Abstract flames artistic 549تقديم:
       شكل مفهوم اللاتناهي أحد الإشكالات ذات الأهمية في العصور الحديثة، رغم الرفض الذي تعرض له في السابق؛ أقصد مع المشائيين. فألكسندر كويري في كتابه: "من العالم المغلق إلى الكون اللامتناهي"، تطرق إلى فكرة اللاتناهي، فيقول إنها ليست فكرة حديثة ومنعدمة في الفلسفات القديمة والوسطوية، معترفا بالدور الذي لعبه كل من نيكولاس دي كوس Nicolas de Cuses، والذين سيأتون من بعده: كبلر، ديكارت.. فالقول باللانهائية يستلزم زحزحة مجموعة من العقائد والأفكار غير العلمية والتي تم تغليفها بغطاء ديني، كما نجد عند سان أوغسطين، من قبيل قوله "إن اللانهائي صفة للإيمان بالله.." لذا نجد ملاحظات تيكوبراهي واستنتاجات كبلر نقلت هذا العلم ومعه العقل البشري من المقاصد الغائية المتعالية، أو ما كان يصطلح عليه "بإنقاذ الظواهر" إلى نظرة علمية للكون شملت كل مجالات الحياة في العصر الحديث.
لكن ما يهمنا نحن هو إبراز كيف تعامل كبلر مع هذا الحدث العلمي؟ ما هي الأسس الإبيستمولوجية التي جعلت كبلر يقول بفكرة اللاتناهي وتعدد العوالم؟
1.     كبلر مؤسس علم الفلك الحديث:
         اعتبر يوهانس كبلر مؤسس الفلك الحديث نظرا لأهمية الأبحاث التي قام بها، والتي تتلخص في قوانين كبلر الثلاثة. إنها أهم اكتشاف قدم للمنظومة، تصف مدرات الكواكب حول الشمس، مبتعدا عن التفاسير الفيتاغورية القديمة رغم اعتماد كبلر عليها.

Abstract nature artisticربما أن طرح مسألة ما هي الفلسفة؟ لا يتأتى إلا آجلا، حين تقبل الشيخوخة وساعة الحديث بطريقة ملموسة. تطرح هذه المسألة حين تنتفي المواضيع التي تستدعي السؤال، لكن تكون نتائجها مهمة.
فيما مضى، نطرحها ولا نكف عن طرحها، لكن بشكل جد سطحي وجد تجريدي؛ نعرضها ونحتويها أكثر مما نحن مشذوذين بها. توجد حالات حيث لا تمنح الشيخوخة شبابا أبديا، لكن على العكس حرية مطلقة، وضرورة خالصة حيث ننعم بالسكينة بين الحياة والموت، وحيث تأتلف كل أجزاء الآلة قصد إرسال في المستقبل سمة تخترق العصور، تورنر وموني وماتيس (1). فقد اكتسب أو انتزع تورنر في شيخوخته حق إنقياذ الصباغة في طريق قاحلة وبدون رجعة، والتي لا تتميز قط عن السؤال الأخير. وكذا الشأن في الفلسفة، إذ أنجز كتاب (نقد الأحكام) لكانط في مرحلة الشيخوخة، كتاب متحرر لن يتوقف أتباعه عن السعي وراءه.
لا ندعي الوصول إلى هذه المكانة، كل ما في الأمر، أن الوقت قد حان لنتساءل عن ماهية الفلسفة. لم نتوقف عن القيام به سابقا، ونمتلك مسبقا الجواب الذي لم يتغير: الفلسفة فن تكوين وإبداع وصناعة المفاهيم. لكن لا ينبغي فقط أن يتضمن الجواب السؤال، بل يتطلب أيضا تحديد لحظة معينة ومناسبة وملابسات ومشاهد وشخصيات وكذا شروط ومجهولي السؤال. يتطلب إمكانية طرحه "بين الأصدقاء"، كبوح أو ثقة، أو في وجه العدو، كتحدي، وفي نفس الآن بلوغ تلك اللحظة، بين الكلب والذئب، حيث نتوجس حتى من الصديق.

Abstraction-accrochee-a-MA-realiteيهدف هذا المقال الى معالجة المنهج الجدلي الموظف من قبل كتاب ماركس رأس المال، مع ضبط علاقة جدل التواصل والتفاصل بين جدل المنطق الكبير وجدل رأس المال.
مقدمات غنية:
تشكل مقدمات رأس المال عنصرا شارحا هاما لنظرية ماركس وانجلز الاقتصادية. وهي لا تكتفي، في الغالب، بتقديم رؤى عامة توضيحية حول نتائج فصول الكتاب، وإنما تتجاوز ذلك نحو شرح الموضوع الذي ينصب نحوه مجهود ماركس العلمي، وكذا طريقته الديالكتيكية الموظفة في الكتاب. وبعد اطلاعنا على: -مقدمة الطيعة الألمانية الأولى، تذييل الطبعة الألمانية الثانية، مقدمة الطبعة الألمانية الثالثة، مقدمة الطبعة الإنجليزية، ومقدمة الطبعة الألمانية الرابعة، وجدنا أنه من الضروري مقاربة بعض النصوص المفتاح لاستيعاب جدة نظرية ماركس من حيث الموضوع والمنهج (طريقة البحث وطريقة العرض) والمفاهيم الموظفة.

48818181" إلى المؤمنين بالواقع: أيتها السذاجة المقدّسة! يا له من تبسيط وتزييف غريب يعيش فيه الانسان! فما إن يفتح المرء عينيه ليبصر هذه الأعجوبة حتى لا يعود للعجب من نهاية!  كم جعلنا كل شيء من حولنا باهرا وحرا، خفيفا وبسيطا!  وكم برعنا في إفلات حواسنا على كل ما هو سطحي وفي تزويد فكرنا برغبة إلهية في البهلوة وفساد الاستدلال! "
ف. نيتشه، ما وراء الخير والشر(ص:51)
 
      طرح هوكينغ نموذجا آخر للواقع البديل نجده في فيلم ماتريكس The Matrix أو المصفوفة، مفاده أن "البشر يعيشون في واقع خيالي بدون أن يعرفوا ذلك، واقع تمت محاكاته بواسطة كمبيوترات ذكية كي تحافظ عليهم مسالمين وقانعين، بينما تمتص الكمبيوترات طاقتهم البيو-كهربائية".
وهذه رؤية مجازية، للنظرية التي عرضها جان بودريار في الكثير من كتبه، والقائمة على كون الواقع أصبح مشبعا بنقائضه، إذ اتسعت رقعته ليشمل ما اعتبرناه ليس واقعيا، وهذا ما عرضه في نظريته عن الواقع-الفائق.
وتستند نظرية بودريار عن الواقع الفائق، إلى أساسين: الأول فلسفي صرف، والثاني يتعلّق بنتائج التقدم العلمي خصوصا في مجالات تطبيقات العلم.
بخصوص الأساس الفلسفي، فهو مرتبط بالسيرورة النظرية لتطور إشكالية الواقع، وبالخصوص كل من هيجل ونيتشه، بخصوص هيجل فإن بودريار استطاع أن يستثمر مفهوم الواقع عند هيجل باعتباره مطابقا للمطلق ومتماهٍ معه، ومن ثمّ تصبح جميع الأحلام اليوتوبيات متحقّقة على أرض الواقع، وهذا ما يحيلنا إلى الحديث عن ماوراء النهاية(...) أما بخصوص نيتشه  فقد أحدث ثورة كبرى في الفلسفة، إذ بقلبه للأفلاطونية، استطاع أن يوحّد الذهن البشري مثلما وحّد غاليلي العالم، إذ أنهى التراتبية التفاضلية في الذهن بين الحقيقة والخطأ من جهة، وبين الحقيقة والوهم والخيال من جهة أخرى، وهكذا فإذا كنّا قد نظرنا منذ غاليلي إلى العالم كوحدة، فمنذ نيتشه بدأت بوادر النظر إلى الذهن البشري كوحدة كذلك.

detail7أ-الهوية المتعددة:
إذا كانت الهوية، هي ما يجعل شخصا ما يكون هو لا سواه. فهي تحديد لمقومات وقيم هذا الشخص، وبعبارة أخرى هي تحديد الذات بموروثها الثقافي وبتعدده.( الدين، التقاليد، العرق...) ثم تحديد للأنا.
عندما تكون للشخص هوية ويكون له تاريخ ( ذاكرة- ماض كيفما كان مجيدا أو ماض الانحطاط). ويدرك من هو ومن يكون، فإن هذا الشخص يصبح إنسانا سويا كاملا وقادرا على الإبداع. في حدود خطوط هويته مع الانفتاح على هوية الآخر. هذا الآخر الغريب عن الذات بمقوماتها ومكوناتها. فالجماعة بدون هوية كالقطيع التائه الضائع، وتصبح (أي الجماعة بدون هوية) كالوعاء الفارغ الذي يستطيع أي كان أن يملأه بما شاء ومتى شاء. دون الاعتراف لهذه الجماعة بماضيها وموروثها. وحقها في الاختلاف الذي يفسح المجال للهوية المتعددة، التي لا تتحدد بالانتماء إلى نفس العرق، كما لا يمكن اختزالها في ممارسة بعض الطقوس، بل إنها مفهوم يتكون عبر التاريخ. مفهوم يرتبط بالوجود والذات والذاكرة ويرتكز على عدة مكونات أهمها: (الأرض، الدم، العقيدة، اللغة، الموروث الثقافي...) مفهوم مفتوح على المستقبل في تعايش مع الآخر واعتراف باختلاف مشروع.

يقول الخطيبي عن هذا المفهوم:" كل مجتمع يعيد كتابة المكان الذي يتأصل فيه ثانية فيما يعيد كتابة تاريخه وبهذه الحركة يسقط على الماضي ما يفلت منه في الحاضر. بلى، إن التاريخ هو مسكن الإنسان ومنبت هويته المتعددة. لكن نحو أي تأريخي يتجه؟"[1].

abstract-painting-bangkok-1مدخل:
مما لا شك أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي وجوده في هذا العالم. وغير خاف أيضا أن حاجة الإنسان لإدراك العالم من حوله وسبر أغواره هي حاجة إلى الفهم، بقدر ما هي رغبة لإعادة بنائه وتغييره، لذاك فرؤى الإنسان المختلفة للعالم تجسد نزوعه اللامحدود إلى تعقله والفعل فيه، بحثا له عن موقع في خضم الوجود، بل وتمردا على ما هو موجود. لا ارتياب في أن موقف الإنسان من قضايا الوجود يترجم هوسه بإيجاد المعنى ومنح القيمة للأشياء، ظهر ذلك في العلم والتقنية والجمال والمقدس...

ورغم اختلاف الطرق الاستدلالية والمادة المفهومية في هذه الرؤى، فإنها تشترك جميعا في إضفاء مشروعية على طموح الإنسان لضمان استمرارية بقائه. ألم يقل ديكارت Descartes عن حركة اليد الإلهية (Pichenette) بأن الله قد خلق العالم (صنعه)، لكن لم يضع له غاية محددة ومعينة مسبقا، فالعالم إذن يستقيم بموارده وقوانينه الخاصة، وهي القوانين التي على الإنسان اكتشافها، وفي لحظة الاكتشاف والإدراك والتمثل والرؤية والصياغة والتعبير اختلفت العقول البشرية وتباينت منطلقاتها ونتائجها، لكن هذا لا يمنع من استنبات تقاليد حوارية بين المباحث والرؤى تلافيا لمنطق الدوغمائية الشال لخصوبة الإمكان، وقد لا تعني الحوارية هنا أكثر من السماح بالتراوح والتذاوت Intersubjectivité والتعارف والتيهان...

T00766 10وما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق، حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السماوات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد...وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار هباء منثورا، ولم يبق إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود...
فلسفة ابن طفيل ورسالته "حي ابن يقظان"، تحقيق عبد الحكيم محمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982، ص.141.

مدخل:
لا جدال في أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي حول أشياء العالم بغناها إلى أفكار ومعقولات وإبداعات أدبية. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن عقلنة العالم وصبغه بمسحة جمالية وأدبية تعني تحديد  موقف أو رؤية للوجود انطلاقا من مبادئ معينة.

وبما أن أشياء العالم كثيرة ومتنوعة تنأى بنفسها عن الحصر والضبط، فإننا نفهم تعدد منظورات الإنسان إليها، وهذا ما يشكل دافعا قويا نحو إيجاد تقاليد تحاورية  بين المباحث والرؤى، وقد لا تعني الحوارية هنا أكثر من التراوح والتيهان والبينذاتية وتكسير الحدود الشالة لخصوبة الإمكان.

 عرف العصر العباسي ازدهارا أدبيا وفلسفيا وعلميا لاسيما بعد تأسيس بيت الحكمة، حيث ترجمت عيون التآليف الإغريقية والساسانية والهندية. في هذا الصدد، ومن زاوية فلسفية، طرحت إشكالية الدخيل والأصيل مضمونا ومنهجا، وهو الخلاف الذي جسده المتفلسفة والمتكلمة فيما عرف بإقرار التوافق بين الحكمة والشريعة في مختلف تجلياتهما (مناظرة متى للسيرافي لا تخرج عن هذا الإطار). ولنا في نصوص الفارابي والباقلاني والغزالي...ما يشهد على غنى هدا السجال النقدي. ونستحضر هنا تأليف ابن المعتز لكتابه "البديع" كرد على الشعوبية الذين زعموا أن البديع صناعة دخيلة اقتبسها المحدثون من بلاغة اليونان، بسوق أدلة من كلام النبي والصحابة وأشعار المتقدمين تبين أصالة البلاغة العربية([1]).   

Abstract-Reproduction1ينطلق لا يبنيز من فكرة أساسة مفادها أن هناك تناغم و انسجام بين أشياء العالم , فالطبيعة أو نظام العالم عند لايبنيز هي مثل ساعة دقيقة صنعها الله بإحكام . فالله مع لايبنيز ليس ساعاتيا رديئا كما هو الحال مع مالبرانش, لأنه خلق هذا العالم بشكل منقطع النظير واختار أفضل العوالم الممكنة وأحسنها للإنسان .
يوضح لا يبنيز في رسالته:" في فن التركيب" أن الكون بأكمله عبارة عن مجموعة من المركبات، وكل مركب يتكون من أجزاء، وكل جزء يتكون من أجزاء دقيقة وهكذا دواليك حتى نصل إلى الجزء الذي لا ينقسم ويسميه لايبنيز بالذرات غير القابلة للانقسام أو المونادات،وهي جسيمات لا مادية غير قابلة للقسمة أو التجزيئ.
لكن هل  توجد هده الذرات اللامادية في الواقع ؟
وما هو  البرهان الذي قدمه لايبنيز كي  يقنعنا بأنها موجودة فعلا ؟
يجيب لا يبنيز:  إن الشاهد الوحيد على وجود هذه المونادات هو النفس البشرية، فالنفس الإنسانية عبارة عن مونادة بسيطة غير قابلة للقسمة وغير مادية. فالأنا أفكر جوهر بسيط يفكر ويشعر و يحس، ويتخيل ، إذن فمنبعه روحي  . هكذا بعدما قدم لا يبنيز الشاهد على وجود هده الذرات . قال إن الكون عبارة عن مونادات وأنها المسؤولة عن تكوين  كل المركبات  المادية الكبرى التي نشاهدها بالعين المجردة.
 فلكل جسم مونادة  محددة تميزه عن باقي الأجسام ، فاختلاف الأجسام نابع عن اختلاف مونادته، فلكل جسم مونادة خاصة به  او كما يقول لا يبنيز: 

modern-art-blue-yellow-paintingعندما تأمل نيتشه وضعية أوربا إبان نهاية عصر نابليون وتبخُّر حلمه في توحيد القارة، وما رافق قبل هذا الأمر من تشبع قل نظيره بتعاليم الديانة المسيحية، أطلق فيلسوف المطرقة إبانها صرخته المدوية التي أعادت النظر في الإنسان، في العالم، في الدين وفي الحياة برمتها، لقد وصلت القارة العجوز إلى عدميتها المطلقة، هاته العدمية لم تكن وليدة عهد قريب لا وليست بدايتها سيّان وبزوغ المسيحية، بقدر ما أن أولى جذورها ترجع بالأساس إلى تعاليم سقراط وفلسفة أفلاطون، هاته الفلسفة التي عملت جاهدة على إرساء تعاليم أخرى على الأرض فقضت بذلك على آخر لمسات الإغريق الذين أعطوا معنى جميلا للحياة بمعزل وبمنأى عن تلك القيم البائدة التي احتقرت الحياة والجسد، أو بلغة جيل دولوز عن العدمية الإرتكاسية، توقف نيتشه مطولا عند مآلات الانسان الأوربي ثم حاول بعدئذ الوقوف عند أهم التحولات الكبرى التي عرفتها أوربا، ليخلص أخيرا إلى أن أوربا وعلى مدى تقدمها عاشت على إيقاع صراع ثنائي بين صِنْوين، بين نوعين من الأخلاق وهما أخلاق السادة وأخلاق العبيد.
    لا يجب الامتعاض بداية من هذا التقسيم للأخلاق، بقدر ما توجب علينا النظر بعين ثاقبة للأمور، أخلاق العبيد هي الحقبة التي تسود فيها قيم لصالح أخرى، قيم تمتاز بالانصياع والسعي من الانعتاق، قيم تسعى للثورة وتغيير الواقع، وفي نفس الآن تكون أكثر تعلقا بفكرة المُخَلِّصِ الأبدي، وأشد ارتباطا بقيم الخير والشفقة والتأنيب وعدم الرضى عن النفس، عندما ننشد الحرية وعندما نعمل على صناعة الثورة فإن ذلك يعني أننا مشدودين بأغلال ومكبلين بسلاسل، وحده السجين من يسعى للحرية ووحده العبد من يَتُوق للتحرر، العبودية رمز للضعف والانصياع من ثمة كانت العصور التي تسعى للتخلص من العبودية عصورا تنزل فيها أخلاق العبيد منزلة الأس من البنيان، أو ليست "الثورة مفخرة للعبيد la révolution est une fierté de l’esclaves " كما قال نيتشه ذات يوم !

 action-abstract-painting أطلقت كلمة (الهرمنيوطيقاHermeneutics ) في الفلسفات القديمة على تلك الدراسات اللاهوتية التي تعنى بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية و رمزية، ابتعادا عن المعنى الحرفي المباشر، إذ تحاول البحث عن المعاني الحقيقية و التعمق في أغوار النص المقدس.
  و قد تطور مفهوم (الهرمنيوطيقا) في العصر الحديث فانتقل من البحث في الالوهيات إلى مجالات أكثر، لتشمل العلوم الإنسانية كالتاريخ و علم الاجتماع و علم الإناسة و النقد الأدبي...
  و اشتقت كلمة (الهرمنيوطيقا) من الفعل اليوناني (Hermeneuein) و يعني (يُفسر) و(يوضح)، و الاسم (Hermeneia) يعني (التفسير)   و (التوضيح). و الأصل اليوناني للكلمة: استعمال آليات و مساعدات لغوية للوصول إلى كُنْه الأشياء، و اللغة هي الآلية الأولى لعملية الفهم[1].

  و قد ارتبطت (الهرمنيوطيقا) عند اليونان بتفسير النصوص المقدسة و نقلها من مستوى اللاهوتية إلى مستوى البشرية، كما هو الشأن (بالإله هرمس Hormes) الذي كان يتقن لغة الآلهة ثم يترجم مقاصدها و ينقلها إلى بني البشر، و هو إذ يفعل هذا كان عليه أن يغبر المسافة الفاصلة بين تفكير الالهة و تفكير البشر، فهو إذن يحمل النبأ الجلل...و لا يمكن أن يكون الإنسان ((هرمسيا)) ـ أي حاملا للرسالة ـ إلا إذا كانت له القابلية لعملية التجلي.[2]

4153210-6304173لا تزال جملة من المفاهيم والمصطلحات والأفكار الإسلامية التقليدية تمارس تأثيرها في واقع عربي يموج فيه الناس بعضهم في بعض، اقتتالا واحترابا، بما يحيل إلى مفهوم الفتنة فعودة “القديم” و“الفائت” أمر يسهل رصده اليوم في ارتباط بالحدث السياسي العام الذي يفرض طرح سؤال الفتنة من جديد .
ونبتـغى هنا الالتفات ناحية الفلسفة العــربية من خلال أحد أبرز رموزها، ونعنى ابن رشد لمساءلة هذا المفهوم ضمن متنه الفلسفي ، أملا في الإحـــاطة بجانب من جوانب رؤيته السياسية، و هو ما لا يمكن الوقوف عليه دون إعــادة النظر في الصراع الذي دار بين الكلام والفلســـفة، كما عرضه وحلله وشرحه فــيلسوف قرطبة على هذه الصعيد بالذات، بما من شأنه أن يمكننا من رسم الحدود بين خطابين متضــادين في السياسة، لكل منهما آلياته و استراتيجياته.(1)
لقد توارى مفهوم الفتنة عربيا عن الأنظار لمدة نصف قرن الماضية على الأقل، ليعود بقوة في علاقة بالمستجدات الراهنة كما ذكرنا، ففي واقع عربي معقد تلفه الغيوم و تعوي فيه العواصف يجرى توظيف الدين و المذهب و الطائفة و العشيرة في الصراعات السياسية المحتدمة التي تنفجر هنا و هناك و هي متسربلة بخطاب الفتنة.
وهذا ما طرح من جديد إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، في إعادة إنتاج لمشكل قديم هو مشكل الصلة بين الشريعة و المدينة، أي ما حاول ابن رشد فهمه وتحليله قبل قرون، ومن هنا فإن الاتجاه ناحية مدونته الفلسفية لمساءلة خطابه حول الفتنة يفرض ذاته، فقد واجه المتكلمين من موقع الفلسفة، مبينا تهافت حججهم في صلة بإستراتيجية فكرية لا تتوانى عن كشف مقاصدها، ممثلة في محاربة الفتنة بما تحيل إليه من نزاعات وانكسارات ، وما تستوجبه من تطارح بدائل مرتكزة على وحدة المدينة وتناسقها وانسجامها، لأجل ذلك اندرج خطابه حول الفتنة ضمن مقاربته للمشكلة السياسية.