هذه الأغوار الداخلية للوقوف على مدى إضافات الشعر الجديد و  رصد  تحولات القصيدة الحديثة تلك التي ولئن طرقت نفس المواضيع القديمة عموما إلا أنها تناولتها من زوايا أخرى و بأساليب مغايرة مثل موضوع الموت 
في الموت قصائد عديدة ضمن أغراض الرثاء والتأمل والزهد وغيرها فهو من المواضيع التي يزخر به ديوان الشعر العربي على مدى توالي عصوره و ترامي أمصاره غير أنه أضحى في مدونة الشعر العربي الحديث موضوعا قد تناوله بعض الشعراء بكثير من التجديد سواء من حيث المناسبة و العبارة أو من حيث الإيقاع والصورة ناهيك عن النظرة إليه من حيث الرؤية الاجتماعية و الدينية و الفلسفية فظهرت قصائد عديدة في ما يسمى بالرثاء الذاتي تتمحور عموما حول فكرة أساسية غالبا ما تؤكد على أن الشاعر قد نفض يديه من الدنيا تلك التي يغادرها وحيدا بلا أهل و بلا أصدقاء وبلا مراسم دفن أو طقوس جنائزية لكأن القصيدة تتحول إلى عتاب لمعاصري الشاعر لتصل إلى الخيبة والمرارة...إنها قمة المأساة

من بين أولئك الشعراء الشاعر والأديب صالح القرمادي في ديوانه ـ اللحمة الحية ـ الصادر بتونس سنة 1970 حيث نقرأ له قصيدا بعنوان ـ نصائح إلى أهلي بعد موتي ـ يقول فيه

إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين

أنفاسخبر لا يهم أحداً:
" بعد غياب طويل عن عالم الرواية يعود الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة إلى هوايته الأولى، برواية تصدرها دار العين بعنوان: "سُوناتا لـِتـِشْْرين"، كتب عكاشة في مقدمتها : " ... لم أستطع أبدًا نسيان الحب الأول وظللت متشبثا بالأرض التي شهدت فجر موهبتى.. وحرصت على بقاء انتمائي الأول لأصولي الروائية والقصصية... حيث يمارس الكاتب فيها حريته الكاملة ويتسع أمام فضائها غير المحدود.. وآليت  على نفسي أن أكتب رواية أو مجموعة قصصية وأقدمها للناس كل عام.. وجاءت "سوناتا لتشرين" لتكون رواية هذا العام.. أقدمها وأنا ارتجف انفعالاً وخجلاً متسائلًا: هل يغفر لي قرائي غياباتي  وندرة إنتاجى؟ أم تراهم يلتمسون لي شيئاً من العذر؟ أم سيؤجلون الحكم على ما بعد تذوق الثمرة؟".
وقد صدرت للكاتب ضمن روايات الهلال "جنة مجنون" في أبريل (نيسان) 2007"، كان هذا نص خبر أرسلته إلى بعض الجرائد التي أواظب على النشر فيها، لكن تبين لي لاحقا أنه خبر غير صالح للنشر، ولا يهم أحداً، ولو أن راقصة من الدرجة العاشرة تزحلقت وهي تخرج من الحمام..  لوجدت الخبر منشورًا في أقل من ثانية، في كل الجرائد والمواقع الصفراء والبيضاء والحمراء..  ناهيك عن اهتمام النقاد بروايات تكاد تكون مستنسخة، جلّها تتمحور حول الغرائز السفلى والعقد النفسية المترسبة في أعماق كتابها وقرائها، وعلائقهم المتوترة مع أعضائهم الحميمية..!!
حلم الفجر:
تبدأ  رواية  "جنة مجنون" بتوصل السارد - مجهول الاسم - بسلة زهور ورسالة قصيرة من صديق الطفولة "عاطف درويش".. " كيف يمكن للإنسان أن ينسى الطفل الأول؟ ذلك الذي عذبه وأرقه وأشقاه؟"، وقد كان صديقه  قد حرم - مثله-  من حنان الأمومة وفجع برحيل الأم في سنواته الأولى، وربما هنا يكتب أسامة أنور عكاشة عن ذلك الطفل يتيم الأم الذي كان..  فكان وصفه صادقا لمعانته النفسية، و نظرات الآخرين إلى هذا الطفل الذي " لا يأنس للأغراب ولا يستسلم لملاطفات الأقارب".

أنفاسلقد ارتبطت مسألة استلهام الشعراء المعاصرين للرمز الشعري وتوظيفه بتيار الحداثة، وهي قضية طرحت العديد من المصاعب للشعراء الحداثيين العرب، وتتمثل في كيفية التوفيق بين صياغات مختلفة حول مفهوم التراث الثقافي للشعراء العرب المعاصرين.
ذلك أن مفهوم الرمز التراثي يتصل بالإنجاز الثقافي العام للحضارة العربية التي تشكلت عبر قرون من مظاهر حضارات متعددة بالغة الثراء والخصوبة والتنوع؛ شملت الحضارات السومرية والفينيقية والفرعونية والعربية، وتتضمن كذلك الديانات الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلامية.
وبقدر ما تظل مجموع رموز هذه الحضارات والديانات جزءا مهما من التراث الإنساني على مر العصور وفي مختلف الأمكنة، بقدر ما كان حوار الشاعر العربي معها يكشف في أحد جوانبه تصلبا في الرؤية، وانحيازا في الموقف جر الكثير من الوبال على حركة الشعر العربي المعاصر كانت في غنى عنه. ذلك أن هذه الرموز ـ مهما اعتبرناها انفتاحا روحيا وذهنيا على التجربة الإنسانية ـ لا يجوز أن تكون بديلا لشعرائنا عن تأسيس الحوار التراثي مع الرموز العربية والإسلامية المتجذرة في وجدان الأمة العربية.
والملاحظة التي تسرعي انتباه الدارس للمتن الشعري الستيني في سورية أن الشعراء تبنوا هذا الحوار مع الرموز العربية والإسلامية، إلا أن مواقفهم اختلفت حول طريقة تناولها، فبينما ذهب فريق إلى حد تبني مواقف معادية للتراث العربي والإسلامي، فراحوا يختارون بدقة الجوانب السلبية في توظيفهم لهذه الرموز التي لا يرون فيها سوى مظهرا من مظاهر التخلف الفكري والانحطاط الحضاري والاجتماعي؛ اتجه فريق ثان لاتخاذ موقف مغاير ينم عن مدى تعاطف شعراء هذا الفريق مع مجموعة هائلة من الرموز العربية والإسلامية، كما ينم عن مدى إيمانهم بضرورة بعثها في قصائدهم من جديد، وتوظيف مواقفها الإيجابية في الحياة المعاصرة.
1- تحطيم الرموز العربية والإسلامية، واستدعاء الجوانب السلبية فيها لانتقاد الواقع والتمرد عليه:
لقد تبنى فريق من شعراء الحقبة الستينية في سورية مواقف معادية لمجموعة هائلة من رموز الثقافة العربية والإسلامية، وهو ما جعلهم يركزون في توظيفهم لهذه الرموز على الجوانب السلبية فيها. وقد رأى أنصار هذا الموقف أن انتماءهم لهذا الوطن المستباح، ولهذه الأمة المسبية ـ بفعل الهزائم التي أصابتها في مطلع العصر الحديث ـ هو انتماء يسلبهم الحرية والأمان والكرامة ويحاصرهم بالخوف والحزن واليأس، ولذلك عادوا إلى ماضي هذه الأمة يستقرئون فيها بعض الرموز السلبية ليتبرأوا منها، وكأنهم أرادوا بهذه العودة أن يتطهروا من هذه الصلة التي تربطهم بتاريخ أمتهم المتخلف المهزوم.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة