abstract-267058 640" إن المرء يريد أن يفهم ما يُتاح للفهم فحسب...وان الوجود الجدير بالفهم هو اللُّغة "1[1]
لقد اتخذت مشكلة اللغة مكانة بارزة في المناقشات الفلسفية المعاصرة ومكنت الفكر من نقد تصوره الطبيعي للعالم وإعادة التفكير في تجربة الإنسان في العالم ومثلت السلطة الرمزية التي تتدخل في تشكيل مصير الحياة وعلاقة المجتمع بتاريخه وفي تحديد قدرات البشر على الربط بين المعرفة والممارسة.     لقد عبر  هانز جورج غادامير عن الرجة التي أحدثها المنعطف اللغوي للفلسفة المعاصرة بقوله:" اللغة هي النمط الأساسي لاكتمال وجودنا في العالم والشكل الذي ينطوي على شمولية تأسيس وتشكيل العالم."2[2] على هذا النحو يجد الإنسان نفسه بفضل اللغة وجها لوجه مع وضعه المتناهي وتمثل اللغة أداة للتعبير عن الذات ووسيلة للفهم ما يحيط به بل الإمكانية العليا لوجوده والاستطاعة التي جعلته جديرا بسكن العالم ورعاية الكينونة. الأمر الهام عند غادامير هو تأكيده على تناهي الطبيعة البشرية وتاريخية المعرفة البشرية ولانهائية التأويل وحدثان الحقيقة وشغل الوعي بالتاريخ ودعوته إلى انصهار الآفاق وإنتاج المعنى بمنطق الأسئلة والأجوبة. لهذا السبب نجده يقول ههنا: " في الحقيقة، الطبيعة البشرية التي تخصنا بواسطة تناهينا هي متميزة الى حد ينبغي أن نعتبر ظاهرة اللغة والفكر الذي يجب أن يصلها تحت قانون التناهي الانساني"3.[3]

haydare-ali-salamaإن المتتبع لطبيعة ما يُكتب ويُنشر ويُعاد نشره حول فكر وفلسفة عالم الأجتماع العراقي العلاَّمة الراحل علي الوردي (1913-1995)، سيلحظ سيطرة شبه تامة للنزعات الأرثوذكسية والتقليدية في التعاطي والكتابة والبحث في مجمل مؤلفاته الأجتماعية واللغوية والمنطقية وما شابه. حيث يبدو واضحا أن أهم ما يميز ذلك النتاج الثقافي والفلسفي للنخب المثقفة والأكاديمية المختصة، هو وجود حالة من العزلة الكاملة بين نصوصهم والكشوفات الراهنة في علوم اللغة والمنطق والأبستمولوجيا الاجتماعية social epistemology، وعن الطفرات الحاصلة في مجالات نظريات الثقافة والأنتروبولوجيا واللسانيات السوسيوثقافية sociocultural linguistics. وقد أخذت هذه الهوة في الاتساع اللامتناهي بين النصوص المكتوبة لتلك النخب؛ وبين الثورات العلمية المتلاحقة، الأمر الذي انعكس سلبا على طبيعة منشورهم الثقافي والأكاديمي الذي تحول إلى منشور توتولوجي ايديولوجي، سيما فيما يتعلق بتحليل الأفكار الاجتماعية والسياسية والدينية في أدبيات العلاَّمة الراحل، إلى الدرجة التي لا يمكننا أن نجد فيها قراءة واحدة متفردة في أستعمالها لمنطق التحري والتحقيق والبحث inquiry بهدف تقديم تأويلات جديدة لأفكار العلاَّمة الراحل، خاصة تلك المرتبطة منها بعلاقة الوردي بحقول كل من: المنطق والفلسفة واللغة، وعلوم البلاغة وتحليل الخطاب النقدي.

"k2-ANFASSE8889ينشد علم الاجتماع الفهم من خلال التأويل للنشاط الاجتماعي ومن خلال ذلك التفسير السببي لحدوثه وآثاره"1
يبدو أن المعرفة التي ينتجها تطبيق القوانين الاجتماعية ليست معرفة للواقع الاجتماعي في حد ذاته وإنما أحد الوسائل التقريبية التي يستعملها الفكر في هذا السياق. وبالتالي لا يمكن معرفة الظواهر الاجتماعية إلا عبر الارتكاز على حقيقة الحياة وإدراك العلاقات الدقيقة التي تتحكم في الظواهر ودلالتها البنيوية.
لكن هل الظواهر الاجتماعية هي ظواهر بسيطة أم ظواهر معقدة ؟ وما الذي يقع تأويله في الظاهرة الاجتماعية؟ هل النشاط الفردي أم النشاط الاجتماعي؟ أليس البناء الاجتماعي على صلة وثيقة بموضوع الهيمنة – المشروعية؟ هل يتم الالتجاء إلى التهديد بالقوة وممارسة العنف من أجل تنظيم الأنشطة الفردية والجماعية لصالح استقرار المجتمع ونمائه أم يتطلب ذلك إقامة نظام رمزي قانوني عن طريق الاعتراف والطاعة والموافقة؟ هل يرتكز النشاط الاجتماعي على رابطة خارجية وعلاقة تعاقدية تبادلية أم على رابطة داخلية والإحساس بالانتماء ضمن إطار العيش المشترك؟ ألا تتم ممارسة السلطة الاجتماعية من خلال سيطرة المعقولية على اللاّمعقولية المتبقية والانتقال من التوحش والفوضى إلى النظام والتمدن؟ ألا يتوطد النظام الاجتماعي بالاعتراف بالتراتبية وشرعنة القيادة وعقلنة العنف المادي في شكل عنف رمزي؟ في أية شروط يخضع الأفراد نشاطهم لترتيب المجتمع؟ لماذا تتجه الأنشطة الفردية الى الاندماج مع الأنشطة الاجتماعية؟ وعلي أي تبريرات داخلية ووسائل خارجية تستند هذه السيطرة الاجتماعية؟

1anfasse000045 ـ توطئة في مضمون ومنهج علم الكلام
يتشكل الفكر العربي الإسلام في عرف العديد من الدراسات العربية وغيرها من اتجاهات ثلاثة: فلسفة عقلانية خالصة كما يجسدها فلاسفة الإسلام الذين عملوا على التوفيق بين علوم الأنا وعلوم الآخر، علم الكلام أو علم المناظرة العقدي الذي ابتدأ بالحديث عن قضايا سياسية بتوسط الدين مستعملا المفاهيم الدينية (القدر، الإيمان، الكفر، الإرجاء...) حتى صار حراسة للعقيدة بالحجاج العقلي. ثم التصوف الذي يمثل "قمة سعي الإنسان لإكمال وجوده أمام ربه" "فالمتصوفة هم وحدهم الذين وقفوا الموقف البارمنيدي الثابت في وجه النهر الدنيوي الهيرقليطي السيال والجارف حتى للفقهاء"([1]). 
وبعيدا عن الدراسات الاستشراقية التي مالت إلى رد ألوان الثقافة العربية الإسلامية بقضها وقضيضها إلى مصادر خارجية، أو في أحسن الأحوال إلى العناصر الآرية التي دخلت تحت مظلة الفتح الإسلامي تحت ذريعة أن العقلية السامية لا تصلح لبناء أنساق فكرية وعلمية وفنية، فإننا نقرر أن التيارات النظرية الناشئة في حضن الإسلام تطورت في حوارية شغالة داخل وخارج عقر الدار.

anfasse4496666" إن الفرق بين الكينونة والتملك ليس بالضرورة الفرق القائم بين الشرق والغرب. بل إن الفرق يتعلق بمجتمع متمركز حول الأفراد، ومجتمع متمركز حول الأشياء"1[1].
لم يجد علماء الانسان تفسيرا لتحول بعض الكائنات الآدمية في حالة الوداعة والطيبة والنزعة السلمية الى حالة التوحش والعدوانية والنزعة الحربية . ولقد حاول البعض منهم تبرير ذلك بالفاقة والحرمان والظروف الصعبة التي يمر بها بعض المنبوذين ولكن المفارقة تكمن في تعطش بعض الحالات البشرية الى التدمير وإيذاء الغير وممارسة الارهاب بالرغم من انحدارها من شرائح اجتماعية ثرية و مرفهة وتمتعها برغد العيش وبحبوحة الحياة. فما السر الذي يكمن وراء انفلات النزعة التدميرية في الطبيعة البشرية حسب ايريك فروم؟ وهل الإنسان عدواني بطبعه كما يرى فرويد؟ هل العدوانية غريزة فطر عليها الإنسان أم هي رد فعل ثقافي مكتسب؟ هل الكائن البشري يخضع لحتمية بسيكولوجية أم يمكن أن يستعيد حريته؟ هل يهرب من الحرية أم يخاف من أن يصير حرا؟ ما معنى إعطاء الحرية للبشر في ظل تنامي النزعة التدميرية وتكاثر النظم الشمولية؟ وكيف ننقذ البشر من نزعة التملك ونسمح لهم بتحقيق الكينونة؟

anfasse44990077778قصدنا في هذا المقال أن نكشف عن الأصداء المتعددة والمتباينة التي خلفتها  الطرق التدليلية الأرسطية عند مفكري الإسلام، فقد توزعت بين متبع لها كابن رشد الذي رفع من شأن البرهان حاذيا أرسطو حذو النعل بالنعل، وبين فلاسفة آخرين حافظوا على استقلاليتهم تجاهه، وكانوا أكثر أصالة واحتكاما إلى عقولهم، "فاعتمدوا طرقا تدليلية لا تنقطع عن خصوصياتهم ومرجعيتهم دون وصاية أرسطو"([1])(*).
يمكن القول، دون خشية السقوط في المبالغة، بأن الموضوع الأساسي للفلسفة هو العقل، ففي محاولتها تفسير العالم في شموليته تستعين بالمبادئ التي يتعين اكتشافها في العقل نفسه، ومن أبرزها مبادئ المنطق وقواعده، إذ "ليس في العلوم ما بلغ مبلغه في ضبط موضوعه ولا في تقنين منهجه"([2]).
 وقد خضع علم المنطق في العالم الإسلامي لما خضعت له علوم الأوائل بشكل عام عندما ترجمت إلى العربية بمبادرة من بعض رجال السلطة السياسية بذريعة استحالة الجمع بين المأصول والمنقول، يقول السيوطي: "فمن أراد الجمع بين علم الأنبياء وعلم الفلاسفة بذكائه فلابد أن يخالف هؤلاء وهؤلاء، ومن كف ومشى خلف ما جاء به الرسل من إطلاق ما أطلقوا، ولم يتحذلق ولا عمق، فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا، فقد سلك طريق السلف الصالح، وسلم له دينه ويقينه"([3]).

painting-gypsumلنتوقف في البداية عند هذا العنوان كي نتبين الأسباب التي تجعلنا لا نتكلم فيه عن الحداثة بدل التحديث. وتوضيحا لذلك لنميز بين مفهومين عن الحداثة، أو لنقل بين موقفين: موقف كرونولوجي ينظر إلى الحداثة كحقبة تاريخية تبلورت في نقطة بعينها ومكان بنفسه؛ ثم موقف آخر لا أقول بنيويا، وإنما أفضل أن أنعته بالموقف الاستراتيجي.
بينما يتسم الموقف الأول ببرودته الوضعية وسمته الوصفية التي تنظر إلى الحداثة كمجموعة من المميزات التي طبعت حقبة تاريخية معينة، فإن هذا الثاني يعتبر الحداثة عصرا وليس مجرد حقبة، أي أنه ينظر إليها من حيث إنها شكل من أشكال العلاقة المتوترة مع غيرها. وهذا يفترض أن الحداثة ما تنفك تدخل في صراع مع ما ليس إياها، وإنها حركة انفصال دؤوبة هي بالضبط ما نقصده هنا بالتحديث.
فليس اختيارنا إذن لصيغة المصدر إلحاحا فحسب على المظهر الحركي الديناميكي للحداثة، وإنما على الخصوص، إبرازا للطابع الجدلي الانفصالي المتوتر للتحديث، وارتباطه الدائم بما ليس هو، أي بما أصبح يسمى عندنا تأصيلا.
لا بد إذن ونحن نطرق مسألة الفكر المغربي والتحديث من أن نجد أنفسنا نتحدث عن مسألة التأصيل ذاتها.
هذا الربط بين التحديث والتأصيل لا ينبغي أن يفهم هنا على أنه مجرد "توفيق" ذي شكل جديد. ومع ذلك فلو حاولنا أن نحدده بصيغة إيجابية لتعذر الأمر بعض الشيء: ذلك أنه يتخذ صورا متنوعة حسب المفكرين، وهذه الصور تتراوح بين مجرد العودة الباردة إلى التراث إلى محاولة إقامة علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل تتخذ هي نفسها صيغا متعددة. صحيح أن تلك الصيغ تكاد لا تتمايز، وقد نلفيها جميعها عند المفكر الواحد حسب الفترات والمناسبات، إلا أن باستطاعتنا مع ذلك أن نميز بين نماذج عدة:
النموذج الأول يعتبر أن كل تحديث للفكر العربي مشروط بالتأصيل كما "يعتبر العكس صحيحا"[1]، والتأصيل في نظره هو "عملية التبيئة الثقافية" و"محاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا، للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه، بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا"[2].

anfasse612121سيكون من الغريب إثارة أمر العقلانية المنفتحة الآن، في هذا الزمن وفي هاته الظرفية الفكرية، وقد أطلق الفيلسوف الألماني كانط أولى شرارتها خلال نهاية القرن الثامن عشر، ثم عرفت منعطفا جديدا مع باشلار إبان القرن العشرين حيث لبست معطفها الإبستيمولوجي الصِّرف، وبعده هابرماس الذي أعاد قراءة العقل من خلال الحداثة وكون أن هذا الأخيرة هي بمثابة ذلك المشروع الذي لم يكتمل بعد كي نحكم عليها وعلى عقلها، من ثمة وإذا استطاع فلاسفة الحقبة الحديثة أن يفكروا في كيفية اشتغال العقل بمنطق التفكير في التفكير، فإن هناك زاوية لازالت معتمة شيئا ما، ربما كان من الأجدر لفت الانتباه لها في هاته الظرفية الحالية وليس قبلها، ألا وهو منطق قراءة العقل فلسفيا لكن مع ضرورة النهل من معطيات التاريخ وخصوصيات الثقافة والمجتمع، بعبارة أخرى سنكون أمام دعوة مضمرة للإشتغال على العقل المحلي وليس الكوني، على العقل بصيغته العربية وليس بمنطقه العالمي.

Landscapes-Paintings-يُعتبر المنطق في نظر ابن رشد أوّل مادة معرفية يجب أن تُلقَّن لحَاكِم المدينة؛ إنّ حاكم المدينة شخص مرَّ بمراحل تربوية مدروسة يأخذ فيها ما هو ضروري من مواد علميَّة ويتدرَّب فيها ويتأهل لقيادة دفّة المدينة نحو الفضائل العادلة[1]. بهذا يكون ابن رشد في منهجه التربوي، قد انتصر لأرسطو على خلاف أفلاطون؛ الذي يرى ضرورة البدء بعلم العدد. فجعل ابن رشد من المنطق، أول العلوم في سلم التعلم، مفسراً هذا الخلاف بينه ـ ابن رشد ـ وبين أفلاطون، بدليل أن صناعة المنطق لم تكن قد وجدت بعد في زمن أفلاطون[2]. ويضيف ابن رشد إنه وإن وجِدت صناعة المنطق في زمن أفلاطون، كان من الأصوب أن يبدأ التعليم بالمنطق، ثم بعدها العدد، ثم على الهندسة، فعلم الهيئة، فالموسيقى، ثم إلى علم المناظر، فعلم الأوزان، وبعدها إلى علم الطبيعة، ثم إلى علم ما بعد الطبيعة[3]. فأهمية المنطق بالنسبة لهذه العلوم في أنه يساعد على فهم العلوم التالية؛ كعلم الطبيعة وما بعد الطبيعة. أما علوم التعاليم (رياضيات، هندسة، فلك، موسيقى)، فلا يحتاج فيها إلى المنطق لسُهولتها وقلة ارتباطها بالمادة، لذا قالوا ـ القدماءـ فتعلمه، يكون بلا ريب، على جهة الأفضل.

6531640 storm-abstraction" أن نقبل بمسلمة الموضوعية هو أن نعلن إذن القضية القاعدية لإيتيقا معينة هي إيتيقا المعرفة" [1]
من المفارقة أن تعيد المجتمعات المعاصرة بناء رؤيتها للكون على ضوء الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية على مستوى النظر العقلاني وأن تستمر في الاعتماد على معايير أخلاقية ومفاهيم تقليدية وتواصل عادة تأسيس الثقافة على أعراف وشيم موروثة عن المجتمعات القديمة على الصعيد العملي والاجتماعي.
لقد شهدت العصور الحديث تشكل ما اصطلح على تسميته علوم التقنية ولكن استمر الصراع بين النظرة الغائية والنظرة الآلية في تفسير ظواهر الطبيعة والتغيرات التي تحدث داخل الكون وتم استبعاد كل دور للصدفة والفرضيات الاحتمالية الأخرى أو التقليل من قيمتها الإبستيمولوجية مثل النظريات التحولية والتطورية والكوارثية والانفجار العظيم والتقلص التدريجي والتمدد اللانهائي والنسبية الخاصة والعامة. وبالتالي تعاني المجتمعات في الحقبة الراهنة صعوبة التأليف بين الأنساق القيمية التقليدية والنظريات العلمية الجريئة وغير المعهودة والتي دفعت بالعقل البشري إلى ملازمة الصمت وتبني خيار تعليق الحكم. إذا كان المؤرخون رصدوا اضطرابا كبيرا أصاب قصور المعرفة البديهية وخلخلة في المعتقدات الراسخة نتيجة التقدم العلمي والثورة التقنية والتطور الصناعي فإن الفلاسفة الجدد أدركوا خطورة هذه التحولات ودعوا إلى إعادة تجذير انتماء الإنسان للطبيعة وتمتين روابطه بالكون والمحافظة على الحياة في الكوكب.
لقد حافظ الفكر البشري على الأساطير والمعتقدات والأديان والتصورات الكوسمولوجية والأفكار الفلسفية الكبرى إلى جانب المناهج العلمية والتطبيقات التقنية والمعالجات الرقمية وكان ذلك بسبب الشرخ الذي أحدثه التقدم في النواة الروحية لكل الأنساق القيمية والقلق المصيري الذي ولدته السيطرة على الطبيعة . لقد اعتقد البشر أن العلم قادر لوحده على تقديم الحل التام والنهائي لكل المعضلات العنيدة وأن التقنية هي الأداة الناجعة في ترجمة ذلك على أرض الواقع ولكن جهد العقلنة المبذول لم يكن كافيا قصد التعبير عن الحوافز العميقة للعقل بل لم يقدر على الإحاطة بكل المجموع المعقد والمتشابك الذي يتشكل منه الكون.

120091102llechampignonlumineuxopt – لعل الفلسفة كإبداع، و ليس كدرس فلسفي، يتنفس هواء المؤسسة، و يروم التنميط، تواجَه هنا مع "سياسة التجميع" . و بين التنميط و التجميع علاقة قرابة قوية . يجعلنا موقع الفلسفة المبدعة، في هذا السياق، نطرح السؤال التالي : هل لِ "التجميع" "سياسة" ؟ أو هل لِ "السياسة" أن تقرن ب "التجميع" ؟ و من يُمارس فعل "التّجميع" ؟ و لماذا يمارسه في أصل الأمور؟ أم فقط، يحتاج فعل "التجميع"، الذي نحن بصدده، إلى فاعل من نوع معين، ليحقق واقع "التجميع" المقصود، و ذلك طبعا على حساب تأسيس تنميط الغير المختلف، الخاضع، و المنشغل بتفاصيل حياة الواجب، و المهيمَن عليه، باسم النظام السائد، أي المنفعِل، المحكوم بأداة في غاية الأهمية . نعني بها، خبث التسييس، و سلطة "السياسة"، التي يقصد بها هنا وصفة ماكرة للتخدير و التدجين، و التعتيم، حتى يستمر نسقُ النظام المهيمِن، في رحلة البقاء اللاشرعي، مُقنّعا، و مُقْنِعا، كما لو كان شرعيا .