anfasee19112إذا حدث أن قلت لماركسي أنك ميتافيزيقي، وأن الميتافيزيقا أساس كل تفكير مهما كانت نوعيته، من العلوم إلى الطب مرورا بالفلسفة والفن... فإنه سينظر إليك بعين الارتياب، وسيصنفك ضمن التيار المثالي الذي أرست دعائمه فلسفة أرسطو إلى حدود المثالية الألمانية، وعندما ستطرح عليه علة هذا التصنيف، سيجيبك بطريقة ميكانيكية كون أن الصراع الفلسفي منذ مدة طويلة، هو صراع بين المادية والمثالية، بين من يعطي الأسبقية للفكر وبين من يعتبر الواقع أساس كل تفكير وإدراك، بين العقل والمادة، وبين الواقع والروح "l’esprit" وأن الحقيقي في هاته المعادلة الطويلة، هو الانتصار لكل ما هو مادي، أي انتصار للواقع أولا، بما أننا نوجد بداية، حيث تعمل آلة الواقع على تحديد وصنع وعينا، ثم بعد ذلك نفكر انطلاقا من واقعنا الاجتماعي والاقتصادي، أما المثالية فإنها ستقف معدومة أمام هذا القول، لأنه يستحيل أن تُصنع قبليا كي توجد، كلا إذ ما تؤخذ هذه الأمور بهاته البساطة الساذجة، أي أن حقيقة الأمر هي أننا نوجد بعديا "a postériori"
    والحاصل مما تقدم في هذا الحكم، هو أن الميتافيزيقا تفكر قبليا، وبما أنها على هاته الشاكلة فإنها مثالية بطبيعة الحال، بل إن هناك مثاليات مادية أيضا أرست دعائمها فلسفة فويرباخ الساذجة، حيث كل الأشياء تلبس معطفا ماديا ثقيلا إلى درجة الإفراط...

Anfasse12119نُشرت المؤلفات الأربعة الخاصة بسلسلة "الدفاتر السوداء" لمارتن هايدغر، بين سنوات 2013 و2015 بألمانيا، محدثةً ضجة بجل أرجاء العالم، طالما أنها أتت لتؤكد بأن الفيلسوف الشهير كان متحمسا لصعود النازية، مبرزة كذلك بعض السمات المميزة لمعاداة السامية. يظهر بإسبانيا حاليا الجزء الأول من هذه السلسلة، مذكرات الفيلسوف التي تضم العديد من الأفكار المتنوعة، والمدوَّنة بين سنوات 1931 و1938.
وبالرغم من أن جزءً مهمّا منها يتعلق بمسائل فلسفية، إلا أن العديد من المقاطع تُلمّح للظرف السياسي الألماني :  الانتصار المشهود للاشتراكية الوطنية، الحدث الذي أشاد به كذلك سنة 1933، عندما كان عميدا لجامعة فرايبورغ، ظاهرا بشاربه الهتلري والصليب المعقوف بصدر سترته، الموقف الذي جعله شبيها نوعا ما بالنازيين.
في ظل الضجة الإعلامية لهذه الدفاتر السوداء، يميل الاعتقاد إلى أن تلك الصفحات تشيد بهتلر وتسيء لليهود، إطلاقا، فملاحظات الفيلسوف غير صريحة، وماكرة بدرجة كبيرة. فالكتاب الأول من السلسة لا يكشف سوى عن إلتزام تمهيدي تجاه النازيين، بعدها، إزدراء واضح للوضع "الروحي" الألماني. ولم يدلي بأي كلمة بخصوص اليهود.
بشكل عام، يبدو هايدغر انطلاقا من ملاحظاته كمتحمس ل"الفسلفة"، الرؤية المقابلة للعلم ـ "لا فِكر للعلم"، كتب يقول ـ هايدغر كشخص يفهم التفلسف باعتباره طرحا لأسئلة جذرية وجريئة أكثر من كونه مجرد إجابات : "كل سؤال متعة، كل إجابة انحدار". كان السؤال الجوهري لدى الفيلسوف العظيم الذي طالما أبهر طلابه (كما طالباته، على سبيل الذكر عاشقته الشابة حنة أرندت) هو "ماهية الكينونة؟ لماذا هناك وجود بدلا من لاشيء؟". باختصار، قام "الساحر" بتفكيك المقولات المتداولة ليقول ما انفلت من القول.
في الواقع، نرى أن المفكر الفريد من نوعه، وهو في نفس الوقت إنسان، قد ارتكب خطأ كبيراً بالتزامه مع النازية، معتقدا أن صعود هذه الحركة سيأتي بالتغيير الأفضل لمصير ألمانيا، ثورة جذرية للروح الألمانية لم تحدث كما كان يتوقع. معتقدا أن التوحد الألماني بقيادة هتلر، سيلهم الألمان للسعي نحو الحقيقة والكينونة، فحيّا الصعود النازي ك"مبدأ عظيم"؛ آملاً بأن الفلسفة ستستفيد من جراء ذلك، بهيمنتها الثقافية على الحياة الاجتماعية للألمان، كما حدث ب(مثالية) المجتمع الإغريقي القديم. والفلاسفة، الذين غالبا ما يعيشون منعزلين (هايدغر كان كذلك بدرجة كبيرة)، سيخرجون من عزلتهم، وبصرف النظر عن "أناهم الصغير"، سيمشون مجتمعين مع الرجال الآخرين.

Anfasse12118إن فلسفة العقل الخالص، أو الفلسفة النقدية والتي يمثلها فيلسوف كونكسبرغ كانط، ليست إلا تلك القراءة المعاكسة لمنطق التفكير الفلسفي خلال عصر الأنوار، والذي كان إما مصنفا تحت تأثير التقليد القاري الذي يعتبر كل من ديكارت، لايبنتز، باسكال، واسبينوزا رواده الأوائل، أو عن طريق هيمنة التقليد الأنغلوساكسوني والذي أرسى دعائمه فلاسفة كبار من قبيل بيكون، هيوم، لوك، والأسقف بيركلي وإن غامرنا في تصنيف هذا الأخير ضمن دائرتهم.
    عندما نعود إلى تاريخ الفلسفة سنجد أن هذا الصراع بين العقل والتجربة الحسية لم يكن وليد لحظة الأزمنة الحديثة، بقدر ما أن جذوره كانت ضاربة مند اليونان خاصة فلسفة كل من أفلاطون المنتصرة للعقل الرياضي، وفلسفة أرسطو المدعومة من طرف العقل الفيزيائي، لهذا ربما لن ننشده عندما نرى أفلاطون قد منع كل من ليس رياضيا من الدخول إلى أكاديميته، عكس أرسطو الذي كان الفيزياء physis من بين الاسئلة الكبرى التي شكلت نسقه الفلسفي إضافة إلى ما بعد الفيزياء، والحال أن العصور الوسطى أو قل فلسفة العصور الوسطى لم تسلم هي الأخرى من صراع خفي بين العقل والتجربة، بين الفكرة والشيء، وبين المثال والواقع، تمثل أساسا في ذلك الحوار الشهير بين مدرستين الأولى اسمية بناها رجل يدعى القديس أوغسطين، والثانية واقعية أسسها القديس طوما الأكويني، الأولى حاولت أن تبيئ معالم المسيحية والفلسفية الأفلاطونية، في حين أن الثانية جعلت من المدرسة الأرسطية منطلقها الأول، وبين هذا وذاك سطع نجم فيلسوف ألماني والذي ليس إلا إيمانويل كانط الذي وإن أبدى اهتماما كبيرا بالفلسفة الديكارتية في بداياته حياته، انعرج عنها بعدئذ خلال تأسيسه لمبادئ العقل الخالص القائم على أسس نقدية تفكر في كيفية التفكير.

Anfasse12117"ينبغي بلا ريب إيراد النقد النيتشوي للميتافيزيقا، لمفهومي الكون والحقيقة، اللذين حلت محلهما مفاهيم اللعب والتأويل والإشارة من دون حقيقة حاضرة " جاك دريدا.
تقديم :
سنحاول- في هذا المقال - أن نتتبع مسيرة البحث عن فلسفة نيتشه داخل الصرح الفلسفي الفرنسي المعاصر( التي بدأناها بالإشتغال على القراءة الدولوزية لفلسفة نيتشه، وآثار هذه الأخيرة في فكر ميشيل فوكو ) 1 ، وذلك بالتركيز على واحد من دعامات هذا البناء الفكري وركائزه، ألا وهو الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي ذاعت شهرته في كل بقاع العالم كرائد للتفكيكية،نحت مفاهيم جديدة : "التفكيك Déconstruction  و الإخــــــــ(ت)ــــــلافDéfférance،والتمركزالعقلي  Logocentrisme والتمركز الصوتي Phonocentrism ..." وصاغ تصورات متفردة استهدف من خلالها نقد وتفكيك الميتافيزيقا الغربية، وذلك بالكشف عن أوهامها، وتعرية تناقضاتها، وإظهار ما تحجبه.
ولكن قد يجدر بنا الوقوف لحظة قصيرة للتصريح بصعوبة وشساعة فلسفة دريدا، أضف إلى ذلك محاولة السعي لتسليط الضوء على الحضور النستشوي داخلها. ولذلك فإننا سنقتصر على طرق بعض الإشكالات التي نعتقد أنها تفسح أمامنا المجال للتعرف على حضور نيتشه داخل المتن الدريدي. فبأي معنى يمكن الحديث عن هذا الحضور؟ وقبل ذلك كيف يمكن أن نعرف التفكيك الذي يعتبر "الأس المفهومي" لفلسفة دريدا؟ ثم ألا يتسنى لنا ربطه "بالتفلسف المطرقي" النيتشوي إن صح التعبير ؟ ألا يحق لنا القول إن دريدا يسير في الطريق التي عبد فيلسوف المطرقة جزءا منها، ألا وهي طريق النقد  الجينيالوجي للميتافيزيقا الغربية والإطاحة بها من عرشها الذهبي؟

Anfasse12113لا تخلو لغة من الضمائر و لا تخلو الضمائر بدورها من الإحالة إلى ثلاثة : ضمير المتكلَم "أنا" و ضمير المخاطب "أنت" و ضمير الغائب "هو" . هكذا قدَ الخطاب و هو في الحقيقة ما به يبني الإنسان علاقته بالعالم إذ أننا نفكَر داخل اللغة أو لكأن العالم لغة. غير أن الإشكال لا يتعلَق بالضمائر و لا بطبيعة الخطاب بل بطبيعة العلاقة التي تربط بين هذه الضمائر الأساسيَة فمن يقول "أنت" أو "هو" إنما يميَز بذلك بينه و بين آخر ليس هو و بالتالي يتعلَق الأمر أساسا بهذا الذي يقول "أنا" فيضع بينه و بين العالم وسائط تختلف باختلاف العلاقة بين الأنا و الآخر. فمن هو هذا الآخر الذي نشير إليه لغة بكل ما تحمله هذه الكلمة من عمق أنتولوجي و فينومينولوجي ؟ و بأي وجه نقصد الآخر ؟ ألا تجعل منه هذه القصديَة صورة ؟ فما شكل تجليات هذه الصورة؟ ألا يعني بذلك أن الآخر لا يوجد إلا إذا أشار إليه الأنا و بالتالي يصير الآخر صورة مسقطة للأنا ؟ ألا يمكن أن يتحرر الآخر من  ربقة الصورة فتمَحي الفواصل الرمزيَة و هذا ما نجده في أقصى العلاقات الإنسانية اشتباكا كالحب مثلا ؟

anfasse06119عمليا، لا يوجد في الفكر المعاصر عمل يشبه مؤلفات هابرماس، من ناحية طابعها المعماري وقدرتها على التعبير النقدي. أفقها الأكبر هو الوصول إلى سبر كنه التوسع الاجتماعي للعقلانية في العصر الحديث، وهمها النهائي ليس شيئا آخر في العمق سوى تأسيس فضاء الديموقراطية على أسس عقلانية، خالية من أي تجذر متعال. يتميز تصور الحداثة الذي يخترق أعمال هابرماس بالتأكيد على القطيعة العميقة بين الوحدة الأولية للعالم وبين الإنسان، ويتميز في نفس الوقت بإرادة دائمة للوصول إلى اندماج غير مرضي للمجتمع، عن طريق استعمال العقل. تأتي العقلانية من تمزق وحدة العالم، ولكنها هي، وهي فقط، التي ستسمح للمجتمع الحديث بأن يصل إلى تعبير جديد. يرى هابرماس بأن تاريخ النظرية السوسيولوجية، بعد ماركس، ليس شيئا آخر غير تاريخ انفصال نظرية معينة حول الحركة عن نظرية حول المنظومة، الشيء الذي أدى إلى العجز عن إدماج هذين النظامين داخل مفهوم معين عن المجتمع، قادر على التعبير عن المنظومة والعالم المعيش.
I – قطيعة المفهوم المتوحد للعالم
العالم المعيش:
يرى هابرماس أن أية دراسة عن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستغني عن التفكير في اللغة، باعتبارها عنصرا أصليا مكونا للشخصية الإنسانية، ولإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية. يستعمل هابرماس مفهوم العالم المعيش لكي يصف عالم الدلالات الأولية التي يبحر فيها الفرد. والحال أن العالم المعيش، في صيغة هوسرل، هو أفق الأشياء، العالم الحاضر دوما للأشياء التي تعطى في التجربة المباشرة للحياة[1]. أفق حاضر مع بنيته الخاصة به، ومع انسجامه ووحدته الحقيقية، على أسس بعض أشكال السببية المكانية والزمانية الما-قبل علمية. العالم المعيش، الواقعي والما-قبل نظري، يسمح بوجود وقائع أخرى (عالم العلم، عالم الفن) ولكنها وقائع تحيل دائما، في نهاية المطاف، إلى الواقع الأولي للحياة اليومية. لئن كانت العوالم كلها ذات شكل منسجم، على المستوى الرمزي، فإن الانسجام النهائي لجميع هذه العوالم يحيل، ويستند على الانسجام والدلالات الداخلية للعالم المعيش. تجد هذه الدرجة الأولى في إدراك العالم مكملا لها في المقصدية، ما دام يتم الافتراض بأن للذات نية في الذهاب إلى الكائنات والأشياء. خاصية المقصدية هي وصف العالم المعيش باعتباره متداخل الذوات وخاضعا لآفاق مختلفة. تبقى تصورات وتفاعلات الفاعلين متجذرة في عالم معيش، ما قبل نظري وأنطولوجي، وهو الأساس اليومي للواقع الذي نرتبط به، قبل أية نظرية أو حتى أي تفكير.

anfasse06118في كتابه العقل السياسي العربي،حاول الجابري بيان محددات الممارسة السياسية و تجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية و امتداداتها إلى اليوم.
وإذا أردنا أن نقرب الإشكالية التي يعالجها الجابري ،أمكن القول إن السؤال الذي يريد المؤلف الإجابة عنه هو التالي:كيف تكون العقل السياسي العربي؟و مسار تكوينه في التجربة الحضارية العربية الإسلامية؟
فالجابري يرى أن العقل السياسي العربي انطلاقا من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي الراهن،هو عقل بقي حقل التفكير فيه محاصرا باديولوجيات لاعقلانية،هي:إيديولوجية الجبر،و التفكير الخارجي،و الإمامة.
كما بقت الممارسة السياسية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية تكرر نفسها في إطار محددات أساسية،هي:القبيلة و الغنيمة و العقيدة،مع اختلافات بسيطة بقت كزهرات قليلة في حقول الشوك،لم تغير من طبيعة المسار العام لهذه الممارسة.«من الدعوة إلى الدولة،دولة النبوة و الخلافة،ومن هذه إلى الملك العضوض و الدولة السلطانية:مسار واحد،هو مسار تاريخ ظهور و تشكل العقل السياسي العربي».«فقد بقي هذا المسار يكرر نفسه في الوطن العربي،مع اختلافات جزئية لا تغير اتجاهه و لا من طبيعة حركته،لأن المحددات التي صنعته و التي كانت تعيد صنعه هي هي:القبيلة،الغنيمة،العقيدة».حيث بقي الصدام العنيف و الاقتتال هو الحل الغالب بين الفرقاء السياسيين،بسبب عدم إقرار طريقة واحدة مقننة لتعيين الخليفة،و عدم تحديد ولايته،و عدم تحديد اختصاصاته،و عدم القدرة على محاسبته.

anfasse06117بمجرد أن أكد العالم الإغريقي الشهير أرسطارك دو ساموس مركزية الشمس بدل الأرض إبان القرن الثالث قبل الميلاد، حتى اتهم الرجل بالهذيان وبالتفوه بأشياء لا يقبلها العقل أبدا، عندها وضع أصابعه على فمه واختفى دون سابق إنذار، حيث بقي التقويم البطليمي هو المنتصر إلى أن جاء عالم فارسي اسمه عمر الخيام، معيدا النظر في ما جاء به بطليموس، مشككا في عديد الأمور خاصة شكل الكرة الأرضية وحساب التقويم السنوي مما جعله من بين مهندسي السنة الكبيسة، إضافة إلى إعادة التقويم الغريغوري، ناهيك عن حساب التقويم الفارسي في عهد الملك ملكشاه خلال القرن الحادي عشر، بعد كل ما أوجده الرجل انتهت حياته باتهامه بالإلحاد فاختفى موروثه العلمي، ومعه لم نتمكن من تأسيس مدرسة قائمة بذاتها في الفلك والتي كان يحلم بها عمر الخيام طيلة حياته.
    في أوربا وتحديدا سنة 1543 سطع نجم عالم بولوني كبير اسمه كوبرنيك عندما تجرأ مرة أخرى على تعاليم الكنيسة بخصوص نظامنا الشمسي، مؤكدا على غرار من سبقوه ان النظام البطليمي خاطئ تماما بإقراره أن الأرض هي المركز بدل الشمس، معتبرا أن كل الكواكب بمن فيها الأرض تدور حول الشمس في مسار ثابت، وهو ما أعاد الصراع العلمي مرة أخرى بين الهليوسونطغيزم l’héliocentrisme من جهة، والجيوسونطغيزم le géocentrisme من جهة ثانية، لكن في النهاية تفوق السيف على القلم فبات النظام الكوبرنيكي محصورة نقاشاته بين العلماء فقط، والحال أن جيوردانو برونو بمجرد ما فكر في إحياء منطق كوبرنيك حتى تم حرقه حيا كي يكون عبرة لكل من يؤكد عكس ذلك، ثم استمر مسلسل التنكيل بالعلماء سواء في بعديه المعنوي أو المادي من قبيل ما حصل لغاليلي وتيكو براهي وكبلر ثم أبو بكر بن يوسف في الأندلس...  

anfasse30109تقـديم
يتميز درس الفلسفة من جملة ما يتميز به، بميزة أساسية هي كونه يضع نفسه دائما على دوام البداية. وهو وضع يجعل منه درسا متجددا باستمرار، تتملكه حركة دؤوبة تقوده -على حد قول ميرلوبونتي- من الجهل إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى الجهل.    
درس يكشف عن اشتغال العقل في معالجته للإشكالات الفلسفية الكبرى، وفي مواجهته للقضايا الشائكة التي تطرح على الإنسان في علاقته بالعالم، والآخرين والذات. يقودنا فعل الفلسفة إلى صلب هذه القضايا وجوهرها، واضعا إيانا أمام الإجابات التي قدمها الفلاسفة عبر التاريخ، وفي اختلاف الحقب والثقافات. من هنا تكون العودة لنصوص الفلاسفة وكتاباتهم مناسبة بامتياز لولوج عالم الفلسفة. هذا العالم الذي اكتشفه الإغريق، وحملت به شعوب وحضارات تاركة إرثها الحضاري علامات على انخراطها في هذا الموروث، وكأن لسان حالها يقول: " لقد مررنا من هنا".
الأمر هنا لا يتعلق بالتفكير في قضايا سبق التفكير فيها، بل هو أبسط من ذلك، وقد يكون أعقد. بحيث طلب من فلاسفة الحلول محل التلاميذ، وذلك للإجابة ضمن شروط تربوية شبيهة بتلك التي تجري فيها الامتحانات،عن أسئلة فلسفية هي في الأصل  موضوعات سبق للتلاميذ مواجهتها والإجابة عنها في امتحانات البكالوريا. نحن إذن أمام كتابة فلسفية على نحو آخر، كتابة تستمد خصوصيتها بحكم انتمائها لفضاءين متميزين، فضاء المؤسسة في خصوصيته وإكراهاته، وفضاء الفكر الفلسفي في تميزه وشساعته.
بيير هادو P. HADOT فيلسوف استاذ بكوليج دوفرانس، متخصص في الفلسفة اليونانية والرومانية، يدافع عن الفلسفة بوصفها فنا في العيش ونمطا في الحياة. اهتم بالتجارب الروحية في الفلسفة اليونانية. من مؤلفاته مقدمة لدراسة فكر مارك أوريل (1992) ما هي الفلسفة اليونانية؟ والتجارب الروحية والفلسفة اليونانية (1987).

anfasse30108" ليست الميتافيزيقا فيزياء شديدة التميز ، لو كانت هذه الفكرة السهلة صحيحة لما كان لدينا الا الاختيار بين الثرثرة الدوغمائية وتهكمات الواقعية"1[1]
في مقابلة قديمة مع جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 14 جوان 1978 كشف المفكر الملتزم فلاديمير يانكلفيتش عن قدر مسلط على الإنسان في وجوده السياسي مرتبط بأجهزة الدولة ومنظومة الحكم التي تسيرها وبالقوى المتصارعة حول المواقع والمنافع، وتبعا لذلك أوضح صعوبة إيجاد مخرج من هذه العبثية.
هذه الوضعية الهشة لم تكن ناتجة عن سوء تقدير من قبل الماسكين بزمام السلطة ولا عن التباس وسوء فهم لوظيفة الدولة في زمن التحولات بل الجميع كان مع العفوية الثورية ووقف الكل ضد عودة الطغيان.
لم يكن الشعب سيء الحظ حينما وجد نفسه في مناخ اقتصادي متدهور زمن التقلبات ولم يتأسف على ضياع الشعور بالمتعة وحصد المنافع زمن الاستبداد بل جعل من تركيز السلطة الجديدة نصرا على كل أمر محال. غير أن الشعور البرجوازي المتشائم الذي ظهر في الأثناء وعبر عن نفسه في استحالة الاستقرار في الأفق القريب كشف عن واقع نفسي مهتز تعاني منه النخب المثقفة جعلها تشكك في كل الخطوات الواثقة التي قطعها الشعب نحو الصعود والارتقاء وصبره عليهم في زمن انقلاب محبة الوطن إلى كراهية المصير المنتظر والنقمة المتزايدة على الأخلاق الثورية. والحق أنه لا يجب أن تنحرف السلطة الثورية حسب يانكلفيتش إلى استبداد بيروقراطي جديد ولا ينبغي أن تعيد إنتاج أشكال الهيمنة بل من المفروض أن تمنح الكيان السياسي المنبثق من رحم الحراك وجودا تاريخيا يليق به.

anfasse30107من النافل القول أن الأديان بكل منابعها ومرجعياتها وأنساقها العقدية منها أو الفكرية، تتفق حول شيء مشترك بينها ألا وهو تنظيم العلاقات بين الأفراد تفاديا لغلبة النزوع الطبيعي الإنساني الميال إلى العنف والوحشية، من ثمة نجد أن الأديان وعلى عكس العلوم والآداب القائمة على فهم وتفسير الكون والإنسان، تتأسس على منطق الوعد والوعيد إضافة إلى الموعظة والصبر والجزاء والنعيم... بيد أن بعض التداخلات التي أحدثت بقوة المنطق وسطوة الواقع، جعلت هاته العلوم تجد رابطا بينها وبين الأديان وإن اختلفت الرؤى والمرامي والغايات، والحال أن الفكر الفلسفي لم يكن إلا خير أنموذج بقدر ما وجه سهامه النقدية إلى عديد القضايا، بقدر ما أعاد قراءة الدين إن بغرض فهمه وهو الغالب، أو بغرض نقده وما أكثره، أو بغرض إعادة قراءته وهو السائد اليوم.
    والحال أن أبرز قضية غلبت على الساحة الدينية والسياسية مؤخرا هي قضية الإرث، وتحديدا مسألة المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، صحيح أنها تمت بلباس حقوقي محض، بيد أنها انعطفت بعدئذ عن هذا اللباس لتأخذ منحى سياسويا مفرطا في خلط كبير بين مجالين لازلنا لم نحدد حدودهما لحد الساعة، وهو ما خلق هذا التنافر الكبير، أو قل هذا النقاش غير القائم على أرضية تؤشكل أكثر مما تحكم بالجاهز، وتعيد القراءة بدل السقوط في منطق التحليل والتحريم، والمقدس والمدنس، من ثمة وكإعادة لقراءة هذا السؤال، كان لا بد من التوسل إلى الفكر الفلسفي علنا نجد فيه تفسيرا سديدا خارج أي حكم معياري.