"الهاجس المتمثل في البحث عن اسلوب جديد للتفلسف، يزيح التراتبية التقليدية بين الفلسفة والادب"
مصطفى لعريصة؛ مدارات الذات، ص 33
كيف يمكن للقارئ ان يتمثل النصوص التي ولدتها لحظة تخلخل النسقية؟ تلك النصوص التي تهرب وتنفلت من محاوله تجنيسها، هذا النوع من النصوص التي تمارس تطوافا وترحالا فوق كل الاجناس والانساق السردية، حيث كل نص سرد لكن ليس بالمعنى التقليدي بل بالمعنى المتجاوز والمنزاح، هذه النصوص الرحالة تستعير هذه الصفة فقط وليست مرتبطة بها.
ان الاستعارة شيء غريب فهي التي تعطينا تلك الإمكانية اللامتناهية للتفكير او لممارسه ما نسميه تفكيرا، تنزاح بنا الاستعارة الى الافاق التي لم تطرق بعد او التي لم تطرق بشكل كافي وتعطينا امكانيه التفكير في المحال اليه، الاستعارة قول يقال محيلا على مجموع صور وعلى التعدد والاختلاف و المهمش.

"الفن علاج شأنه أن يشفي من فرط المعرفة"
فريديريك نيتشه
"الفن هو الشيء الوحيد الذي يقاوم الموت"
أندريه مالرو
"على الفيلسوف أن يصير لا فيلسوفا حتى
تصير اللافلسفة أرض الفلسفة وشعبها"
جيل دولوز
مقدمة
لم يُخف جيل دولوز امتعاضه من الحالة التي أصبح يتخبّط فيها الفن بقوله:"أصبح كل فن اليوم أكثر طفولية كل يوم. كل شخص لديه رغبة مجنونة في أن يكون طفوليا قدر الإمكان. أنا لا أقول سخافة: صبيانية.. الفن اليوم إما شكوى plainte أو قسوة cruauté. لا يوجد تدبير آخر: إما أن يشتكي المرء، أو يقوم أحدهم بممارسة القسوة الصغيرة دون مبرر"(1). تزامن هذا التخبّط الفني مع تصاعد الهجوم على الفلسفة والتشهير بنهايتها وموتها، وتخوف دولوز من أفول نجمها، الشيء الذي دفعه إلى الإنفتاح على حقول فنية كالرواية(2) والرسم والسينما والموسيقى والمسرح... . وإذا كان إسم دولوز قد اقترن بتعريفه الشهير ل"الفلسفة كإبداع للمفاهيم"، فإن اهتمامه بالفنون كفيلسوف -وليس كناقد- مكّنه من تعيين مهمة الفن باعتباره إبداعا ل"المؤثرات الإدراكيةles percepts " و"المؤثرات الإنفعالية les affects" ول"الإحساسات les sensations ". إن هدف الفن بما لديه من وسائل مادية، هو أن يُعرّي المؤثر المدرك من إدراكات الموضوع ومن حالات الذات المُدركة، وأن يُعرّي المؤثر الإنفعالي من المشاعر كمعبر من حال إلى أخرى. فاستخراج كتلة من الإحساسات [يعادل] كائن حسّي خالص(3).

الكل يواجه ما يعتبره خطرا عليه من منظور الكل للكل، بينما الكل يتشكل من أجزاء و جزيئات(مجموعات و أفراد). أجزاء غير منسجمة، بل ومتنافرة في ما بينها، ناتجة عن انقسام هذا الكل المتماسك بوحدة الجزئيات وغير المنسجم بتنافر الأجزاء، وأفراد متماسكة ومتمسكة بالكل، حيث أصبح كل فرد يقاوم و يصارع داخل الجزء الذي يتواجد فيه، وكل جزء يتصارع ضد الأجزاء الأخرى في إطار صراع الأجزاء المكونة للكل. لكن كل فرد منتم إلى جزء معين تربطه علاقات بنيوية مع أفراد وجدوا أنفسهم منتمين إلى الأجزاء الأخرى المختلفة في ما بينها. أي، انسجام عام على مستوى الأفراد، واختلاف مجموعاتي خاص تحكمه توجهات إيديولوجية و دوغمائية غير مستوعبة للأسس التي توحد الكل وتجعل منه حصنا منيعا ضد الأجسام الغريبة والدخيلة، دون أن ينعكس السلوك الخاص على العام، ولا السلوك العام على الخاص. لنخلص إلى أن مجموع الأجزاء لم تعد تشكل الكل على أساس مبادئ مشتركة تبرر وجودها كأجزاء أو مجموعات، بينما مجموع الأفراد تكَون هذا الكل انطلاقا من مبادئ مشتركة متجذرة، تعجز المجموعات على استيعابها وتبنيها، حيث الأفراد متمسكة بالكل و موزعة على أجزاء غير منسجمة داخل الكل.

تمهيد
" الثقة في النعمة. لا شيء مستحق لي. أنا لا أتوقع أي شيء لنفسي. أنا لا أطلب شيئًا ... أقول: يا إلهي ، ستفعل معي ما تريد. ربما لا شيء. أنا أقبل أنني لم أكن". شذراته الأخيرة المعنونة: حيّ حتى الموت.
الحقيقة الجديدة حسب بول ريكور هي أن الإنسان أصبح الآن خطرًا على نفسه من خلال تعريض الحياة التي تحمله والطبيعة في الملجأ الذي قطع فيه ذات مرة محيط مدنه للخطر خاصة عندما تخلى عن الدين والايمان.
يبدو حسب ريكور أن الأفق الذي تتجه نحوه هذه الحكمة هو نبذ للرغبات ذاتها التي يولد الجرح الشكوى منها: أولًا نبذ الرغبة في المكافأة على فضائل المرء، والتخلي عن الرغبة في التجنب من المعاناة، والتخلي عن الذات. للعنصر الطفولي في الرغبة في الخلود. ربما يتم رسم هذه الحكمة في نهاية سفر أيوب، عندما يقال إن أيوب جاء ليحب الله من أجل لا شيء هو الخروج كليًا من دائرة القصاص. ربما يتداخل أفق هذه الحكمة، في الغرب اليهودي المسيحي، مع أفق الحكمة البوذية. ان النضال الأخلاقي والسياسي ضد الشر الذي يمكن أن يجمع بين جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة ... توقعات في شكل أمثال لحالة إنسانية يكون فيها العنف الذي يتم قمعه ولغز المعاناة الحقيقية والمعاناة غير القابلة للاختزال عارية. كما يربط ريكور المشاعر الدينية بتأمل ظاهرة الموت بقوله في سيرته الذاتية المعنونة التفكير المنجز: "أحارب خيال الموت المرتبط بنظرة المتفرج الذي يحتضر عنده انسان يحتضر، الشخص الذي نتوقعه، والذي نعرف بدقة متفاوتة أنه سيموت قريبًا. من هذه النظرة من الخارج على الرجل المحتضر ومن الترقب الداخلي لهذه النظرة من الخارج على احتضاري، أريد أن أحرر نفسي. " ويضيف في نفس السياق: لقد ولدنا واحدًا تلو الآخر، نموت واحدًا تلو الآخر، وننشأ وسط محادثة بدأت بالفعل ونحاول فيها توجيه أنفسنا حتى نتمكن بدورنا من تقديم مساهمتنا." لكن ما علاقة الدين بالتفكير؟ ولماذا يحتاج الانسان الى الديني ويتعلق بالإلهي؟ كيف يؤسس ريكور رؤية هرمينوطيقة لله؟

كثيرا ما تختلف رؤانا للموضوع الواحد حتى في المباحثات العلمية وتنزيلاتها العملية ، فـتتباين تقديراتنا وأحكامنا قبولا ورفضا، أخذا وردا، من دون أن يعني ذلك  أن آراءنا هي بالضرورة دائرة بين صواب وخطأ، بل كثيرا ما تكون أغلبها صائبة من دون أن يدرك أطراف الحوار أو النزاع ذلك ، وإنما يرجع الاختلاف إلى تعدد زوايا النظر، حيث أن لكل شخص مهما كان مستواه - في العلم أو الخبرة - زاوية معينة ينظر من خلالها إلى مكونات وأحداث محيطه ، فإذا الفكرة صحيحة سليمة ضمن سياق ، فاسدة باطلة ضمن سياق آخر، من دون أن ينتبه الناظر غالبا إلى أن نظرته محكومة بظرف وسياق، وثقافة وتاريخ ، وليس بالإمكان قبول فكرة أو رفضها على إطلاقها ، بل بالرجوع إلى السياق الذي أنتجها ، والإكراهات أو الإغراءات التي استدعتها .

هناك قول مأثور: "حريتنا تنتهي حيث تبدأ حرية الآخر". ماذا يمكن أن تكون دلالات هذه الجملة؟  في الواقع، تتراجع حريتنا عندما نواجه حرية شخص آخر. يقودنا الاعتقاد الشائع عن الحرية إلى الاعتراف بأن الحرية ملكية فردية. نحن نتغلب على حريتنا ولا يمكن لأحد أن يأخذها منا. في رؤية الحرية هذه، يصبح الآخر عقبة، ومكابح، وحتى دخيلًا في حريتنا. التأكيد على أن الحرية ليس لها قيود منطقية تمامًا هنا. ومع ذلك، وفقًا لروسو، عندما يقول: "طاعة القانون التي فرضها المرء على نفسه هي الحرية" تظهر لنا شيئًا مختلفًا تمامًا. لم يعد التعريف الشائع للحرية شكلاً من أشكال الغياب التام للقسر. في الواقع، يخبرنا روسو أن القيد هو بالضبط الذي يسمح لنا بأن نكون أحرارًا. سيكون القيد هو رغباتنا، دوافعنا التي نمر بها طوال حياتنا. عندما أشعر بالجوع، أشعر بالرغبة في تناول الطعام. يقترح جان جاك روسو أن نصبح سادة دوافعنا ورغباتنا لكي نصبح كائنات حرة، متحررين من نفس هذه الدوافع والرغبات. وبالتالي، يصبح فعل تقييد الرغبة شكلاً من أشكال الحرية، لأن الاختيار ممكن: إرضاء الرغبة، وليس إرضاءها أو حتى اختيار عدم القيام بأي شيء.

قد يبدو للوهلة الأولى ان العبور من احد الكتابين الى الاخر امر مستحيل او أنه في غاية الصعوبة، إلا أنه في الاساس نجد أن السؤال الناظم لجسور التلاقي بين المتنين سؤال واحد.
يطرح الكتابان كلاهما سؤال الأصل واحد يطرحه بإعتباره الآل والآخر بإعتباره المآل، ان الكتابان رغم اهتمام كل منهما بسؤال الاصل في منحى معين واتجاه خاص إلا أنهما لم يغفلا الوجه الاخر، كما تكون العملة رمزا يقرأ من جهتين.
ينخرط الاستاذان في سؤال الحداثة ويجعلان من الاصل شيئا نعبر اليه باستمرار، هكذا يعلمنا التأمل في ماء النهر الذي لا يبقى محبوسا داخل آن مر وآن سيأتي، انما تكون هويته دائما مفتوحة على المعبور إليه فلا يطرح بذلك سؤال اللحظة السابقة أو اللاحقة انما "يعي" تمام "الوعي" حرية الاستقطاب واتساعه ورحابته، هذا الانفتاح على كل ممكن نتعلمه من الفائض في الدلالة المؤسسة للمدلول في لا نهائية الدلالة ومحدودية المدلول.

كثيرا ما نقول بأنّ العالم اليوم هو بمثابة" قرية صغيرة" بفعل ثورة الاتصال التي جعلت من التبادل عملية سريعة وذات سيولة كبيرة ولكنّها غير مثيرة، بالرغم من نجاعتها الواسعة في تقريب المسافات وقضاء الحاجات. ففي عالم البريد الإكتروني وشبكات التواصل يكون التواصل، اتصالا سريعا بالتأكيد، ولكنّه عابر لا يترك أثرا عميقا في الذات. ولكن حين يتعلّق الأمر برسائل بريدية ننتظر وصولها بلهفة ونقرأها مرارا وتكرارا ونحفظها حفظنا لأشيائنا الثمينة، فلا معنى للحديث عن الإثارة و لنجاعة الاتصال. وإذا كانت الرسائل على ألف لون وشكل، وتختلف قيمتها باختلاف كاتبها، فإنّ للرسائل المكتوبة منزلة خاصّة لبعدها الشخصي والحميميّ وبحكم صلتها بمعيش كاتبها، بفكره ووجدانه وتجربته اليومية. وإذا ما كان كاتب الرسالة "شخصيّة ممتازة" بعبارة برجسون، كان للرسالة وقعها الخاص من حيث إنّ قراءتها تمنح لذة خاصّة، وتفتح أفقا للتفكير لا في الرسالة ذاتها فحسب، بل في فعل التراسل وقيمة الرسائل المتبادلة بين هذه الشخصيات وغيرها شكلا ومضمونا... يقول شوفاليي دي جوكور:" ما من كتابة تمنحنا قدرا من اللذة مثلما تمنحه رسائل العظماء. إنّها تدغدغ قلب القارئ ببسطها ما في قلب الكاتب.

يهدف هذا المقال الفلسفي الذي نشره كانط، المنشور عام 1784، إلى إظهار أن للتاريخ معنى، أي أن مسار الأحداث البشرية لا يتكشف بشكل عشوائي. ما هو هدف التاريخ هذا، وما الآلية السرية، المحرك الخفي الذي يقودنا إليه؟ هذه هي الأسئلة التي يحاول كانط الإجابة عليها. هل هناك معنى للتاريخ أم أنه يمر بالصدفة؟
بالنسبة إلى كانط، فإن الصدفة ظاهرة فقط. في الواقع، يتم تحديد الأفعال البشرية وفقًا لقوانين الطبيعة العالمية مثل أي حدث طبيعي آخر. نتذكر أن كانط أسس في نقد العقل العملي أن هناك حتمية ظاهرة، حتى لو كانت الحرية موجودة كنومان. التاريخ ليس سوى المجموعة الهائلة من الأفعال البشرية، لذلك فهو يقع تحت الحتمية. ما يبدو فوضويًا وغير منطقي في التاريخ من وجهة نظر الفرد يتضح من وجهة نظر النوع باعتباره تطورًا ثابتًا، وإن كان بطيئًا، لميوله الأصلية. يأخذ كانط مثالين ليجعلنا نفهم هذا الترتيب المخفي تحت اللاعقلانية السطحية. يبدو أن حالات الوفاة والولادات والزواج تحدث بشكل غير منتظم، عن طريق الصدفة أو وفقًا لتقلبات إرادة البشر. ومع ذلك، تظهر الجداول الإحصائية أنها تحدث في النهاية وفقًا لقوانين طبيعية ثابتة. وبالمثل، فإن هطول الأمطار، على الرغم من عدم انتظامه، ينتهي به الأمر دائمًا إلى أن يكون متماثلًا إلى حد ما في منطقة معينة.

كيف يمكن تقرير شبح في العتمة. اِن هذه هي مهمة كل تأويل، والتأويل في الأساس لا يجد غايته ولا يحققها الا في العتمة، لأن « الخفاء يفتح الباب امام الخيال ويبعث على الحلم ويضفي على العالم بعدا من الغور كما انه يجعل الاشياء المألوفة والبسيطة موضوعات ذات إثارة وجاذبية »[1] فالشيء الجلي والواضح ليس له من الجاذبية ما يكفي ليبعث التوجس في النفوس، وكل توجس هو دفع الى الاقتراب ومحاولة سبر اغوار الشيء الباعث على التوجس والغرابة. هذا ما يفعله الشيء المعتم والخفي ،فالضبابية التي تحيطه وعدم الوضوح يطلبان اقرار المعنى والبحث عنه، ان العتمة لها من الخصب ما لها، ولا تحافظ النصوص بذلك الشكل من الراهنية والمعاصرة الا بفضل العتمة التي تميزها وتصاحبها، وكل نص لا تلفه العتمة يموت بعد تأدية مهمته الوحيدة والمحدودة، العتمة تجذب القراء والشراح والمؤولين، نصبح إزاء هذه النصوص كما الشخص الاعشى بإزاء كل مساء، تؤسس العتمة فيما تؤسس لثنائية اللفظ والمعنى وتكون النظرة متجاوزة لحدود اللفظ باحثة في الغور البعيد عن معنى او معان بالجمع وتكون مقابل ثنائية الظاهر والباطن .

" إن كونك فيلسوفًا هو أولاً وقبل كل شيء أن تتبنى طريقة فلسفية للحياة."
"هل هناك أي معنى لاقتراح العيش" فلسفيًا "اليوم؟" سأل ج. ف. بالودي في مقال مستوحى من أعمال الهيلينستي بيير هادوت. على الرغم من بساطته غير المسلية، فإن هذا السؤال يخفي عمقًا يتجاوز بكثير التساؤل الفلسفي المعتاد [1].
"ألا تريد أن تأتي قبلنا وتطبق ما تعلمته؟ هذا ليس المنطق الجيد الذي نفتقر إليه اليوم! إن كتب الرواقيين مليئة به. إذن ما الذي نفتقده؟ من يمارس ويؤكد أقواله بأفعاله. تعال وقم بهذا الدور حتى لا نستخدم أمثلة من العصور القديمة في المدرسة، ولكن لدينا أيضًا أمثلة من عصرنا". ابكتيت، مقابلات، الأولي، 29،