recherche-anfa" التفكير يسبق العلم الذي لا يفعل شيئا سوى استخدام أكثر من منهج. الانسان لا يمكن أن يعيش وسط الأشياء دون أن يصنع منها أفكارا يضبط من خلالها سلوكه"1
لا يمكن بناء العلوم دون حدوث ثورة في المناهج ويستحيل تحصيل المعرفة دون الاستناد الى قواعد وأسس ومراجع واضحة ومتنوعة ويتعذر على العقل تفسير الكون وإنقاذ ظواهر الطبيعة وقراءة الواقع والتكيف مع المتغيرات اذا لم ينطلق من رؤية متكاملة للأشياء ويتسلح بالعدة الإبستيمولوجية الضرورية والمعاول النظرية الماسحة وينضج في المخابر التجريبية الكافية.
الأصل الاشتقاقي اللغوي لكلمة المنهج Méthode هو الجذر الاغريقي ميتودوس μ?θοδος والذي يفيد الاستمرارية والبحث عن طريقة بغية تحقيق شيء معين ويتكون اللفظ من جزئين: ميتا meth أي مابعد وما يتبع ويستمر ويلحق ، وأدوس odos هو الدرب والطريق والوسيلة.
اذا كان رونيه ديكارت قد ترك خطابا حول المنهج من أجل حسن قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم2 وإذا كان فرنسيس بيكون قد جعل من التجربة معيار التثبت من صدق الإفتراضات المستخلصة من الملاحظات ومرحلة منطقية بحثية تسبق صياغة النتائج وبلورة القوانين3 فإن الحقول التي يتنزل ضمنها المنهج لا تقتصر على الرياضيات والمنطق وعلوم الطبيعة والفكر الفلسفي الذي يحرص على انتاج خطاب متماسك وانجاز أفعال متساوقة بل يشمل جميع القطاعات ويحضر في كل المهن والحرف ولذلك يتراوح المنهج في العلوم الاجتماعية بين الكم والكيف ويساعد في السياسة على تفسير التحولات واتخاذ القرارات ويمثل تقنية في التأويل بالنسبة الى الفنون والآداب ووظيفة في علاقة بموضوع وبرمجة موجهة نحو تحقيق أمرا ما في الإعلامية.

vouloir-la-liberteتشكل فكرة العدالة اليوم، محطة نقاش واسع من طرف العديد من الفلاسفة والباحثين السوسيولوجيين والاقتصاديين المعاصرين. ولقد تم الاهتمام بهذا المفهوم قديما لاسيما في الأعمال التي قدمتها الفلسفة السياسية حول أفكار ومبادئ وشروط تحقيق المجتمع العادل. إن مسألة العدالة تتطلب فهما عميقا بأسسها ومبادئها وشروط تشكلها. ومن أجل مقاربة جلية للمفهوم، فإنه يمكن فهم وتحليل أبرز الأفكار الفلسفية والسوسيولجية والاقتصادية التي حاولت تفسير وإدراك مسألة العدالة في إرتباطها بمؤسسة الدولة. ومن هذا المقام، فإن إستشكال المفهوم يظل أمرا مشروعا، وذلك بغية فهم أعمق بفكرة العدالة، إذن، فما المقصود بالعدالة؟ وما الذي يميز الفعل العادل؟ وما علاقة العدالة بدولة الحق والقانون؟
    إن محاولة وضع إجابة عن هذا السؤال، تكتسي طابعا مركبا لأنها تحوي مفاهيم فلسفية صعبة المراس، وتشكل في نفس الآن، مجالا خصبا غني الدلالات والتحليلات، وعلى هذا الاساس، انصب تفكير الفلاسفة والسوسيولوجيين والاقتصاديين في أطروحتهم المختلفة حول معالجة مفاهيم، كالعدالة، الدولة، القانون، الحق، كمفاهيم غنية، تحتاج لتفكير عميق يمنحها معناها وقيمتها الاساسية.

karl-popperلا اختلاف حول كون كارل بوبر هو أحد فلاسفة النقد بامتياز،  كيف لا و قد قضى معظم حياته الفكرية المديدة في الدفاع عن النقد العقلاني حتى جعل منه طريقة للتفكير بل و طريقة للحياة تتمثل في استعداد الفرد الدائم للإنصات إلى الحجج النقدية، و البحث الدؤوب عن الأخطاء و التعلم منها. فنحن نلفي النقد حاضرا في أعطاف كتاباته في مجملها و على اختلاف المواضيع التي طرقتها، سياسية كانت، اجتماعية، تاريخية أو حتى علمية، هاجسه في ذلك الدعوة إلى مواجهة كل أشكال الأطر المغلقة التي تشل الفكر و تسد عليه منافذ كل تبصر و تفكير عقلاني متفتح يؤمن بالآخر و يدعو إلى المجتمع المفتوح و الكون المفتوح.
و لأجل ذلك، كانت الغاية التي حددها لمبحثه هذا، تتمثل في التصدي لأبرز تجليات و مظاهر اللاعقلانية، متجسدة بالخصوص في النزعة النسباوية - التي تقوم على مبدأ فحواه أننا نستطيع أن نفكر من خلال إطار ترسم معالمه خلفيتنا العقلية، و أن الحقيقة تختلف من إطار إلى آخر-  استهدف تقويض حججها و تبيان تهافت مسوغاتها في أفق إحلال النقاش العقلاني الخصيب و المثمر بدلها. لكن و قبل أن نتعرف على بعض مظاهر التفكير النسباوي، لنسفر، بادئ ذي بدء، الحجاب عما يقصده بوبر بأسطورة الإطار، تلك العبارة التي جعلها عنوانا لأحد فصول كتابه بل و أسبغها على المؤلف ككل، في دلالة معبرة على إدانته القوية لمفهوم الإطار و خطورة أن يتلبس بالعقول.

LudwigWittgensteinلقد ركزنا في هذه الدراسة على إتباع المفاهيم الأساسية في كتاب (ل.ف) "الرسالة المنطقية الفسلفية " و منهجه في التحليل ، بدءا من المستوى الأنطولوجي ثم عرجنا على الفهم اللغوي نظرا لإسهام صاحب الرسالة وأهميته البالغة في حقل فلسفية اللغة وكونه رائدا من رواد الفلسفة التحليلية.
لقد عالجنا في هذا المشروع الإشكالية التالية "فلسفية التحليل عند "لودفيغ فيتجنشتاين"، منطلقين من فكرة العالم في كتاب الرسالة، ومتبعين منهج التحليل الذي هو القاعدة الأساسية في فلسفة (ل.ف) فالفلسفة بالنسبة إليه تقوم على أساس نشاط يوضح ما نعرفه بالفعل من قبل، وذلك بحل المشكلات التي هي نتيجة سوء استخدام اللغة.
لقد كانت هذه الدراسة  محاولة لسبر أغوار فيلسوف عظيم أثر في جيله وكل لاحقيه، محاولة لدراسة كتاب سماه البعض إنجيل الوضعية المنطقية، إنها محاولة لطرق مجال بحث لم ننفتح عليه طوال سنوات دراستنا الجامعية، وكان دليلي في هذا البحث توخي البساطة والوضوح في الطرح، وأخذ الحيطة والحذر في تناول المفاهيم، والهدف تقديم دراسة تنأى عن السطحية، وتزويد ساحتنا الفكرية بمشروع طالما بحث عن حل للمشكلات الفلسفية من خلال دراسة  "منطق اللغة" التي تنتج هذه المشكلات، للبحث صعوبات وعراقيل، لكن فيه متعة وبهجة البحث و التفكير الفلسفيين، فالرسالة تقذف بنا بين مباحث الفلسفة التقليدية لتقدم حلولا جديدة ، تفتح لك مجالات أخرى للبحث، من الأنطولوجيا إلى الإبستيمولوجيا، ثم الأكسيولوجيا، إنه كتاب يستهدف إقامة حد للتفكير بالفعل.

DSC 0146 2بمناسبة مرور ((888)) على ميلاد الفيلسوف العربي الاسلامي  ((ابن رشد))
الفلسفة ، اذا جاز لنا  ان نسميها  علما  فهي  علم التساؤل  والتغيير  وعدم الثبات ،  علم التفكر  والتطور ...
الفلسفة منهج  تفكير  لا يؤمن بوجود أرضية  ثابتة  غير قابلة  للتغير ، غير قابلة للزحزحة ، سواء بعوامل  التعرية  او  بتغيير  طبيعة  مكوناتها  عبر الزمن  مهما طال  او قصر ....
لاشك ان ظهور  الفلاسفة  والنظريات  او المناهج الفلسفية  لايأتي من فراغ ، هي وان بدت  نشاطا عقليا  متفردا   لذات منفردة ،  لكنها  بالتاكيد  ناتجة عن  ظروف  اقتصادية  وثقافية  اجتماعية  محددة ، انها استجابة  غير محسوسة  وغير مباشرة  لتفكر واقع  معاش  وظواهر  بارزة  او مستترة  ،  هذه  العلامات   او هذا ((الوحي))  يختار من  آلاف  او ملايين العقول عقلا مميزا قادرا  على فك   رموز اشاراته  وايحائاته  لصياغتها  في  نظرية  فلسفية  تبدو  وكأنها   انتاج  عقل  الفرد  الشخص  الناطق بها ،  بلا ريب ان  هذا الشخص  هو المتفكر دائم التفكر، الفطن  اللماح  الغير مستسلم  لفروض الواقع المعاش والنظريات  والمسلمات السائدة  في عصره ، انه  المشكك  المشاكس  ، الذي   يؤمن  بان  (( لا ثابت  الا المتغيير ))،  هذه الخصوصية   تضفي  على الفيلسوف  هيبة  وسمات  وصفات  الانبياء   ولكن وحيه  أرضي  محسوس  ومشهود ...

image RRRRمقدمة:
 تبدو ظاهرة التدين لصيقة بالوجود الاجتماعي للإنسان الواعي ولذلك تطرح على كل إنسان ينتمي الى ‏جماعة يتصرف في شؤونها نظام سياسي معين، وهي ظاهرة يبحث فيها أيضا كل عاقل ومفكر وقد اهتم ‏فيلسوف الرجة كارل ماركس بالدين بشكل مباشر صريح وبطريقة ضمنية منذ بداية مشواره الفكري وبشكل ‏مبكر ولذلك شكل الدين وحده من بين كل المسائل النظرية والعملية المنطلق والمدخل إلى بقية المسائل ‏الفكرية وهو ما جعل المسألة الدينية تبرز في هذا السياق بقوة وبكثافة وتحتل قيمة نظرية وعملية على ‏صعيد منظومة ماركس المعرفية وعصره.‏
ان المعضلة الرئيسية التي يتصدى الفكر المعاصر لحلها هي المعضلة الدينية لأن صلابة الخطاب الديني ‏وشموليته تصطدم بمرونة الواقع وحدثية صيرورة التاريخ وأن أهم الصعوبات التي تواجه العقول الحرة ‏على صعيد التفكير الفلسفي في الديني هي النزول من عالم النص إلى عالم الواقع والتوفيق بين المحتوى ‏المطلق والثابت للنص الديني وبين حركة الواقع النسبية، وعندما تجعل نخبة من الاكليروس من لغة النص ‏ميدان عملها وتحرص على نقل عالم القداسة النصية وتفسيرها والتعبير عنها باستخدام اللغة العادية فان ‏الدين يصبح الحقل الرئيسي لقلب العلاقات الحقيقية بين الإنسان والله وبين الذات والموضوع ويسقط ‏الإنسان خارج الصفات التي تخص نوعه. ‏
يمكن أن نقسم آراء النقاد والمؤرخين حول علاقة ماركس بالعامل الديني إلى فريقين: الأول يصنفه ضمن ‏التيار الإلحادي اللاأدري الذي ينكر وجود الله والغيب والبعث ويحارب الدين بلا هوادة ويمثله مارسيل ‏نوتش وواكنهايم [2] وبولتزير وغيره كثير وفريق ثاني يعدل الموقف الأول ويلطف اللغة ويعتبر ماركس قد ‏تعامل مع الدين تعاملا فلسفيا تاريخيا عقلانيا وأنه يبحث باستمرار عن القاع الإنساني في التجربة الدينية ‏والإمكانيات الهائلة التي تتضمنها الأديان في أية مشروع انعتاقي تحرري ويمثله غرامشي وماوتسي تونغ ‏وروزا لكسمبور وبدرجة أقل ألتوسير وبيير بيغو. [3]

171d6f52“وحده الحاضر يوجد”
كريسيبوس
ما الزمان؟ “إذا لم يسألني عنه أحد، فإنني أعرفه، يصرّح القديس أغسطينوس؛ لكن إذا ما سُئلتُ عنه، وأردتُ أن أُفسّره، فإنني لا أعرفه أبدا”. إن الزمان بداهة و سرّ في نفس الآن: كل واحد منا يختبره؛ لكن لا أحد يستطيع أن يُمسك به، لأنه لا ينفك يمضي. ولو تَوقَّف لحظة واحدة، كل شيء سيتوقف، ولن يكون ثمة أبدا زمان. بل لن يكون ثمة أي شيء. لن تكون ثمة حركة (لأننا في حاجة للزمان إذا أردنا أن نتحرك)، ولن يكون هنالك سكون (لأنّ البقاء في سكون يستلزم الزمان). ودونما زمان لن يكون هنالك حاضر، ممّا يعني انعدام الـ“يوجد” “il y’a ” : فكيف يمكن لشيء ما أن يوجد؟ مادام الزمان، كما أوضح كانط، هو الشرط القبلي لكل الظواهر. مما يعني أنه الشرط، بنظرنا، لوجود كل الأشياء.
لكن، من جهة أخرى، كيف بوسع الزمان أن يتوقف وهو الذي يقوم عليه كل توقف؟ يعلق “ألان” عن القول المأثور التالي: “أيها الزمان كُفَّ عن المضي بعجالة”، مؤكدا على أنه رجاء شاعر“يبدو أن التناقض ينخره، حالما نتوجه إليه بالسؤال: كم من الزمان سَيَكُفُّ الزمان عن المُضي بعجالة؟”. فليس علينا إذن إلا أن نختار ما بين أمرين: فإما أن الزمان لم يتوقف إلا لوقت معين، وهو بالتالي ما يعني أنه لم يتوقف؛ وإما أنه توقف نهائيا، وبالتالي لن يكون هناك من معنى حتى لمفهومي التوقف أو النهاية. فليس هناك مِنْ توقف إلا بالقياس إلى “ما قبل”؛ وليس هناك مِنْ نهاية إلا بالقياس إلى “ما بعد”.

 471766385555 ان عنونتنا لهذا المقال بعبارة "إذا لم تستطع إسعادي، فلا تسهم في تعاستي" مرده إلى كونها تعكس فعلا، في اعتقادنا، طبيعة النقاش الذي تضمنه مؤلف كارل بوبر "المجتمع المفتوح و أعداؤه" و الذي دارت رحاه بين نزعتين اثنتين؛ نزعة تاريخانية، في سعيها نحو تحقيق السعادة للمجتمع ككل – على حساب الأفراد الذين نُظر إليهم كأدوات أو وسائل فحسب – لم تقو على أكثر من إنتاج مجتمع مغلق ولَّد التعاسة لأفراده و أقحمهم في دوامة من البؤس، و نزعة إنسانية ناضلت و لا تزال من أجل مجتمع مفتوح يحاول على الأقل، متوسلا في ذلك بهندسة اجتماعية متدرجة،  التخفيف من تعاسة الأفراد، حين لا يكون بمقدوره إسعادهم فعلا.
بناء عليه،  يعد  هذا المؤلَّف في مجمله نقدا لتلك الفلسفات الاجتماعية المسؤولة عن التحيز واسع الانتشار ضد إمكانيات الإصلاح الديمقراطي، و أكثر هذه الفلسفات قوة هي تلك التي سماها بوبر تاريخانية، كما مر معنا أعلاه.
و لأن بوبر يقيم تقابلا بين النزعة التاريخانية التي يرفضها و النزعة الإنسانية التي ينافح عنها، و جب، بادئ ذي بدء، أن نسلط الضوء بإيجاز شديد على ما يقصده بوبر بهاتين النزعتين؛ أما الأولى فهي تلك التي تزودنا بنبوءات تاريخية طويلة الأجل معتقدة أنها وضعت يدها على قوانين التاريخ التي تمكنها من التنبؤ بمسار الأحداث التاريخية، أو هي بلغة "يمنى طريف الخولي" في تصديرها لكتاب بوبر "أسطورة الإطار"، تلك النزعة التي لا يتوانى أصحابها في "الزعم بإيقاعات أو أنماط أو مراحل لابد حتما أن تحدث، الزعم بمسار محتوم للتاريخ يمكن التنبؤ به، و بالتالي قولبة المجتمع و الدولة و السياسة في إطاره". 

abstraite-ABONDANCE 844الحداثة بكل بساطة و بعيدا عن التعاريف المركبة أو التعقيدات التعريفية ،تعني ،تجاوز القديم .و القديم ، نسق مركب ، أو منظومة مركبة ، يتداخل و يتواشج فيها الثقافي، و الاجتماعي ،و السياسي و الاقتصادي و السلوكي القيمي . و ينبغي التأكيد على أن هذه المكونات أو البنيات تشكل حياة الإنسان ، بل الحياة ككل ،القائمة على الفكري الثقافي ، و الاجتماعي ، و الاقتصادي و السياسي .و بما أن الحياة سيرورة يحكمها التغير و التبدل ، فمن اللازم أن يمس و يلحق و يصيب التغيير جوهر البنيات المكونة لها .و لعله المرمى أو البعد الحقيقي الذي يناضل الفكر الحداثوي المستنير على ترسيخه على المستويين النظري و العملي ، من منطلق أن جوهر الحياة، يقوم على التغيير ، و تحكمه فلسفة الدفع نحو الأمام .و طبيعي أن تستجيب هذه  المكونات لارادة الحركة ذات الطبيعة الجبرية ، و المتجددة و المتفاعلة ، عنوان الحداثة التي تعني الجدة و التفاعل و المواكبة .وهي مقومات ثلاث،تعمل على تجاوز القديم من خلال صراع متواصل، ينجز وظيفتين اثنين ، متناقضين متلازمتين :
1- وظيفة الهدم : و المقصود بالهدم ،  تكسير المكونات التي غدت طفيليات لا قيمة لها داخل النسق، و العمل على إقصائها و الدفع بها خارج دورته ما دامت تحمل وظيفة تشويشية.

kant2222نقدّم لقرّائنا الأعزّاء المقدّمة التي وضعها الفيلسوف فتحي المسكيني لترجمته لكتاب إمانويل كانط “الدين في حدود مجرّد العقل”. صدرت هذه التّرجمة عن دار جداول للنّشر، بيروت، 2012.
إذا كان ثمّة شيء يحقّ للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السّابقين فهو إيمانه العميق بالحرية؛ بأنّه كائن حرّ لا يدين بقدرته على التّفكير بنفسه ومن ثمّ على إعطاء قيمة خلقيّة لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أيّة جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا. وذلك تقديراً منه بأنّ “ما لا يصدر عن ذات نفسه وحريّته، لن يمنحه أيّ عوض عن النّقص الذي في خُلُقيّته”.[1] في هذا السّياق تحديدا افتتح كانط تصدير الطّبعة الأولى من كتاب الدّين في حدود مجرّد العقل بالإعلان عن أطروحة مركزيّة لديه، ألا وهي أنّ “الأخلاق، من جهة ما هي مؤسّسة على مفهوم الإنسان… لا تحتاج أبدا فيما يتعلّق بذاتها إلى الدّين… بل هي مكتفية بذاتها”.[2] فما الذي دفع فيلسوف الأخلاق الأكبر إذن إلى تقديم “نظريّة فلسفيّة في الدّين”؟[3] هل توجد حاجة لا يحقّ للأخلاق أن تدّعيها لنفسها رغم اكتفائها بنفسها؟

quel spectacle 1967-1968استهلال:
" لقد ولدنا في قسوة العالم والحياة، والى هذا أضفنا قسوة الكائن البشري وقسوة المجتمع الإنساني "1[1].
ربما تكون قسوة العالم الذي نعيش فيه وخطورته متأتية من تحول ارادة الحداثة في غزو الطبيعة والرغبة في السيطرة على العالم الى الرغبة في غزو الذات والتحكم فيها وتعنيفها وتبرير استعباد الشعوب وانتهاك خصوصياتها وتدنيس رموزها والإساءة الى مقدساتها من قبل عولمة متوحشة ورأسمال منفلت من عقاله وذئبية بشرية تتصيد المصلحة وتدوس على القيم وتتاجر بعذابات الانسان. لقد أضعفت الحداثة الفكرية التي شملت مجالات الفلسفة والسياسة والفن والعلوم والمجتمع معظم الروابط التي تجمع الناس بالدين وأبعدت الكثير منهم عن الاهتمام بشؤون الايمان وقد أرست العلمنة والمذهب الانسي والعقلانية والقراءة الموضوعية والتوجهات التطورية والوضعية والإلحاد المنهجي وانتصرت الى العلم والعقل ودعت الأفراد الى تنظيم حياتهم وفق قيم التقدم والتنوير. لكن ما بعد الحداثة2[2] عادت بشكل سريع وبقوة الى تناول قضايا المقدس والرمز ومنحت فرصة كبيرة للعلوم الانسانية لدراسة الظاهرة التعبدية من زوايا متعددة وركزت بالخصوص على مفاهيم المخيال والذاكرة والوضع التاريخي والوجدان واللاشعور الجماعي والديني والإلهي والأخروي.
كما حرصت على التمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام وبين الحياة الروحية والحياة اليومية وبين الاعتقاد واللاّإعتقاد ولذلك جعلت الٍأرواح والقلوب تراوح بين الاقرار والنفي وبين الاثبات والشك وبين الايمان واللاّإيمان تاركة العقول تتأرجح بين الانزعاج والثقة وبين الحيرة والطمأنينة.