anfasse24069"من لا يعيد قراءة مفاهيمه وتجاربه نقديا لا يتقدم ولا يتطور" (جون سيمونس)

تبين الأعمال الواسعة في مجال الأنتروبولوجيا البنائية إلى أي درجة يتسم مفهوم الثقافة culture بالتنوع والتعقيد، فالمجتمعات الإنسانية تتنوع بتنوع ثقافاتها، ويعبر هذا التعدد الثقافي يعبر عن وجوه متعددة للحياة الإنسانية حيث يرتبط تعددها بتعدد اللغات والعقائد والأديان والأخلاق والقيم الإنساينة.
لقد كان القرن الثامن عشر فخورا بثقافته العلمية التقنية حيث جرى الاعتقاد يومها بوجود ثقافة غربية قطبية واحدة وبأن الثقافات الإنسانية الأخرى ما هي إلا ثقافات بربرية متوحشة وبدائية. ولكننا الآن ندرك ويدرك أهل العلم والدراية والحصافة بأن الثقافة الغربية المزهوة بنفسها ما هي إلا واحدة من الثقافات الإنسانية القائمة التي تتصف بثرائها وغناها الأخلاقي والروحي.
وقد رافق الاعتراف بتنوع الثقافات وتعددها وتباينها مفهوم النسبية الثقافية. فالإنسان في ما بعد الحداثة اعتاد النظر إلى أي شيء على أنه ثقافة وهذا يشمل ثقافة البوب وشعارات الحائط والأزياء وثقافة الروك وأقراص الليزر وأشرطة الفيديو وبرامج التلفزيون وعمليات التجميل وتناول المخدرات والعنف والجنس كل هذا يثمن ويقدر على أنه ثقافة.
وفي ظل هذا التحول أصبح من الصعب جدا إعادة الاعتبار إلى المفهوم التقليدي لمفهوم الإنسان المثقف، حيث كان الإنسان المثقف يرمز إلى نموذج معياري ويمثل إطارا مرجعيا للتفكير التقليدي وهو المثقف الذي كان قد تشكل في سياق تفاعله مع الآثار الفنية والفكرية النموذجية العليا للروح الإنسانية، فتكاثفت في تشكله المعاني الإنسانية الرفيعة والخلاقة الدالة على الطابع الإنساني.

anfasse270591-مقدمة
يشكل مفهوم النُّخبة منطلقا منهجيا في كل فهم حصيف لحركة التاريخ الإنساني وما يعتمل فيه من صيرورات وأحداث، ويعوّل عليه كثير من المفكرين في مقاربة التكوينات السوسيولوجية للمجتمع، والخوض في عمق الظواهر الأيديولوجية للحياة السياسية الطبقية في سياق تفاعلها وتكاملها. فالتاريخ الإنساني بما ينطوي عليه من تعقيدات، وما يكتنفه من صيرورات لا يمكنه أن يُرصد ويحلل ويفهم دون الخوض المعمق في دور النخب التي تحرك المجتمع الإنساني وتتحرك فيه في الآن الواحد لتشكل بفعاليتها ملمحا جوهريا من ملامح الحركة التاريخية في المجتمعات الإنسانية. وضمن هذا التصور فإن اي محاولة لفهم ديناميات الواقع الاجتماعي، وصيرورة الحركة التاريخية، لن تفلح ما لم تنطلق من فهم عميق للدور التاريخي الهائل الذي تمارسه النُّخب في توجيه الحياة الاجتماعية في مختلف تعيناتها وفي شتى تجلياتها. فالنُّخب - كما يراهن كثير من المفكرين والمنظرين - تصنع التاريخ الإنساني، تحركه وتحدد صيرورته، وترسم ملامح التغير الاجتماعي، وتمارس دورها الفعال في توجيه الحياة الاجتماعية في مختلف تجلياتها.

فعلى الرغم من التقدم الكبير الذي حققته الإنسانية في مجال الديمقراطية، وعلى الرغم من توسع المشاركة السياسية للجماهير وحضورها في مختلف ميادين العمل والحياة، بقيت النُّخب قوة فاعلة حاضرة ويقظة في ممارسة دورها الريادي في توجيه المجتمع وتحديد مساراته وتعيين حركته في مختلف المجالات والاتجاهات. وعلى الرغم من ظهور الماركسية كنظرية للطبقة العاملة والبروليتاريا، وتأكيدها المستمر على أهمية الجماهير والطبقة العاملة في قيادة الحركة التاريخية للمجتمعات الشيوعية، فإن هذه النظرية لم تؤت أُكلها في انتزاع الدور التاريخي للنّخب وتفريغ دورها الفاعل في قيادة المجتمع وتوجيه فعالياته التاريخية، حيث ظهرت هذه النُّخب من جديد كقوة هائلة ضمن النظام الماركسي نفسه، وضمن طبقة البروليتاريا عينها التي أفرزت نخبها بما لا يختلف كثيرا عن النُّخب التاريخية التقليدية، كحال النُّخب من ذوي الطلائع الحزبية الماركسية وأحزابها التي لعبت دورا مميزا في توجيه حركة الجماهير الشيوعية، وقد ظهرت تسميات كثيرة للدلالة على هذه النخب، مثل: طلائع البروليتاريا، وقيادات الطبقة العاملة، واللجان الحزبية القائدة في الأحزاب الشيوعية، وهذا كله يؤكد أهمية النُّخب الفكرية والثقافية التي لعبت دورا تاريخيا في تحديد المسارات الكبرى للحركات الشيوعية في مختلف البلدان الرأسمالية والاشتراكية على حدّ سواء. وقد بينت الدراسات والأبحاث أنه يصعب على المجتمعات الإنسانية أن تتحرك وتنمو دون فعالية النُّخب التي تمتلك القدرة على توجيه مجتمعاتها وتحديد منطلقات تحركها في الحاضر والمستقبل.

anfasse15055" اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم (...) ولكن المهم هو تغييره"
كارل ماركس
ربما لا يستحق "المثقف" تسميته ما لم يبحث في الماهية التي يتشكل منها وفي الهوية التي ينتمي إليها. لذا كان على "المثقف" دائما أن يترحل باحثا عن أبعاد هويته الذاتية،ولا غرو في ذلك فمبحث "المثقف" يفيض بالتشويق ويتدفق بالإثارة، وقلما نجد مفكرا بارعا لم يخض في هذه القضية ويبلي فيها بحثا في دلالاتها وغوصا في معانيها. وقد تقاطرت الأبحاث وتواترت النظريات في هذا الميدان لتشكل مجالا حيويا بالغ الاستقطاب في العلوم الإنسانية ولاسيما في علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع التربوي على حدّ سواء.

وقد دأب المثقفون أنفسهم على البحث المستمر في ماهية "المثقف" ودوره، فوظفوا أدواتهم النقدية استقصاءً للعلاقة الحيوية بين "المثقف" والثقافة، كما بين "المثقف" والحياة والإنسان، واستطاع هذا الموضوع أن يستقطب جلّ الباحثين والدارسين فتكاثفت أعمالهم وتكاثرت أبحاثهم في هذا الميدان المثير.

anfasse08054"توجد عقدة أوديب في أصل الحضارة الغربية"
          جاك لاكان

 يوظف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية بطابعها الأنتروبولوجي الاجتماعي، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة "الأوديبية" بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.

anfasse25049يكمن في قرارة هذا المجهود إشكال أساس ينبني على فك العلاقة بين السلطة المخزنية والمجتمع المدني ، في إطار تصورات أولية تنبو هذه الصفحات عن الإحاطة بها ، لأن الإشكال أعمق من أن تغطيه محاولة بطريقة شمولية ، وإنما مناط الأمر تقديم فرضيات مسنودة ببعض الوقائع و الأحداث الاجتماعية التي عرفها المغرب في فترات التاريخ المعاصر .
لهذا نتصدى في مرحلة أولى لكشف بعض ملامح السلطة ، و بالقدر نفسه نعرض لبعض سمات المجتمع المدني ، على نختم برسم بعض معيقات كلا طرفي العلاقة في عدم القدرة على " الإبانة" حسب ما تفرضه الأطر النظرية الموجهة لهما في الحقل المعرفي .
    يكتسي الحديث عن المجال السياسي المغربي ، استحضار مجموعة من الضوابط المعرفية و المنهجية و التاريخية ، بهدف التمييز بين السلطة و الدولة ، إذ من الخطل الجمع بينهما أو اختزالهما ، فلا الدولة تعني السلطة و لا السلطة هي الدولة ؛ معنى ذلك أن الدولة أصل و دوام و استمرار ، و السلطة فرع و تداول و تناوب ، و من الطبيعي أن تكون للدولة سلطة و لن تكون السلطة دولة .
    ترشح التجربة التاريخية و مسار تشكل الدولة بالمغرب بالعديد من المقومات التي صاغت نسيجا اجتماعيا هشا ، و دقت الأسافين في بنيته و مضمونه ، حين تعالت تارة على المجتمع بمفهوم القبيلة بدءا بالتاريخ المرابطي ، ومرورا بالموحدي و إلى غاية المريني منه ، و تارة بالشرف انطلاقا من التجربة السعدية و العلوية .

anfasse02045صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر سنة 2013 كتاب سوسيولوجيا التنظيمات أسس واتجاهات للباحث والسوسيولوجي المغربي الدكتور جمال فزة أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط. يقع المؤلف في 215 صفحة من الحجم الكبير، موزعة على فصلين، يضم كل منهما ثلاثة محاور متناسقة.
1.    رهان الكتاب:
يرمي الكاتب من وراء مؤلفه إلى الاسهام في تعويض النقص الحاصل في موضوع سوسيولوجيا التنظيمات في المكتبة العربية. نقص لا يقتصر، على حد قول الكاتب، على الجانب الكمي بل إنه يمس الجانب الكيفي أيضا. فقد وقع المفكرون العرب الذين تناولوا هذا الموضوع في منزلقين: أولهما هو "اعتبار سوسيولوجيا التنظيمات فرعا تطبيقيا للسوسيولوجيا العامة، والثاني يكمن في النزعة الماهوية الحدية التي ميزت هذه الدراسات لاسيما أثناء تعريفها لعلم اجتماع التنظيم."

anfasse11033« أنا عدوّ سلطة الرجل التي لم تنته بعد. وأعتقد، أنّ المرأة هي مستقبل الرجل، وليس "الرجل هو مستقبل الرجل كما قال ماركس" »
الشاعر والقاص  الفرنسي "لوي أراغون"
من روائع التراجيديّا الإغريقيّة التي كتبها سوفوكليس، منذ القرن الخامس قبل الميلاد مسرحيّته "أنتيغون" (Antigone)التي جسّد فيها الصراع العنيف القائم بين الملك المستبدّ "كريون" (Créon) و الفتاة العنيدة "أنتيغون" أي بين السلطة الغاشمة والمرأة الرافضة للخضوع إلى الأوامر. فهي الثائرة  التي انتقلت من محيطها الضيّق، إلى محيط الأغورا (agora) الرحب. بما هو الساحة التي تمارس فيها الحقوق السياسية. إلّا أنّ هذا الصراع الذي يمكن اعتباره في المطلق صراعا أزليّا ما بين المرأة و الرجل، لا يزال قائما إلى اليوم، من أجل حيازة مكان للمرأة تحت الشمس، عبر نضالات الحركات النسائيّة وسندها الفكر النسوي الذي سنعرض له. ولكن ما هي الجذور التاريخيّة وخلفيات هذا الفكر؟
لقد كان للحداثة  بما دعت إليه من تحرر للعقل النقدي  ومن كونيّة حقوق الإنسان، ومن حريّة ومساواة بين البشر ، و ديمقراطيّة و مواطنة، ونحوها من المبادئ، و للنزعة الإنسانيّة لفكر عصر الأنوار، وكذلك وبالأساس للثورة الفرنسيّة -لا سيّما بعد إعدام  أولمب دو كوج (Olympe de Gouges) صاحبة "إعلان المرأة والمواطنة" لسنة (1791) ، بما هو احتجاج على إقصاء النساء في أول إعلان لحقوق الإنسان والمواطن (1789)، الدور الأساس لبروز الفكر النسوي والحركات النسائيّة الغربيّة إلى الوجود. كما كان لعصر النهضة الفكرية  والإصلاحيّة العربيّة  التي بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر وامتدت حتى أوائل العشرينات من القرن الماضي استتباعات  ومفاعيل  إيجابيّة على المجتمعات العربيّة ، لعلّ  من أهمّها  بروز دعوات ملحّة لإعادة صوغ العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة على أساس  قواعد جديدة ومغايرة في اتجاه إنصاف المرأة بعد تبخيس لمكانتها ولدورها الاجتماعي بل و قهرها، على مدى التاريخ، واختصار أدوارها في رعاية المنزل وتنشئة الأبناء داخل الأسرة فحسب، بما يجعلها في تبعيّة اقتصادية كلّية للرجل قد تبلغ أحيانا درجة التعامل معها بدونيّة وسفالة تصل حدّ الاستغلال الجنسي في  أسواق النخاسة.

anfasse26029I - تحديد مفهوم "اليومي":
يعتبر لفظ "يومي" من الألفاظ العربية الفصحى، وهو مشتق من اسم "يوم"، وفي معظم المعاجم العربية، نجد هذا اللفظ يرتبط بما يتم تكراره كل يوم دون انقطاع، فتم التمييز بناء على ذلك بين "اليومي" و"الأسبوعي" و"الشهري"…الخ. وهو نفس المعنى الذي يشير إليه لفظ "quotidien" في الفرنسية في كل المعاجم الكلاسيكية (quotidien : de tous les jours). كما أنه نفس المعنى تماما الذي يحمله اللفظ في الإنجليزية (quotidian : recuring every day).
أما كلمة "اليومي" في بعدها العلمي، فلا تكتسب المفهومية إلا ضمن فرع محدد من فروع السوسيولوجيا جد حديث هو سوسيولوجيا الحياة اليومية، لأن الاهتمام بالحياة اليومية كموضوع للسوسيولوجيا حديث النشأة بالمقارنة مع جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى كون السوسيولوجيا نفسها كعلم، حديثة بالمقارنة مع فروع أخرى من المعرفة الإنسانية. يقول إرفينغ غوفمان Erving Goffman الذي يعتبر اليوم من أبرز الوجوه الأمريكية المهتمة بالحياة اليومية "يوجد مجال حيوي لم يكن بعد موضوعا للدراسة العلمية بالشكل الكافي، وهو المجال الذي توجده التفاعلات وجها لوجه في الحياة اليومية، هذه التفاعلات التي تبنيها معايير للاجتماع والتواصل"(1). ومعلوم أن بحوث إرفينغ غوفمان شملت جوانب متعددة من الحياة اليومية بالمجتمع الأمريكي، كالعلاقات الطقوسية (اليومية) بين نساء الحانات والزبناء المدمنين، وما يطبعها من إشارات ورموز وحركات إغراء… وكل ما هو مألوف بين جدران الحانة ويلزم تحليله وتفكيكه حسب غوفمان، وكالتفاعلات الحاصلة في محطات انتظار الحافلة أو الميترو وما يحدث من استفزازات (عنصرية) بين الرجل الأسود مثلا والنساء الشقراوات أو العكس. ثم أشكال الحركات والإشارات التي تعتمدها التعبيرات الجسدية (سواء عند الرجل أو المرأة)…، وغير ذلك من جوانب الحياة اليومية المتداخلة في المدن الأمريكية الصاخبة، هذه الحياة اليومية التي يرى غوفمان أنها العلاقات التي تكونها مجموعة من الأشخاص والأشياء، هذه العلاقات التي تحكمها قواعد مقيدة (restrictives) أحيانا وغير مقيدة أحيانا أخرى، يمكن الوصول إليها(2).