anfasse04122الواضح أننا ننتمي إلى ثقافة الجواب لا ثقافة السؤال. إن كل الأسئلة التي يمكن أن تتبادر إلى أذهاننا- بدءا بالأسئلة التي تهم الحياة اليومية العادية، ومرورا بتلك المتعلقة بالشأن الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والعلمي، وصولا لتلك الإشكالات الميتافيزيقية والوجودية- نملك إجابات مسبقة عنها، فليس لنا إلا أن نعود إلى أسلافنا الصالحين و تراثنا المحاط بهالة تضفي عليه "القداسة " لنلفي فيه ما يشفي غليلنا.  وقلما نكون على استعداد لمساءلة تلك الإجابات. وذلك لأننا نصدر من مسلمات - صريحة ومضمرة- تفيد بأن "السلف خير من الخلف"، وأن الأولين أقرب إلى المنبع والأصل وبالتالي أقدر على مدنا باليقين المطلق...ولهذا لا غرو إن كانت مجتمعاتنا تكن الكثير من العداء للأسئلة ذات الطابع الجذري والتشكيكي التي تروم خلخلة ما ينتمي إلى "آبائياتنا"- إن صح التعبير - وإعادة النظر في آرائنا ومعارفنا الجاهزة. إننا لا نرحب إلا بتلك الأسئلة "البليدة"( من قبيل الإستفسار عن حكم إرتداء البنطلون من طرف الرجال...) أو تلك التي تدور في فلك المتحول دون أن تجرأ على الإقتراب من قلعة  الثوابت المحصنة بفكر ديني  يتسربل برداء أرثوذوكسي يحجر على العقل باسم الدين.

anfasse27118يهدف هذا المقال إلى تقديم نظرة عامة حول مشكلة المكان في فلسفة أبي الوليد بن رشد من خلال بعض تواليفه الطبيعية والمنطقية، لا سيما منها "جوامع السماع الطبيعي" و"تلخيص السماء والعالم" وتلخيص كتاب المقولات، لندرك مدى تطور فكر الرجل بصدد مشكلة المكان وما يحوم في فلكها من معضلات فلسفية تستأثر باهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة على امتداد تاريخ الفكر البشري بوجه عام. وقبل أن نمحص طبيعة المكان لدى ابن رشد يحسن بنا أولا أن نبحث عن أصول وجذور مشكلة المكان كما أثارها أرسطو في كتاب "الطبيعة". الأمر الذي يستوجب التساؤل عن الأسباب التي دفعت بالمعلم الأول إلى إثارة مسألة المكان في المقالة الرابعة من كتاب "الطبيعة" دون غيره من النصوص الطبيعية الأخرى.
أصول مشكلة المكان:
إن المتأمل في كتاب الطبيعة لأرسطو سيقف لا محالة على أصلين أساسيين لمشكلة المكان كغيرها من المشكلات الفلسفية والعلمية الأخرى الواردة في هذا الكتاب. هذان الأصلان هما:
أ - أصل علمي: يتمثل في دفاع أرسطو عن إمكانية قيام العلم الطبيعي -ضدا على منكريه- اعتمادا على مبادئ علمية، ذلك أن كتاب الطبيعة لأرسطو يتناول من جهة أولى المبادئ المؤسسة للعلم الطبيعي من قبيل: المادة والصورة والعدم، لا للبرهنة على وجودها، لأن ذلك يتكفل ببيانه صاحب علم ما بعد الطبيعة، بل فقط لحصر عددها، والحديث عن علاقة بعضها ببعض، وبيان ما السبب الذي بالذات والذي بالعرض(1). كما أنه يتناول بالدراسة والتحليل من جهة ثانية، اللواحق العامة للأجسام الطبيعية كالمكان والزمان والحركة واللانهاية… ولما كانت الطبيعة في نظر أرسطو مبدأ حركة وسكون في الشيء"(2) فإنه يستوجب على صاحب العلم الطبيعي أن ينظر في أمر الحركة ليعلم الطبيعة ما دامت الحركة تدخل في حد الطبيعة، ولكي يعلم الحركة يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتحدث عن المكان والزمان، إذ لا وجود لحركة بدونهما.

anfasse27116استهلال:
" بديهي أننا كمثقفين نحمل جميعنا فهما عمليا أو ترسيمة معينة للنظام العالمي... على أنه فقط من خلال المواجهة مع ذلك النظام... تخاض المبارزات وربما ينعقد الفوز فيها أيضا." [1]
لا يعتبر ادوارد سعيد مجرد مثقف كوني يحتل مكانة فكرية عالمية تضعه إلى جانب عمالقة الثقافة في الكوكب بل تقول سيرته الذاتية عنه أنه فلسطيني منفي حاول الغرب طمس هويته وتزييف جوهر رسالته ومازالت مجهوداته النقدية ومواقفه السياسية وأفكاره الفلسفية تمتلك راهنية وتمثل مادة خصبة للمعالجة.
لم يمنع حل الدولة الواحدة الذي نادى به سعيد من أن يكون منظورا فلسطينيا للصراع العربي الصهيوني ومن التحول إلى أشد المدافعين على القضية في الدوائر الغربية ومن المتمسكين بالحقوق الثابتة والتاريخية بل صار رقما صعبا في الذاكرة النضالية ضد الامبريالية وناطق رسمي باسم المقاومة الأممية ضد الظلم.
لقد حاول تخليص العرب من الصورة النمطية التي دأب الأدبي الغربي على تقديمها عنهم وبذل جهودا لإيقاف مهزلة تغطية الإسلام وإلصاقه بالإرهاب وأدرك على الفور ضرورة إنارة الرأي العام والتعريف بالقضية والتخصص في مناهضة التطبيع مع الواقع المهزوم والمداومة على التشهير بالعنصرية والتمييز. لقد كان دائم التساؤل:" ِلمَ لا نقوم نحن بدراستهم؟ إن تلك هي الوسيلة لمعرفة من هو جارك أو عدوك، اذا كان هذا حاله" [2]. كما بيَّن سعيد أن الميديا قد غطت التعاليم المنفتحة والمشرقة للإسلام ووضعت مكانها صورة منفرة وعنيفة ولقد شارك خبراء الإعلام في تشكيل صورة همجية ومتخلفة عن العرب والشرقيين وبالتالي تشكل سوء تفاهم مع الآخر وتسربت روح عدائية في نظرتهم إلى بقية العالم وأثرت في تعاملهم مع الشعوب [3]. على هذا الأساس ماهو الدور الذي يلعبه الكتاب في الدفاع عن القيم الكونية ومعارضة الحرب والانتصار إلى ثقافة السلام؟ كيف يمكن للسلطة أن تنبثق من قلب الممارسة الفكرية والمعرفية؟ هل من داخل الجامعة أم من خارجها؟  لماذا يواجه الكاتب أو المثقف في الشأن العمومي العديد من المشاكل والمخاطر حينما يؤثر الكلام على الصمت ولما يخرج من السكون إلى الحركة وعندما يستجيب للأمر الوجودي وينخرط في غمار السياسة؟ وهل توجد طريقة ملموسة وغير قابلة للبرمجة عن التجارب التي تتشكل منها  النضالات اليومية للمثقفين؟

anfasse27114نستهل الحديث عن تأويليات الفيلسوف و اللاهوتي الألماني فريدريش دانيال أرنست شلايرماخر (Friedrich Daniel Erns schleiermacher   ( (1834-1768)  بمقتبس من محاضرته في الهرمينوطيقا   إذ يقول " الهرمينوطيقا بوصفها فن الفهم لا وجود لها كمبحث عام ، فليس هناك غير كثرة من الأفرع الهرمينوطيقية المنفصلة. "
إذا وقفنا قليلا على هذا القول وأمعنا النظر نلاحظ بأن هرمينوطيقا شلايرماخر تعنى في المقام الأول بمسألة الفهم ، وليس أي فهم وإنما يحددها بوصفها فن الفهم (l’art de compréhension )   وهذا الوصف يحيلنا إلى أن الفهم عملية إبداعية بالدرجة الأولى ، فالفن هو قدرة على الإبداع ، وليس تطبيق حرفي آلي  هنا نميز بين الفن ، والآلية (le mécanisme ) في الفهم .
وكما أشرنا سلفا بأن تعريف شلايرماخر للهرمينوطيقا باعتبارها فن الفهم وكل فهم فهو فهم خاص مثال: فهم قصيدة فهم رواية ... ، و كل فن لابد له من قواعد؛ إذن فالفن إبداع في فهم النصوص مع احترام القواعد.
بينما الآلية فهي تطبيق حرفي ميكانيكي فالآلية تقتل الفن وهما من هذا المنظور متعارضان بالنسبة لشلايرماخر مثال فالكل لا يساوي مجموع أجرائه وإنما الكل هو تلك القيمة المضافة .

anfasse27113قراءة في كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لأبي الوليد ابن رشد- مريم بناصر
يعد كتاب"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" من أضخم ما ألف الفيلسوف المسلم ابن رشد، حيث استحضر فيه جدلية العقل والنقل التي ظل يتخبط فيها الفكر العربي الإسلامي.
وقد أراد من خلاله الفصل بين خطابين غير متجانسين: خطاب شرعي مقام على الوحي والإيمان، وخطاب فلسفي مؤسس على الاستدلال والعقل والبرهنة.وطرح العلاقة بين الدين والمجتمع مخاطبا المتكلمين و الفقهاء خاصة الذين نهوا عن النظر العقلي في الموجودات وقاموا بتكفير الفلاسفة.
أكد ابن رشد على أن الشرع حث وأوجب النظر العقلي في الموجودات،مستدلا بقوله تعالى في سورة الحشر فاعتبروا يا أولي الألباب﴾ ،وبقوله في سورة آل عمران ﴿ويتفكرون في خلق السماوات والأرض﴾، و على أن الفلسفة ليست إلا حكمة ونظرا إلى الموجودات، وبالتالي معرفتنا بمن أوجدها وهو الله تعالى. مما يؤكد انه لا تعارض بين الفلسفة والشريعة ، وكلاهما يعتبر  سبيلا للتعرف على الخالق الذي حث على وجوب استعمال النظر العقلي أو البرهان كما سبق الذكر.

anfasse27112عندما نتأمل مطولا تلك العبارة الشهيرة التي حفظناها عن ظهر قلب ونحن لا نزال صغارا في الصف الابتدائي : "خير جليس الكتاب." أو النسخة الموازية لها "الكتاب خير صديق وأنيس" نرى أنفسنا مجبرين على وضع الصداقة كطرف في مقابل الكتاب، إذ الكتاب صداقة والصداقة كتاب، من ثمة وبكثير من الحرص اللغوي والفلسفي توجب علينا تمحيص هذا الحكم الغيبي، ولم لا طلب استئنافه لعل المراجعة تنفع ما اعتقدناه حكما ثابتا قبل اليوم.
    إن من بين المواضيع الشيقة التي أبدعت فيها الفلسفة نجد موضوع الصداقة، هكذا لن نتعجب أبدا عندما نرى أن كبار الفلاسفة وفي منطقتهم الحميمة قد أعطوا كبير نصيب لهذا المفهوم، والحال أن أبرزهم لن يكون إلا أفلاطون وأرسطو وشيشرون وأبي حيان التوحيدي وجلال الدين الرومي وجون جاك روسو وديدرو ودوبرويار وجيل دولوز... بيد أن الصداقة عند هؤلاء الأهرام لم تقتصر إلا على الجانب الذي يربط الإنسان بالإنسان، وليس الإنسان بالأشياء، هكذا ألفيت نفسي وأنا أتأمل مكتبتي ذات يوم رفقة سؤال طالما حيرني: كيف يكون الكتاب صديقا؟

anfasee19119كان لشيوع لفظ الفينومينولوجيا في ميدان الآداب، أن صار المعنى الحقيقي لهذا المفهوم واضحا أكثر. فعبارة "علم الظواهر" تعني -ولا تعني- الكثير. فهي من جهة لا تعني الكثير بالنظر إلى كون عموميتها يمكن أن تجعلها تنطبق على أي بحث عن الحقيقة حتى داخل حقل العلوم التجريبية التي تلجأ إليها في بعض الأحيان. وهي من جهة ثانية تعني الكثير لأنها تفترض منذ الوهلة الأولى طريقة جديدة في فهم طبيعة الظواهر.
بداية، ليس من المؤكد أن للاسم في حد ذاته أية أهمية كما يؤكد على ذلك في كثير من الأحيان هوسرل [صاحب المذهب] الذي يعتبر أن المفاهيم الفينومينولوجية هي أولا وقبل كل شيء أدوات مرنة قابلة لإعادة التشكل بهدف الوصول إلى التجربة الحدسية التي تشير إليها. واعتبارا لذلك، فإن البحث في الأصل الاشتقاقي سيكون قليل الفائدة. وبالفعل، فإن "لفظ" الفينومينولوجيا" سابق في الوجود على تعيينه لتيار فلسفي مخصوص. فقد استعمله لامبير Lambert لأول مرة في القرن 18، ثم كانط الذي فكر لحظة ما في توظيفه كعنوان ممكن لكتاب "الاستطيقا المتعالية". وبعد ذلك استعمله هيجل كعنوان، لأكبر برنامج، لأحد أهم وأكبر مؤلفاته وهو "فينومينولوجيا الروح". وكان لا بد من انتظار مطلع القرن 20 مع ظهور مؤلف "أبحاث منطقية" لهوسرل سنة 1901، كي يظهر اللفظ من جديد في ساحة الفلسفة ويتخذ بشكل نهائي دلالته المعاصرة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كثيرين منا يعرفون الدعوى الشهيرة لهوسرل : "العودة إلى الأشياء ذاتها"، لكننا نجد صعوبة كبرى في تحديد دلالتها الفعلية.
وباختصار شديد فإن السمة العامة التي تميز تعاليم هوسرل الفينومينولوجية تتمثل دون شك في اعتبار أن الظواهر ليست ما نظن أنها عليه، أي أن البداهة لا تتواجد حيث ننتظرها. وهذا ما يجعل ضروريا القيام بعمل إعدادي يتمثل في إجلاء حقل التجربة الظاهراتية نفسها. لهذا السبب فإن الفينومينولوجيا هي للوهلة الأولى منطق ظواهر، وذلك بالمعنى الذي تسعى فيه إلى تحديد منطق الظواهر وماهيتها وطريقة فهمها، وأيضا بالمعنى الذي تستخدم فيه منطقا منهجيا مخصوصا وحده الكفيل بالوصول إلى الظاهرة كما هي. وعلى نقيض الفكرة المسبقة الشائعة عن فلسفة ساذجة وغير جدية، تكتفي بجمع الظواهر من أجل استخلاص معناها (أي نوع من الشعر الواصف للعالم المحيط بنا)، فإن الفينومينولوجيا كانت دائما مهتمة بالوسائل الكفيلة بإنجاز التحليل الظاهراتي. لذلك فإنها وظفت باستمرار منهجية جد دقيقة تضمن الوصول إلى الظواهر كيفما كان نوعها، دون التخلي عن اقتضاء البحث عن معقولية شاملة للتجربة.

anfasee19118" لقد أخذت الحداثة تقترب من تعريف نفسها عن طريق تعارضها مع نفسها عينها "[1].
لقد اتفق غالبية الشُرَّاح على منح بول ريكور  لقب "الفيلسوف المسيحي" وهي تسمية كثيرا ما كان يرفضها في محاوراته ويعتذر لكل من يطلقها على فلسفته وذلك لكونه يعتبر نفسه من طينة المفكرين الذين لا يعيرون أي اهتمام وثوقي في قراءاته الدينية بل يحاول قدر الإمكان التمييز بين سجل التفكير التأملي ومجال الإيمان الشخصي ويعرف تفكيره بوصفه فلسفة دون مطلق بل نراه يعول بشدة على هذا التمييز الصارم قصد التخلص من النزعة الألوهية واحترام مفاهيم البنية والاختلاف والغيرية والعلمنة.
لقد وقع اتهام ريكور من قبل بعض المتابعين مثل ( Rainer Rochlitz و Annette Wiework  وAlain Badiou ) بأنه يثبت وجهة النظر المسيحية للذات التاريخية ضد وجهة النظر الفلسفية التاريخية التي تنحدر من أصول يهودية وخاصة في مسألة سياسة الذاكرة العادلة. صحيح أن الفلسفة الريكورية هي مجال الحجاج والدقة ولكنها لا تدعي بلورة الحقيقة المطلقة وصحيح أنها عادت في بعض الأحيان إلى مشاكل الإثم والغفران والخطيئة الأصلية والعطوبية والتناهي وهي مفاهيم مشتقة من الفضاء الديني ، إلا أن ذلك لم يكن مراده عقلنة اللاهوت وبناء تأويلية لاهوتية بقدر ما يتعلق الأمر بالكشف عن صعوبات وإمكانيات الصفح وتهيئة سياقات الغفران وتحديد الاستراتيجيات من أجل تحقيق اندماج الذاكرة في محيطها الثقافي والتعامل معها كمطية لبلوغ وضعية إيتيقية متصالحة مع نفسها والتفاعل مع قيم الإيثار والمسؤولية والعيش المشترك.

anfasee19117إن الميتافيزيقا كفلسفة، شأنها شأن باقي الأبحاث الفلسفية، يمكن النظر إليها كميتافيزيقات، des     métaphysiques وليس كميتافيزيقا واحدة، فإذا كان كبير الفلاسفة ديكارت قد مهد للتأسيس إلى ميتافيزيقا الذات، فإن هيجل كرس ميتافيزيقا الحضور، فيما عمل نيتشه ـ من حيث لا يدري ـ على غرس أولى نباتات ميتافيزيقا إرادة القوة وهلم جرا، لكن أين سنصنف من كل هذا ميتافيزيقا كانط؟ هل سننظر إليها كميتافيزيقا النقد، أم كميتافيزيقا ترنسندنتالية، أم كميتافيزيقا العقل الأخلاقي العملي؟ الحال أن الوقوف عند بنية تفكير العقل الخالص، من شأنها أن توجهنا نحو فهم الميتافيزيقا الكانطية، وأبرز تبلوراتها في هكذا فلسفة.
    تتأسس الميتافيزيقا الكانطية على منطق الثنائيات على غرار جل الميتافيزيقات ابتداءً من أرسطو حتى هايدغر، والحال أن ميتافيزيقا كانط لم تسلم هي الأخرى من هذا المنطق، إذ يعمل فيلسوف كونكسبرغ في عمليته النقدية على التمييز بين عالمين، عالم مادي محسوس، وعالم عقلي خالص، أي عالم التجربة الحسية وعالم الفهم، بيد أن الجديد الذي أضفاه فيلسوفنا يكمن أساسا في رسم تخوم ومعالم كل عالم على حدة، عكس الميتافيزيقات السابقة، والتي انتصرت دوما لعالم على حساب آخر، حيث انتصر ديكارت مثلا للذات على حساب الموضوع، وللفكرة على حساب المادة، بينما انتصرت قبله الميتافيزيقا الأفلاطونية  للمثال على حساب المادة، وللأيقونة عل حساب السيمولاكر... هكذا يعمل كانط في بداية نقده على الدعوة إلى تجاوز هذا التمييز الذي عصف بتاريخ الفلسفة، مبرزا أن للمادة أهميتها وأن كل إفراط فيها من شأنه أن يسقطنا في العماء، في حين أن للعقل هو الآخر دوره الرئيسي، بيد أن الإفراط في تبويئه المكانة الأساس في فعل التفلسف يجعل من الفكر شيئا أجوفا.

anfasee19115مارتين هايدِغر Martin Heidegger ، 1889) ـ 1976( مفكر وفيلسوف ألماني معاصر  ترك ر مؤلفات كثيرة كان أهمها: «الوجود والزمان» (1927)، «كانْط ومشكلة الميتافيزيقا»   (1929)، «ماهية الحقيقة»  (1943)، «رسالة في النزعة الإنسانية» (1947)، «ما الميتافيزيقا»   (1953). نال مؤلفه «الوجود والزمان» شهرة كبيرة لتطبيقه الرائع للظاهراتية Phénoménologie  وتأسيسه لعلم الوجود  وقد اعتبر أول من أحيا الانطولوجيا في القرن العشرين، بالإضافة الى اسهامه الكبير في التأسيس الهرمينوطيقي الذي يعد أكبر اسهام فلسفي استقام به حال الهرمينوطيقا.
فهو شأنه شأن ديلتاي في سعيه نحو تأسيس  منهج موضوعي في العلوم الإنسانية، لفهم الحياة في ضوء الحياة ذاتها ، والسعي جاهدا الى الارتقاء بالهرمينوطيقا الى مركز التأمل الفلسفي. من خلال كتابه العمدة "الوجود و الزمن" عمل على رد الاعتبار للوجود من منظور تأويلي؛ بمعنى العودة الى الأشياء في بداياتها الأولى .
لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن هايدغر لم يتكئ على جهود هوسرل الفينومينولوجية (...)،فالفينومينولوجيا الهوسرلية بما استحدثته من آليات اجرائية لإقرار الموضوعية، وتأسيس منهج فلسفي لا يرضى بغير الفصل الإجرائي بين الذات و الموضوع وبين الذات فردانية ومتعالية ،تجسيدا لفكرة الرد الماهوي وتعليق الأفكار ،وإشاعة مقولة العودة الى الأشياء ذاتها بغية الوصول الى الحقيقة ( المعرفة / النص) تأويلا و فهما كما أنها لم توجد إلا في تلك اللحظة ،كانت بذلك فتحا فلسفيا جديدا اتاح للهرمينوطيقا إمكانية بناء نظرية في التأويل تقوم على فهم النصوص / الظواهر فهما مختلفا عن التصورات الذهنية، وسابقا عليها في الآن. هذه الإجراءات المنهجية كانت بمثابة الأساس الذي أخد بيد هايدغر ليبني صرح مشروعه الفينومينولوجي، لا على سبيل المطابقة أو المماثلة ،بل تجاوزا واختلافا وتأويلا غيريا. (1)

anfasee19114ا- توضيحان أساسيان و قناعة:
  أ- التوضيح الأول:
  يتعلق الأمر بالالتباس الذي  قد يستشعره البعض أمام تصنيفنا لبورديو فيلسوفا في الوقت الذي اشتهر فيه سوسيولوجيا لامعا. وهنا نشير إلى الهزة العنيفة التي عرفتها الفلسفة في القرن العشرين و بالضبط بعد سارتر، إذ بات من العسير التمييز بين الفيلسوف و المؤرخ و الناقد الأدبي و الأنتروبولوجي و عالم النفس و السوسيولوجي... و إلا ففي أية خانة نضع ميشيل فوكو و جيل دولوز و فيليكس غاتاري و رولان بارت و بيير بورديو... و معظم الفلاسفة المعاصرين...إننا نجدهم في كل الحقول السابقة.
 ب- التوضيح الثاني:
  يتعلق الأمر بالمعنى الذي نعطيه ل"الفلسفة الإنسانية" ضمن هذا العرض. فهي فلسفة عقلانية و موقف تقدمي في الحياة (progressive lifstance). بعيدا عن المافوق- طبيعي، تعلن قدرتنا نحن معشر البشر على سلك حياة أخلاقية ذات معنى، حياة قادرة على إضافة خير للإنسانية.
  وبإعلانها كرامة كل كائن إنساني قيمة قصوى، فإن النزعة الإنسانية  تأخذ على عاتقها إعلان الحريات الفردية و المسؤولية الاجتماعية، بل و الكونية إلى أقصى درجة ممكنة. إنها بهذا
المعنى عمل من أجل الديمقراطية و حقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية...و الحب...و الخير و الجمال...، و كل ما من شانه أن يرفع من منسوب إنسانية الإنسان.