المثقفلم يَعُد مُمْكِناً ربْط هذا المفهوم بشريحَةٍ من المُتَعَلِّمين، أو العاملين في حَقْلٍ من حُقول العلم والمعرفة، دون غيرها من الشَّرائح الأخرى العاملة في إحدى هذه الحقول. ثمَّةَ من يعتبر كُلّ مُتَعَلِّمٍ، يُجيد القراءةَ والكتابةَ، ويَمْتَلِك قَدْراً من المعرفةِ، أو بَلَغَ مُسْتَوًى من التَّعَلُّم يسمح له بمُواصَلَة المعرفة والتَّعَلُّم والبحث أو الاطلاع وتوسيع مَدَارِكِه، مُثَقَّفاً، ويُدْخِلُ ضمن هذا المعنى العام والواسع، المُوَظَّفِين في مختلف القطاعات، والمُعَلِّمين والأساتذة، والعاملين في قطاع الإعلام، والأطباء والمهندسين، والتقنيين، والطلبة ممن يُتابِعون دراساتهم في الأسلاك العالية من التعليم، في مختلف الشُّعَب والتَّخَصُّصات. كما أنَّ هُناك من ضَيَّقَ المفهومَ وحَصَرهُ في فِئَة من الناس، أو نُخْبَةٍ منهُم، وهي تلك النُّخبة من المفكرين والكُتَّاب والمبدعين، التي تعمل في حقل الفكر والفن والإبداع، ممن يُنْتِجُون الرُّموزَ والدَّلالاتِ، ولم يسمح لغير هؤلاء بِحَمْل هذه الصِّفَةِ، أو ادِّعائها، تفادياً للتَّعميم، أو لِتَعْتِيم المفهوم وتَمْيِيعِه.
شخصياً، أعْتَبِرُ هذا المفهومَ، مثلَه مثل مفاهيم أخرى إشكاليةً، تَتَّسِم بالمُرُونة، بقدر ما تَتَّسِمُ بالعُسْر وصُعوبةِ الحَسْم، بين المفاهيم الأكثر قابِلِيَةً للِتَّغَيُر، وحَمْل أو تَشَرُّب المعاني الجديدة التي تَطْرأُ في مجالَيْ العِلم والمعرفة. فَقَصْرُ هذا المفهوم، وحَصْرُه، أو إغلاقُه على مَعْنًى واحد، شامِلٍ ونهائيٍّ، هو حَصْرٌ للثقافة والمُثَقَّف ومَعْيَرَتُهُما، أو وضعُهُما في قارُورةٍ لا تَسْمَحُ للنَّفس باسْتِنْشاقِ الهواءِ، بدعوَى أنَّ الشمس تَخْتَرِقُ زُجاجَها، وأنَّ هذا يكفي لتكونَ للمفهوم حياة.

وفق هذا المعنى أنظرُ إلى المثقف باعتباره مُنْتِجَ رُموز ودلالاتٍ، ومُقْتَرِحَ أفكارٍ، ومُساهِماً في مُراقَبَة ونقد ما يجري في الحياة العامة، ليس باعتباره مسؤولاً في قطاعٍ من قطاعات الدولة، أو زعيمَ حزبٍ، أو أحد العاملين في قواعده، أو «خبيراً» في الشأن السياسي. بل إنَّه صاحب فِكْر ونَظَر، ومُنْتِج مفاهيم ورموز ودلاتٍ، ملاحظاً وباحثاً ومُتأمٍّلاً، يتدخَّل في الشأن العام، ليس بنفس رؤية السياسيِّ أو التقنيّ المُخْتَصِّ في مُعالجَة الطَّواريء. فالمثقف ليس إطْفائياً، فهو لا ينتظر اشْتِعالَ الحرائِق، أو يكتفي بالنَّظر لِما تتركُه خلْفَها من رَمادٍ، إنَّه صاحِب رؤية للعالم، وصاحِبُ رؤية اسْتِشْرافيةٍ، تقوم على قراءة وتحليل للمُعطيات والأحداث والوقائع، وهو، أيضاً، صاحب حَدْس وخيال، حتى لا نقصر المفهوم على العقل، الذي هو عَطَب مَنْ اعتبروا الخيال خاصّاً بالشُّعراء والرومانسيين الحالِمِين، وهو مُنافٍ للعقل، أو هُما لا يجتمعان.

ideologieيجمع عدد كبيرمن الباحثين في العلوم الانسانية على أن مصطلح الايديولوجيا لا يتجاوز في نشأته واستخدامه المائتي عام، على اعتبار انه ظهر لأول مرة في مؤلفات المفكر الفرنسي إنطوان دي ترسي (Antoine Destutt de Tracy) في نهاية القرن الثامن عشر. لكن على الرغم من ذلك شغل المصطلح اهتمام عدد كبير من الباحثين والمفكرين في مختلف مجالات العلم والفكر، الأمر  الذي تطور بمرور الزمن مما ساعد على "تعويم" استخدام المصطلح بل التعسف أحيانا كثيرة في طرحه وتناوله، يطرح هذا المقال نقطة أساسية تتعلق بمصطلح الأيديولوجيا في نشأته الأولى من المنظورين الغربي والعربي وتلك التطورات، أو لنقل نقاط التحول أو التحوير التي مر بها المصطلح.

يعود الفضل في نشأة واستخدام مصطلح الأيديولوجيا الى المفكر الفرنسي إنطوان دي ترسي وذلك في نهاية القرن الثامن عشر (1797) ودي ترسي كان يقصد به علم الأفكار Science of ideasذلك المنهج الجديد الذي يمكن من خلاله التوصل الى الحقيقة اعتمادا على التفكير والتحليل وبالتالي القضاء على الأوهام والمبررات الميتافيزيقية في تفسير الظواهر. ويبدو واضحا أن هذا الفيلسوف الفرنسي عندما بدأ في تأسيس علم الأفكار/الأيديولوجيا التزم بالمعنى اللغوي المقابل للمصطلح وضمنه نظاما متكاملا من الخطوات المنهجية يتم الاعتماد عليها في الوصول الى الحقيقة "الكلية" مستبعدا كل التبريرات التي يصنعها البشر أنفسهم فيستغنون بما يملكون من تفسيرات جاهزة للظواهر عن دراستها وفحصها بشكل متعمق يصل الى اجابات جديدة وأسئلة أخرى.

haydaralisalama- مفهوم الأيديولوجيا :من نظرية الأنعكاس المادية إلى نظرية الايديولوجيا بوصفها خطاب لساني لغوي
كان لسيطرة النظريات الحتمية كالمادوية والأقتصادوية في الماركسية التقليدية، بشكل تكاملي على مجمل مفاصل "انطولوجيا الحياة الأجتماعية للوعي والفرد". الاثر الكبير على انكفاء تلك الأنطولوجيا على بنيتها وانفصالها عما يوجد في عالم البنية الفوقية. لذا، لا نجد أي "اثر تواصلي واتصالي وتفاعلي" بينهما، سواء كان يمثل ذلك قنوات لغوية او نظام علامات لسانية او حتى سياق ثقافي. فيغدو هنا، "تشكيل الوعي" منفصلا ومستقلا تماما عن أي نظام "سيميو-ايديولوجي-لغوي/الايديولوجيا=العلامة (signe)/والعلامة=الايديولوجيا" - بحسب كل من: باختين وفولوشينوف -. فوفقا "لنظرية الأنعكاس المادية": ((.. ((الذهن)) أو ((العقل)) البشري ليس مستقلا عن الظروف الموضوعية التي تفرض نفسها عليه ودون أن يدري منها شيئا. ليست ارادة الناس هي التي تحدد بصورة اعتباطية العلاقات الأجتماعية، بل أن وعي الناس يحدده واقع المجتمع المادي الذي هم اعضاء فيه، وهذا المجتمع ليس نتيجة لا شيء، أنه مجموعة العلاقات التي تكونت لتؤمن للناس نضالا ينتصر على الطبيعة، وهي علاقات يحددها بالضرورة مستوى قوى الأنتاج التي يملكها الناس. وافكار الناس الأجتماعية هي انعكاس لهذا المجموع المعقد....ان حياة المجتمع المادية هي واقع موضوعي يستقل في وجوده عن ارادة الأنسان، بينما حياة المجتمع الفوقية او الفكرية هي انعكاس لهذا الواقع الموضوعي))(14).

espace-sature-4“الويل للمفكر الذي بدل أن يغدو بستاني نباتاته، بقي مجرد تربة لها” نتشه
لعل ما يشهده حقلنا الفكري والفلسفي اليوم، من حركة غريبة في مجال النشر، تتمثل في صدور سلسلة من الكتب، بين الفينة والأخرى، بعناوين تلفت النظر من قبيل :“فقه الفلسفة” أو “بلاغة الفلسفة”؛ هو ما اضطرنا إلى استعادة سؤال التفلسف وما تكونه الفلسفة؟ بل وما جدوى الفلسفة ؟إذ، كيف يمكننا، والحالة هاته أن نقبل بكل ارتياح المزاوجة مابين الفلسفة و الفقه حينا،و البلاغة أحيانا أخرى؟ وهل يمكن للفلسفة أن تضحى فقها وأن تكون بلاغة؟ هل بوسع الفكر أن ينقلب إلى خطاب محض لغوي، يتأرجح ما بين الفقه والبلاغة دونما صلة بالواقع، ولا بالعالم المحسوس الذي هو منبث المفاهيم الفلسفية ؟وهل بوسع المفاهيم أن تمكث في غياهب المجرد وتندرج في ثنايا القواميس اللغوية المثالية، أم أنها بالأحرى ذات علاقة وطيدة بالواقع و لها صلة متينة بالفيلسوف وإكراهات معيشه؟ صحيح“ أن الفلسفة هي فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم”(1) لكن المفاهيم مشروطة بعالم محسوس وتفترض لغة واقعية وعالما ممكنا يمنحها الصلابة و قوة التحقق .
من ثمة يستعصي بنظرنا الربط ما بين الفلسفة والفقه أو البلاغة لا لشيء إلا لأن منطق الفقه و البلاغة منطق أبعد مايكون عن منطق الفلسفة . ذلك أن الفلسفة كما أكد كبار الفلاسفة إبداع و خلق للمفاهيم التي هي منغرسة في التاريخ أما الفقه أو البلاغة فمجرد صراعات بزنطية لا صلة لها بالإبداع و لا علاقة لها بالفن، أكثر مما لها صلة بالأحكام الشرعية و مقتضيات الأمر و النهي.

haydaralisalamaتمثل عملية الكتابة عن أستاذنا الكبير الراحل الدكتور حسام الآلوسي، مغامرة كبيرة في حد ذاتها، أن لم تكن مجازفة فلسفية. ربما يعود ذلك إلى طبيعة التحولات الحاصلة في فلسفته عامة، وخطابه المادي التاريخي خاصة. فعلى مدار تاريخه الفلسفي والمهني والجامعي، لم يحدث وان فصل أ. الآلوسي بين انشغالاته الثقافية الموزعة بين متابعة ونقد المشاريع الموسوعية الكبرى في الفكر العربي سواء كانت في اتجاهاتها الماركسية او في تمثلاتها الفلسفية الأخرى، وبين عمله كأستاذ للفلسفة ومناهجها، التي طالما عمل على الأرتقاء بها وإعادة تأسيسها بما ينسجم والتعليم الفلسفي النقدي الذي يضمن اكبر مساحة ممكنة من الإبداع الفلسفي الحر لمتلقي الدرس الفلسفي. ولهذا، تميزت عملية تدريس النص الفلسفي عند استاذنا الآلوسي، بالانفتاح الأنساني والأخلاقي والأبداعي، بطريقة قلما شهدنا لها مثيلا في تاريخ خطابنا الفلسفي.
لهذا، ينبغي علينا، كباحثين مختصين في الخطاب الفلسفي وإشكالاته الثقافية/والتاريخية، أن لا نتوقف عند "منطق النحيب وفلسفة التأبين" لفيلسوفنا الراحل، واستذكار تاريخ علاقاته المهنية مع تلاميذه ومحبيه ومريديه فحسب. لان الآلوسي كان ولا يزال، اسمى واكبر من جميع تلك "التكاليف الشكلية"، التي اُسقِطت عنه، انطلاقا من مبدأ "أن تكريم فلاسفتنا لا يكمن في منطق الذكر الملهوت"، وانما يقع ضمن منطق نقد منجزهم الفلسفي الكبير والمتشعب وإعادة قراءته وتأويله من جديد. فهذا ما سيمنحهم اكسير البقاء والأستمرار في العطاء الفلسفي حتى بعد رحيلهم عنا.

مارتن هايدغر أسئلة وأجوبة حول السياسة والفلسفة والتاريخنشر هذا الحوار في المجلة الألمانية الأسبوعية »دير شبيغل« بتاريخ 31 آيار/مايو 1976 بعد أيام قليلة من وفاة مارتن هايدغر ونشرت المجلة التوضيح التالي: أرسل هايدغر في آذار/ مارس 1966 رسالة إلى المجلة يردّ فيها على الذين يتّهمونه بأنه كان على صلة بالنازيّة أثناء فترة صعودها. وكانت هذه الرسالة إشارة إلى أنه كان مستعدّا للإجابة على الأسئلة المتعلقة بهذه القضية. وفي شهر أيلول/سبتمبر 1966 تمكن رودولف اغستاين وغيورغ فولف من التحاور مع هايدغر. وقد أوصى هايدغر بعدم نشر الحوار إلا عقب وفاته قائلا:"المسألة لا تتعلق بكبرياء أو عناد وإنما بعملي هذا الذي أصبح مع السنين أسهل، ويعني في المجال الفكري أنه أصبح أكثر صعوبة". ويعتبر هذا الحوار الوحيد من نوعه الذي خصّصه هايدغر للصحافة.

شبيغل: أستاذ هايدغر، لقد لاحظنا دائما أن هناك شيئا ما أثر تأثيرا سلبيّا على أعمالك الفلسفية بسبب أحداث عشتها. ورغم أن هذه الأحداث لم تدم طويلا غير أنها لم توضح بما فيه الكفاية.

هايدغر: تقصدون أحداث 1933.

شبيغل: نعم قبل 1933 وبعدها. نحن نريد أن نضع هذه الأحداث في إطار أكثر شمولا ومنها ننطلق إلى أسئلة تلوح أكثر أهميّة. مثلا: ماهي إمكانيّات الفلسفة للتأثير على الواقع بما في ذلك الواقع السياسي؟

هايدغر: إنها أسئلة هامّة، ولست أدري هل أستطيع الإجابة عليها كلها. وقبل كل شيء لابد أن أقول أنه لم يكن لي أي نشاط سياسي قبل تعييني رئيسا للجامعة. وخلال شتاء 1932 وشتاء 1933 كنت في عطلة وأغلب أوقاتي كنت أقضيها في منزلي الريفي.

Circulation-rose" كيف أمكن غلق باب الإسلام في وجه البشرية جمعاء وعزل المسلم في بلاده وهو يتخبط في الجهالة واقصاؤه عن كل حركة تقدمية وحضارية" [1]
لقد امتد مشكل تردي العقلانية العربية من القديم إلى الراهن وبرز بين أبو حامد الغزالي الداعي إلى كسر زجاجة التقليد ومؤلف كتاب الإحياء [2] إلى محمد بنيس صاحب كتاب الحداثة المعطوبة [3] والفوات الحضاري.
إذا بحث العرب عن العقلانية ترددوا بين القول بوجود عقل واحد أو عقول في الجمع واختلفوا حول أن يكون جوهر العقل دينيا أم فلسفيا وتباينوا حول هوية العقل هل بنية عربية أم بنية مسلمة وتصارعوا حول تكوين العقل ضمن نظام علم الكلام أم علم الفقه وافترقوا بين التصوف واللغة وانقسموا إلى رأي وحديث.
العقلانية عند العرب لا تعني حسن استخدام المنطق البرهاني وتفسير حدوث الظواهر الطبيعية بالأسباب وجعل نسق المعرفة العلمية موافقا لمسارات التجربة بل تتطلب العقلانية العميقة التطرق إلى الميثاق التاريخي بالتوسع والانتشار وتبليغ الرسالة الحضارية إلى العالم والشعور بوحدة الأمة وضرورة العودة إلى القوى المحركة للتاريخ ومصالح القوى والجماعات وتوظيف التفاعل بين الرموز السياسية والدينية.

من المعلوم أن العقل عندنا لا يرتبط بنظام الكون ولا يهتم بترتيب المجتمع ولا يتجه نحو التفكير والفهم وليس دوره تجنب الوقوع في الزلل والغفلة وإنما يتعلق دوما بالأحوال الوجدانية للذات وتحكمه نظرة معيارية للأشياء مشدودة إلى التمييز بين الخير والشر وأقرب إلى العاطفة والفؤاد والقلب وإعمال الخاطر.

art-abstrait-3D"فما زال التأويل هو أصعب جوانب فني بكل تأكيد. وإنني لأرى في نفسي القدرة على أن أتحدث عن هوميروس أفضل من أي شخص آخر."[1]
ارتبط اسم الهرمينوطيقا بهرمس رسول الآلهة أولمب في الميثولوجيا الإغريقية الذي ذكر أنه ينقل الرسائل من زيوس كبير الآلهة وينزل بها من العالم السماء إلى مستوى البشر في الأرض فكان بالتالي خير وسيط بين عالم السر الغيبي وعالم العلن المرئي ولكنها ارتبطت أيضا بالتفسيرات الهيمورية (نسبة إلى الشاعر هوميروس) وكتابي العبارة وفن الشعر لأرسطو ، ولكن محاورة أيون لأفلاطون هي أيضا من الينابيع الصافية التي نهل منها مؤسسي هذا الاختصاص النبيل الذي سمي منهج تفسير النصوص الدينية أو نظرية في التأويل أو فن في الفهم.

ربما من فضائل محاورة أيون الأفلاطونية- المشكوك في صحة نسبتها إليه- أنها أرست التقاليد الأولى السؤال الهرمينوطيقي حول الجدارة والصناعة بالنسبة إلى الراوي وطرحت الأدوار التي يلعبها المؤلف والقارئ وسلطة النص والسياق الاجتماعي الذي تشكل فيه وبحثت في قضايا المعنى والحقيقة والطبيعة والقيمة والإنسان وما يضطلع به من مسؤولية في الحياة. ولعل أهم إشكال مطروح منذ البداية في هذه المحاورة هو: ما علاقة تصور أفلاطون للهرمينوطيقا في محاورة أيون بتصوره للغة ولطبيعة العلاقة بين الكلمات والأشياء في محاورة الكراتيل؟ وهل أن الخطاب الهرمينوتيقي يقتصر على مجال اختصاص معين دون آخر أم أنه خطاب كوني يتناول جميع التجارب الحياتية وكل الحقول المعرفية دون استثناء؟ بأي معنى نتحدث عن كونية الخطاب الهرمينوطيقي؟ وهل يمكن للهرمينوطيقي أن يرتقي إلى مرتبة الفيلسوف؟ بأي معنى نسند حرفة الفهم والتأويل إلى الشعراء في حين أن أفلاطون أطردهم من المدينة في محاورة الجمهورية لابتعادهم عن الحقيقة واتقانهم فن الكذب والخداع؟

haydaralisalamaفي واقع الأمر إن ذلك المنهج الدراسي "المصنِف"، يطرح علينا مجموعة من الإشكالات الفلسفية والنظرية والابستمولوجية والتاريخية. فلا يمكن النظر إليه على انه منشور تعليمي منهجي فقط، بل لابد من أن نتعامل معه، بوصفه "نصا يختصر تاريخ التناص التعليمي والمنهجي المتبع في أقسامنا الفلسفية"، والذي من خلاله تم تشكيل ووضع مناهج ودروس وجداول وبرامج التعليم الفلسفي المُعتمدة في تدريس مقررات المواد الفلسفية لطلبة أقسام الدراسات الفلسفية في جامعاتنا. فالمتتبع لطبيعة أسلوب كتابة "المصنف أعلاه"، سيجد انه يكاد لا يختلف عن اساليب تلقين المواد الفلسفية وتاريخها في مؤسساتنا الأكاديمية. فمنذ كنا طلابا في قسم الفلسفة، كانت الرؤى الفلسفية في محاضراتنا لا تكاد تختلف في شيء عن تصنيفات المنهج الدراسي المذكور، لاسيما فيما يتعلق "بخصائص الفكر الفلسفي" المتسمة بالعقلانية والموضوعية والاستقلالية عن العامة ووجودهم اليومي. فمثل تلك النظرة هي ليست وليدة اليوم -كما ذكرنا سابقا- بل لها تاريخ طويل من "التناص الأيديولوجي واللاتاريخي"، خاصة فيما يتعلق بترشيح مصنفات فلسفية معينة دون أخرى، أصبحت من قدماء الفلسفة المتربعين على تاريخ تدويل وتدريس الفلسفة. فعلى سبيل المثال، اعتمد قسم الفلسفة على المؤلفات التالية: (تاريخ الفلسفة اليونانية) و (تاريخ الفلسفة الوسيطة) و(تاريخ الفلسفة الحديثة) - وهي مؤلفات تعود للفيلسوف الأرسطي الكبير الأستاذ الراحل يوسف كرم- وجرى تداولها كمناهج تدريسية رسمية غير قابلة للتحاور والحجاج في الدرس الفلسفي، لان "سياسة التلقين والتلخيص من قبل أساتذة الفلسفة لما هو مُقرَر"، كانت أشبه بالمنهج التدريسي المعتمد، الذي لا يحتاج إلى كبير عناء لفهم الفلسفة وتاريخها، فما عليك إلا ان "تحفظ تلك المواد عن ظهر قلب حتى يحين موعد إيداعها في موعد الامتحان المحدد"، لتكتشف فجأة، انك أصبحت فيلسوفا على الطريقة التلقينيةّ!

haydaralisalamaتُعد مسألة سيطرة وسيادة الأنماط التقليدية في فلسفة المعرفة وأشكالها البلاغية في خطابنا الفلسفي العراقي**، واحدة من كبرى الإشكاليات المهمة التي لازالت تلعب أدواراً مختلفة في صناعة "النص الفلسفي التقليدي"، ذلك النص الذي اتسم بغياب البعد الإشكالي والنقد الابستمولوجي لتاريخية مجمل أنساقه الفلسفية السابقة، بوصفها تشكيلات أيديولوجية عملت على تكريس ممارسات أكاديمية إرتكاسية/نمطية في كتابة النص الفلسفي؛ واختيار ثيماته الفلسفية، بل وحتى في فهرسة وتداول ذلك النص. وعند تتبعنا لطبيعة تحولات النص الفلسفي منذ لحظة انبثاقه الأولى، المتمثلة في جيل الرواد المهندسين لذلك لنظام المعرفي ولنظرياته الفلسفية، سنجد أن اغلب الاجيال المتعاقبة على تلك التصورات بقيت منشغلة في نفس القضايا التقليدية للفلسفة، كقضية المعرفة التجريبية؛ والمعرفة المثالية؛ وتواريخ الفكر الفلسفي في شقيه الاسلامي والغربي. واللافت في الأمر اننا وإلى يومنا هذا نجد أن طرق ومناهج تناول "نظرية المعرفة" الفلسفية لم تتعرض إلى التغيير والنقد والتحويل، وكأنها نظرية مستقلة عن بقية الخطابات الثقافية؛ والسايكولوجية واللغوية. ومن المفارقات الأخرى والكبرى في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، انه تعامل مع نظرية المعرفة بطريقة "ارثوذكسية/ماقبل النقد الابستمولوجي"، بمعنى أن جيل الرواد ومنذ لحظة تدشينه للنص الفلسفي، عمل على استبعاد هذا النص من الثورات الحاصلة في مناهج العلوم الإنسانية وخطاباتها المختلفة، فلا يمكننا أن نجد مثلا، قراءات نقدية وتحليلية لنظرية المعرفة من خلال اعتماد احدث نظريات الفسيولوجيا؛ والسايكولوجيا؛ والتحليل النفسي؛ والدراسات الثقافية وتحليل الخطاب ونظريات الثقافة والمادية الثقافية...الخ، بل على العكس من ذلك، نلحظ وجود حالة من الاهمال الأيديولوجي في تحقيق أي "تواصل ابستمولوجي" بين نظرية المعرفة وعلوم اجتماع المعرفة التاريخية.

haydaralisalama- جدل المنطق التقليدي وفلسفة المنطق : بين سيطرة بلاغة البرهان ونسيان بلاغة الحجاج
بات من الصعب اليوم، قراءة الخطاب الفلسفي الراهن، دون الأخذ بالاعتبار "مركزية المنطق" ضمن خرائط ذلك الخطاب، لما لعلم المنطق من أهمية ابستمولوجية ولغوية في تشكيل "القول الفلسفي"، وتحديد مسارات خطابه، وطرق إنشاء الدرس الفلسفي وصناعة الأسلوب التعليمي المتبع في تأسيس مناهج النص الفلسفي وطرق كتابته. وهنا ينبغي علينا التوقف لمساءلة ذلك المنطق المعتمَد والمتداول في خطابنا الفلسفي. فهل تأسس خطابنا المنطقي على تقاليد وأصول  البلاغة الجديدة والتي دشنها الفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان في عام 1958 والمستندة على الحجاج البلاغي (argumentation rhétorique)** الذي لا يُغيّب المتلقي أو ما يُعرف بـ"بلاغة المخاطَب" -حسب تعبير الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف-، ام شُيد على أسس البرهان البلاغي (démonstration rhétorique) حيث تتم مصادرة الآخر/المتلقي في بنية الدرس الفلسفي من جهة، وفي بنية الحياة الثقافية اليومية من جهة أخرى؟

يأخذنا الاستفهام أعلاه إلى وقفة أكثر استفهامية ونقدية لبنية الدرس الفلسفي نفسها، التي تمأسست على طرق بيداغوجية وتقليدية في صناعة برامج التدريس الفلسفي. والملاحظ على طبيعة تلك المناهج، اعتمادها على "سياسة التلقين"، التي همشّت "سؤال الفلسفة"، الذي ينقلنا :(( من التعليم الإخباري إلى "التعليم ألبرهاني ألحجاجي"))(1). وهذا بطبيعة الحال سوف يسلط الضوء على العلاقة الديالكتيكية أو الجدلية بين كل من: الأستاذ والطالب والنص الفلسفي؛ والسؤال عن طبيعة هذه العلاقة وتاريخها التعليمي وأطرها المنهجية المعتمدة في إيصال أو نقل المعلومات الفلسفية إلى ذهن المتلقي أي الطالب.