foucault"أنا ببساطة نيتشوي أحاول بقدر الإمكان أن أرى بخصوص عدد من النقاط – بمساعدة نصوص نيتشه- ولكن مع ذلك مع أطروحات مضادة لنيتشه (وإن كانت مع ذلك نيتشوية) ماذا يمكن أن نعمل في هذا المجال أو ذاك. لا أبحث عن أي شيء آخر، ولكني أبحث عن هذا بحق" (ميشيل فوكو)

تقديم :

قد لا يختلف اثنان حول قيمة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وأهميته داخل المسرح الفلسفي ككل. ومكانته الكبيرة تلك، يستمدها من كونه فيلسوفا أبدع مفاهيمه: بتعبير دولوزي؛ ولأنه أيضا فكر بشكل مختلف، بتعبير فوكوي، سواء من حيث الموضوعات والإشكالات التي تناولها، أو من حيث الطريقة التي عالج بها تلك المواضيع.

بدأ فوكو مسيرته الفلسفية، بكتابه الشهير "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، الذي قام فيه لأول مرة بتسليط الضوء على موضوع، طالما اعتبر هامشيا، ليردفه بعد ذلك بمؤلفات أخرى مثل: "مولد العيادة"، و"الكلمات والأشياء"، و"المراقبة والعقاب"، و"تاريخ الجنسانية" بأجزائه الثلاثة... انكب في هذه الأعمال على بلورة حفريات للمعرفة، تأخذ على عاتقها التأريخ للفكر والعلوم، من منطلق أشكلة ظهورها ونشوئها.

وإذ نقوم بعرض بعض الخطوط العريضة للمشروع الفوكوي، في الورقات الآتية (ونحن واعون باستحالة رصد كل الفكر الفوكوي الشاسع في هذا البحث)، فلكي نستجلي حضور نيتشه في هذا الفكر. فكيف يمكن الحديث عن تأثير نيتشوي في فكر فوكو؟ وإلى أي حد يمكن القول بحضور نيتشوي داخل البيت (الفكري طبعا) الفوكوي؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن تقاطعات بينهما؟

erich-frommألف إيريك فروم "ثورة الأمل. نحو تكنولوجيا مؤنسنة" عام 1968، و أعيد طبعة في المجلد الرابع من أعماله الكاملة: "النظرية الإجتماعية"، سنة 1989 بمدينة ميونيخ الألمانية؛ إلى جانب أحد أهم كتبه الأخرى: "سبل الخروج من مجتمع مريض" (1955). و الكتاب هو رد فعل منه على وضع أمريكا عام 1968، اقتناعا منه بأن الإنسانية توجد في مفترق الطرق: الأول يقود إلى مجتمع آلي تقني، يكون فيه الإنسان جزء من آلة و يكون القضاء عليه وارد و واقعي. أما الثاني فيتتوق إلى بعث النزعة الإنسانية والأمل في الحياة، بوعي كون التقنية لابد أن تكون في خدمة رفاهية الإنسان و ليس العكس. و هدف الكتاب هو التنبيه إلى المنعطف الخطير الذي تمشي الإنسانية فيه و ضرورة الفعل في المجتمعات الإنسانية، و بالخصوص المصنعة منها، من أجل إيجاد بدائل تقوم على العقل و حب الحياة، عوض اللاوع و اللامعقول حيث يسبح العالم الحالي، المليئ بالكراهية و الإقصاء و التدمير. و الكتاب موجه لجمهور عريض بغض النظر عن المواقف السياسية المختلفة لهذا الجمهور و انتماءاته العقائدية و الثقافية و الجغرافية، من أجل تحقيق حدا أدنى من الكرامة الإنسانية للجميع و العيش معا في سلام.

wege aus einerنشر فروم هذا الكتاب، و هو أهم كتاب مبكر له، عام 1955، و أعيد نشره في أعماله الكاملة بميونيخ سنة 1989، المجلد الرابع: "النظرية الإجتماعية" إلى جانب كتابه الشهير الآخر: "ثورة الأمل. من أجل أنسنة التقنية".

يناقش الكتاب مشكلة الإنسان الحديث في مجتمع يُرَكِّزُ كل همه على الإنتاج الإقتصادي و التقني، ولا يهتم بتطوير العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراد مجتمعه. يؤكد فروم بأن النظامين الرأسمالي و الإشتراكي المادي قد فشلا في قيادة المجتمع في الطريق الصحيح (التضامن، التسامح، وعي المصالح العامة إلخ) و سببا للفرد فقرا وجوديا و خيبة أمل ضمنية أو صريحة في تحقيق مُثُل إنسانية سامية، تجعل من الرفاهية المادية و المعنوية هدفها الأخير. كما أنه يشخص أمراض المجتمع ويعرض ما يراه من نواقص وعيوب. ثم يشرح ما اختاره المرء من حلول للمشاكل التي يعانيها المجتمع، وهي حلول تركز كلها على تطوير النظام الرأسمالي وقيام الحكم ديكتاتوريات مختلفة جراء ذلك و التنبأ بانهيار الشيوعية المادية. و يعتبر فروم كل هذه الحلول دون جدوى، لأنها لا تعالج المشكل في أساسه، بل تعمل على تعقيده. ولا يرى أي حل لهذه الأزمة إلا ببديل "الإشتراكية الإجتماعية". يفصل القول في شرح بديله هذا و يبين ما يقصده به. فهو الذي يضمن في نظره للمجتمع سلامة العقل الجماعي ولا تستغل الفرد لتحقيق أغراض أقلية، سواء أكانت طبقة سياسية أو دينية. أهم شيئ في هذا المجتمع الجديد هو تطوير الجانب الإنساني في الإنسان، و هو جانب قابع فيه لا ينتظر إلا الفرصة لينبثق و يتفتح. و من الضروري في نظره أن يوجه الإقتصاد و السياسة و الثقافة و لحتى الدين في هذا الإتجاه قصد تحقيق هذا الهدف. و يخصص حيزا كبيرا لتحليل هذا الأمر، قبل أن يختم بتقديم اقتراحات عملية في الإصلاح الإجتماعي، الذي يهدف إلى الحد و لربما القضاء على نمط الحياة الآلية التي رُمي المجتمع فيها. و النتيجة هي بناء مجتمع سليم، يكون كل فرد فيه منتج ماديا و معنويا و مسؤولا واعيا عن نفسه و عن الآخرين.

  oehlenfmbبين سؤال الموت ولعبة الحياة تفاصيل كثيرة، لكن السر الأساسي الذي تميز بالحضور غيابيا، هو العلاقة التي تربط بين الإثنين، والتي عادة ما يتم تصنيفها ووضعها موضع نقيضين ومتضادين، فنقول من حيث لا ندري بأن الموت نقيض الحياة والعكس صحيح. فَحْوى هذا السر هو أن الحياة لم نكن لنحس بها لولا وجود الموت، إن الحياة هي التي تقتل نفسها كي تتحول لِموتٍ ما، وإلا فلماذا نقتل الآخر كي نحيا نحن على أنقاضه؟ قد يكون هذا القتل رمزيا، مثلما يكون ماديا وهو ما يحصل في الحروب، حيث يصبح المنطق الحاكم هو : أقتل خصمك كي تضمن لنفسك استمرارا في الحياة، وهو ما يؤسس لحياة جديدة ــ كادت أن تكون موتا ــ على حساب موت الآخر، أي أن الموت تنحدر من الحياة دون أن تُناقِضها. لكن ثمة في هذا الأمر خَطبًا آخر غريبا كل الغرابة، حتى يكاد المرء لا يختلف مع نظيره بأن الإنسان كائن مجنون، أو حيوان مريض بلغة نيتشه، فحوى هذه الغرابة هو محاولة زرع الإنسان للحياة مرة أخرى داخل مجال الموت، والحال أن الإسكاتولوجيا تثبت شِقّاً مما ذكرناه الآن، حيث سنأخذ طقوس الدفن على سبيل المثال، إذ بعدما كان الميت يُرمى في البحر، وبعدما أصبح يوضع وراء النهر لأن الأرواح الشريرة لا تستطيع عبور الأنهار، أصبح الإنسان، أو قُل جسد الإنسان، يُحنّطُ  بغية إدخاله الحياة، لكن الأمر الأخطر التي تتحدث عنه الإسكاتولوجيا هو أن وضع جثة الإنسان في الأرض، هو بمثابة عملية زرع البذرة كي تنبث مرة أخرى، وهذا ما كان يعتقده الإنسان قديما، إلى أن صُدِمَ أنطولوجيا عندما لم تنجح محاولته هذه في إخراج الحياة من الموت، ومن ثمة فإن موت أحدهم أصبح يعني فقدانه للأبد، لكن وبما أن الإنسان كائن مقاوم للمستحيل، فقد أنشأ لنفسه عوضا عن ذلك شيئا جديدا الغرض منه درءُ النسيان، وإضفاء طابع الخلود عن الغائب، أي حضور الغائب ليس كنسيان، بل كتذكر، وما وضع الميت في الأرض، ووضع علامة أو رمز على لَحدِهِ إلا طريقة لحضوره كغياب.

ما الفلسفة ؟ ـ  فوزية ضيف اللهإنّ سؤال "ما الفلسفة؟" هو سؤال يطرحه العاميّ كما يطرحه الفيلسوف. إلاّ أنّه سؤال عنيد، متكرّر الطرح، فغياب الإجابة يحيّر  العامّي  كما يحيّر  الفيلسوف. غير أنّ  الفلسفة لا تقدر على مواجهة ارتباكها إزاء  هذا السؤال أو  إزاء مداراته لكأنّ الفلسفة إنّما  تنتهي إلى حدّ  الصّمت إذا  تعلّق الأمر بذاتها[1]. فسؤال "ما الفلسفة؟" هو السؤال الذي لم تقدر الفلسفة لا على دفعه ولا على الاجابة عنه[2]. فما الفلسفة؟ وهل من تعريف لها؟

إنّ هذا السؤال الماهويّ إنّما هو سؤال يبقي على المسافة، بينما الهدف من السؤال الإقامة داخلها[3]، فسؤال ما الفلسفة- ضمن المنظورية الهيدغرية- إنّما يترصّدها ويجعلنا أمام تلمذة لا نهائية لفلاسفة قدامى. فأن نستعيد التعريف الأرسطي للفلسفة، فإنّ ذلك يعني فيما يعني، الإبقاء على أرسطو  وصيّا يفكّر عوضا عنّا. فأيّ سؤال يمكن أن يجعلنا داخل الفلسفة؟

 إنّ تهافت سؤال "ما الفلسفة؟" يجعلنا نستعيض عنه بسؤال "ما التفلسف؟"[4]  فهو سؤال قادر على أن ينفتح على أفق الفلسفة ليجعل للذات إقامة  أبدية في ربوع التفكير الفلسفي؟ هل أنّ سؤال "ما التفلسف؟" هو سؤال يدعونا للإقامة لديه أم أنّه يدعونا إلى معاودة التفكير في معنى الإقامة من أجل التفكير(هيدغر)؟

ليس لدينا دلالة واضحة عن التفلسف فلماذا يصمت هيدغر عن سؤال "ما التفلسف؟" رغم أنّه ينبّه إلى  أنّ الاهتداء  إلى ماهيّة  الفلسفة لا يكون إلاّ  بمباشرة فعل التفلسف. إنّ صمت هيدغر عن ماهيّة التفلسف هو صمت يعبّر عن تحوّل في دلالة التفلسف إلى  موطن للتساؤلات. فما التفلسف؟ وفيم يتمثّل؟

 لقد قال يانكليفيتش (Jankélévitch) بأنّ التفلسف يتمثّل في "أن ننظر إلى الكون وكأن لا شيء فيه يسير على ما يرام"[5]. فهل يمكن أن نعتبر هذه الإجابة أو هذا التعريف أفقا ملائما للنهوض بسؤال "ما الفلسفة؟"، أي بالكشف عن ماهيتها؟  كيف يكون النظر إلى الكون من جهة أنّه لا  يسير على ما يرام، سبيلا للإقبال على فعل التفلسف؟، أي هل أنّ النظر إلى الكون يضطلع بالشروط التي يتدبّرها الفيلسوف من جهة استعداده لخوض غمار التفلسف؟ بعبارة أخرى، هل أنّ ما يدفع إلى التفلسف يعود إلى بنية العالم أم إلى  بنية الذات؟

المراهق والفلسفة .. وبؤس المؤسسة ـ محمد الحوشلا أحد من المشتغلين بالحقل الفلسفي سواء كان طالبا أو مدرسا أو مفكرا ينكر أن الفسلفة ذات طابع نقدي، وأنها قد تتخلى عن القيام بالشغب والبناء الفكري الذي تأسست من أجل القيام به. هذا الشغب الفكري ينبني على عدم القبول بالجاهز غير الواضح، وعدم قبول ما هو متستر وراء خلفيات وادعاءات تقدم نفسها على أنها فكر ونقد لوضع قائم، في حين أنها في الغالب مجرد أفكار لا ترى إلا نفسها تنطلق منها لتعود إليها في غياب تام للعقل، فهي إذن بمعنى من المعاني ذات صبغة مرضية لا ترى الآخر وفكره. من اجل مواجهة هذا النوع من "التفكير" تأسس الفكر الفلسفي باعتباره ثورة أو على الأقل دعوة إلى الثورة على التسطيح الفكري وعلى عدم الالتزام النقدي اتجاه مختلف القضايا كيفما كانت طبيعتها، فلا يمكن للنقد أن يكون بوجه من الوجوه نقدا انتقائيا، نقدا لليمين دون اليسار أو نقدا للأعلى دون الأسفل ...
في هذ المسألة بالذات - مسألة النقد – تلتقي الفلسفة وتشترك مع المراهق، ذلك أن من أهم سمات هذا الأخير هي الثورة والدعوة إليها، وإن بوسائل أولية تتطبع بخصائص المرحلة التي يعيشها، إلا أن هذه الثورة تتخذ طابعا عاطفيا أو إن ما يحركها يكون عاطفيا في حين أن ثورة الفلسفة تحركها مبادئ عقلية.

إذن المراهق والفسلفة يشتركان بطبيعتهما في الدعوة إلى التجديد والنقد وبناء رؤى ونماذج أخرى للواقع تستجيب للمتطلبات العقلية والعاطفية كل حسب هدفه. بهذا المنطق يكون المراهق مستعدا بالطبيعة للانخراط في الفعل الفلسفي عامة والدرس الفلسفي المدرسي على وجه الخصوص، ذلك أن "مبادئ الفلسفة" جزء من مبادئ المراهق المعيشية واليومية ذات الطابع العاطفي. وبذلك يبقى المطلوب أو الواجب الذي يجب أن ينشغل به المدرس هو كيفية تحويل هذا الهم العاطفي الداعي إلى التغيير من طرف المراهق إلى هم عقلي منضبط برؤى نقدية باعتبار هذا الهم الأخير من مشاغل الفكر الفلسفي.

هيرمونطيقا الخطاب الفلسفي العراقي تُمثل دراسة الأستاذ الدكتور حسن مجيد العبيدي (تأويل النص القرآني الفلسفي العراقي المعاصر – عرفان عبد الحميد فتاح انموذجا)** واحدة من الدراسات الفلسفية التي تضمنت على كبرى اشكالات خطابنا الفلسفي قديما وحديثا. حيث نجحت الدراسة في تسليط الضوء على اشكالات فلسفية وانطولوجية وانطو-ثيولوجية/كلامية ولاهوتية، وعلى طبيعة التداخل بين جدل لاهوت المقدس الصاعد من جهة، وجدل لغة انطولوجيا الذات النازل من جهة اخرى. من هنا، ستحاول قراءتنا الولوج بين ثنايا تلك الاشكالات الفلسفية العويصة والشائكة والمعقدة إلى حد كبير، سيما وان دراسة الاستاذ العبيدي تجعلنا نقف امام محنة فلسفية كبيرة في الفكر الفلسفي الإسلامي، ألا وهي: محنة تأويل النص القرآني وعلاقته بالخطاب اللغوي و"الدراسات اللسانية" المتداخلة مع نسق اللاهوت الميتافيزيقي من جانب؛ والقيميّن على استمرارية "لغة وبلاغة وعلم نحو اللغة المقدسة" من فلاسفة ومتكلمين ومتصوفة من جانب اخر. 

           ولهذا، سينصب جهد قراءتنا على ثيمة "اللغة وسياسات إنتاج المعنى المتعالي/القدسوي"، لما تشغله من أهمية ابستمولوجية وثقافية في إعادة رسم ملامح خريطة المشهد الفلسفي العراقي، المستند على اسس لسانية ومنطقية ولغوية، عملت جميعها على إنتاج "هوية التطابق الميتافيزيقي الكوزمولوجي" لذلك المشهد. والذي ادى في نهاية المطاف، إلى اختزال قضية تأويل النص القرآني في الخطاب الفلسفي العراقي ضمن "قراءة توتولوجية منطقية ملهوتة"  تنطلق من المقدس وتنتهي به؛ ومن لسانيات اللاهوت لتنتهي بالخطاب المتعالي/الميتافيزيقي؛ ومن حدوث الكلام الإلهي لتنتهي بقدمه؛ ومن الثيولوجيا لتنتهي بالأنطو-ثيولوجيا...الخ. فمن خلال هذا الجدل نحاول إعادة قراءة تاريخ المنشور الفلسفي العراقي، سيما المنهمك منه في بنية وتأويل خطابات العلوم الكلامية والصوفية والفلسفية، ليتسنى لنا الوقوف على طبيعة تاريخ القراءات وتحولاتها في ارشيفنا الفلسفي، ومدى نجاحها في الأنعتاق من سيطرة "البرادايمات التوتولوجية المُلهوتة والمقدسة" للنص الديني من جهة، وللنص الفلسفي من جهة أخرى.

personne-abstractإلى ميشيل فوكو بعد انقضاء ثلاثة عقود عن رحيل جسده وديمومة فكره
" إن وجود فلاسفة محترفين يخطبون ويطلبون ويؤكدون ويلحون على أن نهتم بأنفسنا لم تكن لتمر من دون أن تطرح عددا من المشكلات السياسية التي أثيرت حولها مناقشات مهمة للغاية."1[1]
بين الذات والحقيقة علاقة لا ينكرها إلا من لم يعتن بذاته ولم يبحث عن الحقيقة وعاش أبد الدهر مغمض العينين ولم يحاول معرفة نفسه والاستطلاع في العالم المحيط به والخوض في رحلات وتجارب المعنى. بيد أن العلاقة مع الذات قد لا تكفي معرفة الحقيقة الذاتية للتعبير عن مختلف أبعادها و إدراك ما في بواطنها. وبناء على ذلك يمكن تعويض الاهتمام بالذات والاشتغال على الذات بالعناية بها  Souci de soi 2[2] قصد تجنب السقوط في أهواء الانشغال ومتاهات الانهمام دون إضاعة الفرصة للإقامة في الذات والسير الحثيث إليها. لا مناص من القول بأن العناية بالذات مثلت لُبَّ النشاط الفلسفي وطريقه المستقيم ، والآية على ذلك شدة الدفاع عن النفس عند التعرض للمخاطر والأذى وتشييد الحكمة على هذه المقارعة المستمرة للخارج. لكن لماذا تم تفضيل مبدأ اعرف نفسك كتقنية رسمية للنشاط الفلسفي على حساب   مبدأ اعتن بنفسك؟ وما الذي حدث للإنسان في الزمن ما بعد الحديث لكي يعيد من جديد تعريف النشاط الفلسفي على ضوء مبدأ العناية بالذات؟ وبعبارة أخرى بأي معنى يمثل مطلب العناية بالذات أحسن التقنيات الإيتيقية الممكنة لتقدير الذات؟.

د. زهير الخويلدياستهلال:
" إذا كانت الثقافة تتجلى عبر نوع من الأذى الدائم فإنها مع ذلك نعمة لا تقدر بثمن"1[1]
يبدو أن النظر في ماهو إنساني يستوجب منا العودة إلى ماهو ثقافي وحضاري وذلك لكون الهوية الإنسانية لا تتحقق إلا بالثقافة والتحضر وذلك لكون الهوية الذاتية للفرد لا تتشكل بمعزل عن هويته الاجتماعية ولقائها بالأغيار واستفادتها من التراث الإنساني والتجارب التاريخية المشتركة. إذا أضفنا ما يميز الإنسان عن غيره من مجموعة المحددات الثقافية مثل اللغة والدين والفنون ومختلف العناصر المكونة للخصوصية ومنظومة القيم وأنماط السلوك الأخرى التي ينخرط في ممارستها تأكيدا للانتماء فإننا نستخلص من ذلك انقسام الإنسانية الكونية إلى مجموعة من الخصوصيات تتجلى في تعدد الهويات الثقافية وتنوعها. غير أن المشكل الفلسفي الذي يطرأ هنا يتعلق بمجال تكوينية الهوية الثقافية بين المفرد والجمع ومراوحتها على المستوى التاريخي بين التشكل والازدهار من جهة والانحطاط والأفول من جهة أخرى. بعد ذلك يتراءى لنا مشكل جديد يتعلق بعلاقات الثقافات فيما بينها وميلها إلى التمركز على الذات وإعلان التفوق واحتكار التكلم باسم بالتحضر والعالمية ودخولها في تنافس يتحول إلى صراع واستبعاد لغيرها.  
المشكل الثالث الذي يبرز للعيان هو مخاطر المديح الذاتي والقول بالخصوصية الثقافية على ترسيخ قيم كونية حضارية تبشر بالتسامح والتساوي وتدعو إلى الانفتاح والتعارف ومخاطر العولمة على الهوية. في هذا الإطار ماهو مفهوم الثقافة ؟ وما الهوية؟ وهل توجد ثقافة أم عدة ثقافات؟ وما علاقة الثقافات بعضها ببعض؟ هل تقوم على التهميش والهيمنة والقول بأفضليتها على حساب الأخرى أم تتغذى من التنوع والديناميكية والانفتاح وتستثمر التقاطع مع غيرها من أجل التثاقف المثمر والتفاعل التوليدي الخلاق؟ وما المصير الذي ينتظر كل هوية ثقافية ؟ هل تتعرض للتحجر والجدب أم تنصهر في الحضارة الكونية ؟ بعبارة أخرى ما الذي يميز الهوية الثقافية ؟ هل قدرتها على أن تظل حية ومحافظة على قوتها وإبداعيتها أم أن مصيرها ينتهي إلى التقوقع والانحدار والسقوط ؟ وكيف السبيل إلى احترام حق الضيافة الكونية؟

الجهل المطلق  كُتب و مقالات عديدة دبجت في التواضع في معناه المعرفي و ليس الأخلاقي و إن كانت الحدود بين المعنيين رقيقة و رفيعة إلى درجة أن أغلبيتنا ربما لا ترى أي فارق يذكر بينهما، من منطلق أن التواضع تواضع و كفى، فهو حكم معياري يصدر  في حق الفرد جملة واحدة دون تمييز فيه بين ما ينتمي إلى هذا الجانب أو ذاك. و مع ذلك نحن نقصد بالتواضع المعرفي إدراك المرء و إقراره بأنه لا يُحصل من المعرفة و من العلم على وجه التحديد إلا النزر اليسير بل حتى ذلك النزر لا يصل فيه مطلقا درجة اليقين و إن بلغ مرتبة الصحة، و بين الصحة و اليقين فرق لا ينبغي إغفاله يعادل الفرق بين النسبي و المطلق أو بين المؤقت و الدائم.

التواضع المعرفي أو العقلي يفيد، إلى حد ما، ما يسميه بوبر باللامعصومية التي تعني الإقرار بأن العقل البشري ليس معصوما من الخطأ، بل هو عرضة له في كل حين، و هو رفيق اجتهاده، إذا تجنبه حينا فهو ملاقيه حتما حينا آخر. و في مقابله يقف مفهوم آخر مناقض له يسميه بوبر بالنزعة التعالمية التي تشي بنوع من الغطرسة العقلية و التي يعرفها قائلا: هي "نظرية إضفاء السلطة على المعرفة و العارف، على العلم و العلماء، على الحكمة و الحكيم، على التعلم و المتعلم. "[1]

مسعانا في هذه الورقة يتحدد في الوقوف على المفهوم الأول، نقصد مفهوم التواضع العقلي أو المعرفي من خلال منظور كارل بوبر بالخصوص الذي عبر عنه في مؤلفه "نحو عالم أفضل"، مسلطين الضوء في عجالة على بعض اللحظات من مشوار المعرفة الطويل الذي كشف من خلاله بعض من ساروا في دربه و اعتلوا ذراه على أن المعرفة مهما بلغ صاحبها من الدقة و سعة الاطلاع، تبقى معرفة دون مستوى اليقين، لذلك لا لزوم لأية غطرسة معرفية  في مجال العلم و المعرفة ما دامت هذه الأخيرة تشعرنا بضآلة حجمنا فتلزمنا شئنا أم أبينا بالتحلي بالتواضع المعرفي.

pitagorفي أفق هذه المقاربة الإبستيمولوجية الأولية، يمكن إستحضار الأطروحة التي تقول: "ان فلسفة المعرفة العلمية فلسفة مفتوحة. إنها وعي فكر  وهو يؤسس ذاته في خضم كشفه عن المجهول، وبحثه في الواقع عما يتعارض مع المعارف السابقة."(غاستون باشلار)أجل، لقد بلغت الفلسفة إلى الذروة في قطعها لمسافات معرفية كبيرة لا تخلو من التأمل والطرح المستمر للسؤال، وذلك باعتمادها على مقوم العقل والمعرفة والتفكير، في سبيل إدراك مسار العلوم وما يخلفه من نظريات علمية نظرية وتجريبية ومسائل مركبة حول الوجود، هذا هو حال الفلسفة كبحث مستمر عن تجليات الوجود في رمته، فهي تجرد من نفسها صورة ثانية لكي تتأملها وتناقش معاني الحياة البشرية. فتحوجها الضرورة فتضطر إلى إبداء ما توصلت إليه من تأملات وإستنباطات حول موضوعات متعددة كالعلم، الطبيعة،المنهج، القيم، السياسة... فالفلسفة تسمو عن محاولة إعتبارها علما من العلوم الطبيعية أو كونها نظرية من النظريات، فهي تفكير  عقلي مستمر لا متناهي في مختلف حيثيات الوجود البشري المتغير بإستمرار.
تعمل الفلسفة على التوضيح المنطقي للأفكار العلمية، وتصبح كفاعلية شمولية تضم الأفكار إليها وتناقشها وتحددها بكل دقة وترصد الاشكالات المبهمة الغامضة، إن مسار الفلسفة هو مليئ بالتشعبات والتفرعات، أي أننا نجد الفلسفة حاضرة في كل أصناف العلوم، من علم طبيعي، إلى علم إنساني تطرح نفسها بإلحاح وتلقي بأفكارها النظرية حول مرامي وتجارب تلك العلوم وتكشف أخطائها ومعارفها وتفند فرضياتها بطرح أسئلة جديدة.