ككل عطلة صيف تكون الوجهة المفضلة لأبناء دوار "تسكورت"[1] المهاجرين إلى المدن هي دوارهم لما له من خصائص طبيعية تتجلى في تواجده على ضفاف نهر "اسيف المال" وكذلك تواجده بالقرب من سد أبي العباس السبتي أو المعروف لدى أهل المنطقة ب "سد تسكورت" والذي مكن الدوار من الاستفادة من الطريق المعبدة نحو مركز "مجاط". المنطقة تابعة إداريا لعمالة "شيشاوة "  جنوب مدينة مراكش المغربية وهي منطقة جبلية معروفة أساسا بأشجار الزيتون والخروب "تيكادا" باللغة الأمازيغية، رغم أني لست ابن المنطقة إلا أني اقضي معظم العطلة هناك لأن زوجتي من هذه المنطقة.
يعرف الدوار رواجا كبيرا في الصيف بقدوم اغلب  أبنائه وكذلك لأن اغلب الأعراس تقام في هذه الفترة من السنة والتي تتميز بمجموعة من الطقوس والعادات من أهمها طقس "تاراكت"، حيث يقوم المدعون   كل حسب قدرته ومكانته الاجتماعية في الدوار بإعطاء صاحب العرس قدرا ماليا أمام الحاضرين، حيث يتكلف "البراح" بإعلان اسم صاحب الهدية وقيمتها التي تتراوح بين خمسين درهما إلى ما يفوق ألف درهم خاصة إذا حضر احد الأعيان الحفل، حيث يقول البراح مثلا : " واا 200 درهم ز غدار محمد او عمار زغيد ار الدارالبيضاء، ايخلف ربي"[2].

1 – تمهيد أولي: في طرح الإشكال
تقدم الأدبيات السوسيولوجية حول مجتمعات العالم الثالث، ومن ضمنه العالم العربي، مادة خصبة من الطروحات والنماذج التحليلية الطامحة إلى تأسيس رؤية نظرية ومنهجية ملائمة لدراسة واقع هذه المجتمعات، والتعرف على الآليات والمركبات المختلفة التي تتحكم في هيكلتها وتطورها. غير أن الكثير من هذه المحاولات لم يسلم من الوقوع في شرك تصورات اختزالية لواقع هذه المجتمعات موضوع الدراسة. وذلك حينما ترجع ما تعانيه هذه الأخيرة من تخلف اقتصادي، وسياسي، وثقافي… وما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات إلى جانب واحد من جملة الجوانب المتحكمة في سير هذه المجتمعات، الأمر الذي يقتضي من الباحث التزام الحذر النظري والمنهجي الضروري أمام مثل هذه الطروحات. وذلك باعتبار أن النظرة الشمولية للواقع المجتمعي المتعدد المبحوث هي الكفيلة بتشريح بنياته، ومجالاته، وأبعاده، دون الاعتماد الكلي على جانب واحد: (اقتصادي، سياسي، ثقافي…)، كما لو كان هو الوحيد الذي يحدد أهم معالم هذا الواقع المجتمعي، دون غيره من الجوانب أو الأبعاد الاجتماعية الأخرى. وعلى أي فإن هناك نموذجا تحليليا ثلاثي المكونات (Modèle d'analyse) يسير الاتفاق حول نجاعته في اتجاه متصاعد. ويتكون هذا النموذج التحليلي من المجالات الاجتماعية الآتية: المجال السياسي، المجال الاقتصادي-الاجتماعي، أي: مجال التراتبات الاجتماعية، المجال الرمزي-القيمي: (الثقافة والإيديولوجيا)(1).
ولا يعني هذا النموذج، بأي حال، اختزالا لا علميا للنسق المجتمعي في أحد الأبعاد أو المجالات الاجتماعية المذكورة. بل كل ما في الأمر أن كلا من السلطة السياسية، والطبقية، والثقافة ليس إلا منظارا، أو زاوية معينة من عدة زوايا أخرى ممكنة يفترض أن نطل منها على جل مكونات التعدد المجتمع. كما أن النموذج الآنف لا يفترض أسبقية، أو أهمية أحد مكوناته على الآخر إلا عند تناول الباحث لنسق مجتمعي معين.

بالإحالة على بعض الأعمال الهامة والتعاريف المختلفة التي اقترحها علماء الاجتماع الذين يستخدمون مفهوم الاستراتيجية، تتساءل جان فانياني، كاتبة هذا المقال، عن ملاءمة وصلاحية استخدامه في مجال الحركية السكنية للأسر و"اختيار" أماكن إقامتهم. إن الأبحاث المنجزة على ضوء هذا المفهوم تأتي في بعض الأحيان بنتائج مثمرة، شريطة أن يتم تحديد أنواع العقلانية والمنطق الكامن وراء ممارسات الجهات الفاعلة المعنية. وإذا أمكن تحديد الاستراتيجيات السكنية، يجب وضعها في مجموعة أوسع من الاستراتيجيات المتعلقة بممارسات الأسرة والعمل.

على سبيل التعريف، عملت كاتبة المقال في المعهد الوطني للبحث العلمي بفرنسا، كما قامت ببحث حول النشاط المهني والحياة الأسرية للمرأة، وممارسات الخصوبة في الطبقة الوسطى، واختيار السكن في منطقة "إيل دو فرانس". ألفت كتابا بعنوان: "حجم المدن الحضرية ومشاركة الأمهات في القوى العاملة"، وصدر عن احدى دور النشر بأمستردام.
أصبح استخدام مفهوم الاستراتيجية أكثر شيوعا في جميع تخصصات العلوم الإنسانية (ج, كرو، 1989). في علم الاجتماع، على سبيل المثال، يتم استخدامه بغض النظر عن "مجال" الدراسة (استراتيجيات الزواج، استراتيجيات الأسرة، واستراتيجيات الإنجاب، وما إلى ذلك). ويتحدث الديموغرافيون عن استراتيجيات الخصوبة. العديد من الاقتصاديين، بعد تخليهم عن المفهوم التقليدي النيوكلاسيكي للمقاولة، يستخدمون أيضا هذا المصطلح للإشارة إلى "جميع القرارات الأساسية للمقاولة"، التي يمكن تقسيمها إلى استراتيجية مالية، استراتيجية الأعمال، استراتيجية حيال المستخدمين، حيال الدولة، ( بريموند، جيليدان، 1984). يحظى هذا المفهوم كذلك بشعبية واسعة (قديمة) بين المؤرخين وعلماء النفس.

بالإشتغال على  سؤال المدينة وتحولاتها من زاوية تفكير إيجابية،وضمن نزعة إنسانية ترنو للتقدم والمستقبل،وبكثافة مَفهوميّة تَمتَح من حقول معرفية متعددة،نَحتَ الجغرافي والأستاذ الجامعي محمد الناصري الكثير من المفاهيم التأسيسية،واهتم في مؤلَّفه  الجامِع هذا بقضايا منها: تغيُّرات المشهد الحضري؛السكن غير المندمج وغير المهيكل بالمدينة؛رهانات تهيئة المجال الحضري في المدينة المغربية وعلاقتها بأزمة الأرياف؛سياسات المدينة في العالم العربي؛السلطة ومراقبة التراب بالمدينة؛ التحضُّر السرّي؛تطور المَدينيّة الحضرية بالمغرب  وبالعالم الإسلامي ودلالاتها في الألفية الثالثة؛المواطنة وقضايا الإندماج الحضري؛تدبير الموارد والثروات في المدينة؛ الانتقال من الواحات إلى المدينة وعلاقات المدينة بالأرياف،إضافة إلى مباحث أخرى غنيّة في الكتاب.
ضمن تلك الإشكاليات و عبر أسئلتها ينتقل بنا الباحث والجغرافي المغربي محمد الناصري - والذي نعته الجغرافي الفرنسي والمتخصص في قضايا إعداد التراب Félix Damette  بأنه الجغرافي الفريد الذي يجمع بين التكوين العلمي الرصين والمعرفة الواسعة النظرية والميدانية بانشغال وجوهر إنساني-Géographe humain – في إصداره العلمي الجديد "Désirs de ville"،وهو تعبير جغرافي يحيلنا به إلى الإيطاليItalo Calvino  في "مدن غير مرئية" حيث لكل من الأفراد رغبات ترنو به للمدينة و فيها، حقيقية وفي متخيّلَة ،متأرجحة بين الآمال السعيدة  في عشق الأمكنة و بين أصناف عنف المجال الحضري وقلق العيش فيه .

تشهد بلادنا منذ سنوات حركات احتجاجية تناولتها السوسيولوجيا المغربية كظاهرة اجتماعية من خلال مجموعة من الأسئلة مثل: كيف تعبر الحركات الاحتجاجية عن ذاتها في المجتمع المغربي؟ وكيف تشتغل في ظل نسق مفتوح على الأزمة والاختلال؟ وكيف تتعامل مع معطيات النسق وردود مالكي الإنتاج والإكراه فيه؟ وكيف تدبر خطاب وممارسة الانتقال من الاحتجاج العرضي إلى الحركة الاجتماعية القوية والفاعلة في مسارات صناعة التغيير؟ وما الثابت والمتحول في صلب هذه الدينامية؟ غير أن هذا التناول يبقى ناقصا من الناحية النظرية على الأقل بحكم تغييبه للأسئلة المنصبة على علاقة هذه الحركات الاجتماعية بالأحزاب السياسية. من أجل المساهمة في ملء هذه الثغرة، أقترح هذه الترجمة العربية للمقدمة التي أفردها فردريك ساويكي لكتاب جماعي حول نفس الموضوع تم تأليفه تحت اشرافه .
الطريقة التي تم بها عموما التفكير في الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية داخل مجال العلوم الاجتماعية وعلاقاتها مؤشر ممتاز على آثار الجهل الناجم عن تجاوزات تقسيم العمل العلمي.وقد كتب ستيفاني ديشيزيلس وسيمون لوك في تقديمهما لهذا البحث؛ أن "المتخصصين" في الحركات الاجتماعية وأولئك المهتمين بالأحزاب، ولكن أيضا المهتمين بنقابات العمال والمجال الجمعوي، طوروا مع مرور الوقت اشكالياتهم وأدوات التحليل الخاصة بهم عن طريق التقليل شيئا فشيئا من مواجهتهم جميعا، لمغبة الافراط في استقلالية مواضيعهم البحثية.

من أجل ربح الرهان الذي يقتضيه عنوان هذه القراءة،أقترح عرض ما جاء في مقالة جيزيل سابيرو التي عنوانها الأصلي :"من أجل مقاربة العلاقات بين الأدب والإديولوجيا"،والتي نشرتها في المجلة الإلكترونية"contextes".لكن، قبل الشروع في عرض مضمون هذه المقالة يجدر بي تقديم نبذة عن كاتبتها. فهي من مواليد 1965 بباريس، مؤرخة فرنسية متخصصة في الأدب الفرنسي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين .
تندرج اهتماماتها بالأدب في إطار مواصلة أبحاث بيير بورديو؛ السوسيولوجي الفرنسي الشهير. بعد إنجازها لعدة أبحاث حول إشكالية الالتزام لدى الكتاب الفرنسيين طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية، ثم تحول اهتمامها إلى التداول العالمي للأفكار وما يخضع له من مؤثرات العولمة.أما الآن، فتشغل منصب مديرة أبحاث بالمركز الأوربي للسوسيولوجيا وتحاضر بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. من كتبها الصادرة عن دار النشر"فايار"،هناك "معركة الكتاب،1940-1953" (1998) و"من أجل تاريخ للعلوم الاجتماعية" (2004) و"دفاعا عن بورديو"، بنفس التاريخ.

1.    في البدء: السياسات الإعلامية ودور المحلل السياسي
هنا بيروت، عاصمة الأنارشيا بنكهة عربية، تلك التي شكّلت فرصة تاريخية للكائن العربي تحديدا، أو لنقل الرئة التي لا يتنفس من خلالها اللبنانيون وحدهم بل هي الرئة التي يتنفس من خلالها الأحرار العرب وحتى غير الأحرار العرب، فهي جغرافيا التعبير عن الإرادات، ولهذا كانت الثقافة والإعلام والنشر لها هاهنا حكاية تفرّد، هنا في عاصمة الصناعة الإعلامية العربية كان اجتماعا حافلا بالأفكار ذلك الذي جمعنا قبل أيّام على مائدة النقاش حول العلاقة بين المحلل السياسي ووسائل الإعلام في إطار اجتماع الهيئة التأسيسية للرابطة الدّولية للخبراء والمحلّلين السياسيين قصد تحيين هذا الإطار ومناقشة القانون التأسيسي وميثاق الشّرف وخطّة عام 2017. النصف الأوّل من اليوم تضمن جلسات تتعلق بدور المحلل السياسي في صناعة الرأي العام وعلاقته أيضا بوسائل الإعلام ساهم فيها أصدقاء وزملاء من داخل مؤسسات الإعلام المتنوّعة ومحللين سياسيين من مشارب وخبرات مختلفة، هذا في حين انحصر اجتماع النصف الثاني من اليوم في مناقشة الوثائق المذكورة في إطار مغلق خاص بالهيئة الإدارية وهو ما كان يعالج تفاصيل البنود ولغة الوثيقة وبعض القضايا التفصيلية حيث انتهى إلى الكثير من التوافقات فضلا عن انتخاب أعضاء الهيئة الإدارية من بينهم رئيسا للرابطة خلال الفترة القادمة.

مرّت زهاء خمسة عقود على صدور النسخة الإنجليزية من مؤلف هشام شرابي "المثقفون العرب والغرب"، ولعله بات من المشروع، في الوقت الحالي، الحديث عن المثقفين العرب في الغرب، بعد أن شهدت الساحة تطورات مهمة في هذا السياق. إذ يشغل المنتوج الثقافي العربي القادم من الغرب، إبداعاً وتأليفاً وترجمةً، حيزا معتبرا ضمن خارطة الثقافة العربية الحديثة، عبر ما يسهم به بشكل فعّال في اجتراح مسارات مستجدة. وإن نال هذا المنتوج شيئا من الاهتمام، فإن المنتِج لم يحظ بالقدر الكافي من المتابعة. ومن هذا الباب نقدّر أن النخبة الفكرية العربية في الغرب تحتاج إلى معالجة رصينة ومتأنية، تُتابَع من خلالها أدوارها وتُتفحَّص على ضوئها هويتها، بعيدا عن أية وعود مبالغة أو أحكام مسقَطة. ومع أن الخاصية المشتركة بين عناصر تلك الشريحة الانتماء، في ما مضى، إلى بنية حضارية موحَّدة، فإن مقامها الدائم في مجتمعات غربية، قد عزّزها بعناصر مستجدة طفحت من خلال رؤاها ومواقفها.