khdiri.jpgكما تختبئ القطرة في الغمام، تختبئ في محياه تلك النية الدالة على الظفر والوصول إلى ما لم يصل إليه أحد غيره. أي كيد إبليسي ساعده على اختراع تلك الوسيلة الخادشة لكل ترسانات القيم؟!
كان قد انزوى في ورشته ردحا من الزمن محدودبا على منظاره، تتكدس أمامه نظارات مختلفة الأحجام وقارورات كيميائية متعددة الألوان. لم يخرج من محارته التي تشرنق فيها إلا عندما توصل إلى مراده. باستطاعته الآن أن يعري أي واحد مهما كان، من علية القوم أو أسافلهم، ذكورهم وإناثهم. ندت عنه ضحكة أشبه بالمواء ثم قال بوعيد:
- عوراتكم في مهب الريح، ومفاتن نسائكم مستباحة ممددة أمام مرأى عيني في أدق تفاصيلها، لن ينفع معها دثار أو لباس مهما غلظ وتفضفض.

anfasse.orgأفرك عيني وأنا أحث جسدي المنهك على النهوض فتؤلمني ويعاندني النشاط. أستسلم للحظات سكون لعلني أتحرك ، فتتحرك ذاكرتي وتنشط ، هو ذلك الفيلم بالتأكيد الذي تسمرت من أجله أمام الشاشة ليلة أمس ، أثار عواطفي ، إنسانيتي، دموعي، والذي حصد سبع جوائز سيزار .
ليس بيني وبين(سيرافين )وجه شبه لا شكلا، لا مضمونا او حياة، تلك الخادمة - التي جرفها عشق مزج  الألوان وريشة أنامل إبداع  تزهر، لتتجسد على أقمشة خام في وحدة قاتلة،جوع ، برد،عزلة ،شهرة مؤقتة- قادتها الى الجنون، لكننا نتشابه في ذات العشق (الرسم)هي أتقنته،وأنا توقفت عند حدود التذوق لهذا الفن الراقي والبديع،لأتقن فنون الحياة الارستقراطية – الصورية - بأن أجيد كل شيء ولا أجيد شيئا ..!
 ميولي منذ الصغر اتجهت نحو الفن بكل أنواعه ، حلمتُ أن أكون راقصة بالية ، مطربة ذات
صوت مخملي، ممثلة على خشبة مسرح ، مذيعة ،رسامة ، عارضة أزياء ، سياسية بارزة تناكف الحكومات، كابتن طائرة ، أو حتى مضيفة ، المهم ان أكون فوق السحاب مكانة و شهرة ..!
 ولم أكن لأجد معارضة من أهل أو مجتمع، لكن أحلامي أخذت منحنى آخر، فبت أقف في طابور المتفرجين أمتع نظري وأغذي روحي بكل مدهش من تلك الفنون .
أنهض متثاقلة فيومي حافل،لا مجال لاستعادة الذكريات والأمآل التي تبددت مع الايام ،والواقعية هي ما يعايشني ويلتصق بي رغم خروجي عن المسار وتمردي  في كثير من الاحيان .

anfasse.orgخرج "طارق" كعادته في الصباح الباكر يستنشق أولى نسائم نهار ربيعي جديد ، حاملا عدته التي هي عبارة عن  أدوات صنعها كما اتفق داخله على فكرة قولبة وجوده حسبما اعتاد الناس جميعا أن يروه، يلمع الأحذية أ "سيرور" بالمعنى المغربي الدارج ،وكثيرا ما كان محط عطف أو سخط أو إعجاب أو حقد دفين ، خلاصة القول أنه كان وعاء للإفرازات النفسية البشرية في مدينة أهلها " كثيرو الكلام قليلو النفع" كما كان يردد على الدوام
 
لكنه رغم  كل ذلك  لم يفكر يوما  في تغيير عمله لأن وجدانه ارتبط  بتلك المهنة ولا يستطيع مهما حصل أن يفكر في العودة إلى قريته البئيسة.  خصوصا وأن الشغل أضحى في أيامنا عملة نادرة ،ومثل تلك المهن التي يشغلها أمثال طارق رغم أنها تثير بعض الإشمئزاز في النفوس فإنها تذر على صاحبها ما يجعله يتحمل نظرات الاخرين وعجرفة بعض الزبناء .ورغم الإحباط الوجودي الذي يداهمه أحيانا  فقد أمضى أياما  روتينية طويلة  حتى أنه تعود على كل ما تم ذكره من الإستيقاظ صباحا والتعامل مع أمزجة متقلبة على الدوام..لكن في ذلك الصباح بالضبط  لم يدر في خلد صديقنا أن انقلابا سيطرأ على مجرى عيشه ..بل إنه كان على موعد اخر مع الحياة..

anfasse.orgفتحت الباب بشعري الأشعت و أنا أتذمر..من جاء يقتحم علي خلوتي في هذه الساعة؟.. فوجدتها، و تلك الابتسامة المنحوتة دوما على محياها، ابتسامة لازالت مركونة في رفوف ذاكرتي..
صاحت بوجهي:"أأنتظر ساعة لتفتحي، أواقفة أنا على عتبة قصرملكي؟"
كان أسلوبها الهجومي المضحك مستفزا للمشاعر، فلا تحس إلا و أنت تدخل معها في لعبتها التي تنتهي دوما بنوبات من الضحك المجنون..
فتحت الباب و لم أعتقد للحظة أنها ستكون آخر ضحكة تتشربها مسامعي و أنه لقاؤنا الأخير..فقد كانت في هذه الحياة مجرد عابر سبيل...
اشتاقت إلي و جاءت لتروي ظمأ شوقها..أمضينا الليلة كلها نتسامر و نتضاحك و نتبادل الأسرار و آخر الأخبار كما هي عادتنا كلما التقينا..لم تشإ النوم..و كأنها أرادت أن تنحت ذكراها في أعماقي..

anfasse.orgتلاقت العيون في زحمة العبور نظرات خاطفة اختزلت ملايين السنوات الضوئية من الانتظار ولوعة الأشواق, مند الوهلة الأولى بدا له بريق ثائر في عينيها وهكذا كان ....                           
كانت كغجرية تعزف نشيدا قوميا بالحان عذبة وزغاريد العذارى تزفها ليلة يخجل القمر من مداراة ابتسامتها الملائكية .............. بطلا كان شامخا, أسطوريا كجبل ظل راسخ مرَ العصور رمزا للعزة و الكبرياء, يحفها براحتيه الدافئتين...
 سعادة لا يوازيها سوى أفراح أعياد الميلاد تلك التي تذكرنا بأن طبيعة وجودنا عنوانها الحب, عقيدتها التضحية و سرها لغة العيون....طبيعة سقائها قبلة في الجبين أو عناق حار يحيل أي كائن حي على انبعاث جديد...طبيعة فصلها ربيع, ربيع مزهر كأشجار ألليلك....  

anfasse.orgيوقظني صراخ الجيران من قيلولتي ، أقوم ساخطا أوزع الشتائم ذات اليمين والشمال .. أتوجه إلى الحمام ، أغسل وجهي ، الجو حار جدا والزقاق فارغ إلا من صراخ جاري وزوجته .. لقد احترفا معا إفساد قيلولتي ، مر يومان وهما على هذه الحال ، صراخ وشجار في وقت القيلولة بالضبط .. ولكن يبدو أن اليوم أقسى من اليومين السابقين فلهجتهما أشد عنفا وقسوة ، الزقاق فارغ إلا من بعض الرؤوس المتلصصة من النوافذ و من خلف الأبواب تتابع أطوار المباراة الكلامية بين الزوج وزوجته ، أنزل درجات البيت وأتوجه إلى باب جاري وأنا أبحث عن الكلمات المناسبة ولكنها تتبعثر حالما يفتح بابه ، وجهه أحمر قان وعروق عنقه بارزة ، لاشك أنها تكاد تنفجر من شدة الصراخ:
               ـ لعنوا الشيطان أسي محمد ، راه حشومة هادشي ، راكم ماباقيينش صغار
              ـ أسيدي الشيطان الله يلعنو ويخزيه ، ولكن هاد لوليا غادي تخرج لي عقلي

anfasse.orgألفت وجوههم حتى بدت لي بالرغم من بشاعتها مألوفة، تعودت على رماح نظراتهم تخترق جلدي و كلماتهم تخدش آذاني و أنا أحتمي خلف أسوار نظارتي السوداء و أنظر إليهم فيقشعر بدني عند رؤية وجوه مختومة بطابع الشقاء.
كان موعدهم الصباحي مع ذلك المكان "الموقف " كما الصقور على قمم الجبال، عيونهم جاحظة لا حياة فيها كرسوم للشقاء معلقة على جدار الحياة، نظراتهم متربصة بفريسة مرتقبة، حتى إذا لاحت انقضوا عليها كما الذئاب الجائعة دون رحمة أو شفقة فتفر بجلدها تحملها رياح الخوف بعيدا لتترك خلفها معارك حامية من الكلمات الساقطة و أحيانا اشتباكات بالأيدي و لكمات.
تراهم تارة مجتمعين و أخرى متفرقين، شباب فقدت ملامحهم بهجة الحياة و شيوخ انهكتهم نوائب الدهر و رسمت أخاديدها العميقة على وجوههم...إنها معركتهم اليومية من أجل البقاء..بقاء للأقوى بل للأسرع..

anfasse.orgرأت الكوخَ بهيمةً، وهو يغطسُ في ليلِ السواد، طيلة ليلةٍ دوّخها فيها الشخير، وفراشاتٌ سوداءُ ظلَّت ترّفُ لعينيها، وتشهقُ لها يائسة.
ولمّا الفجرُ تنفس؛ ارتفعتْ، ثمّ استقامت على ساقين مثل بوصتين، فثقل الرأسُ؛ وانطلق طاحونةً تجرشُ نارا.
عيونُ الصغار تفتحتْ، فخالتِ الرضيعةَ من لفافتها قد قفزت، فضربتْ بلا وعيٍ ثدييها، ولقد قال عقلها: جفَّ الكيسان.
وانحدر الدمعُ الساخنُ، وجلدُ الخدينِ الناشفُ اشتعل.
وعوت طائرةٌ في السماء، فأصغت؛ حتى صار العواءُ أنينا، ثمَّ انتحر، لكنَّها اهتزت فجأةً في زمجرةٍ، وفوقها الصفيحُ اهتاج، والأرضُ مادت، وبدايات النور المتسللة بكتْ!
وقفتْ في عتم الليلِ مثل شبح، حتى رأتْ فمَ الصغيرةِ قد عاد خاتما انغلق، فشرعت ترتدي ثوبَها، وحلقُ زوجها كان لم يزل يصفرُ معربدا، ورأتْ سطحَ الصفيحِ يفتلُ موجاتِ الشخير، ويلقي بها على الحيطان، فتلتفُّ؛ لتسقطَ  حشرجةً عائدة، ثمَّ تتقطعُ على حفرةِ الفمِ المزمجرة!

مفضلات الشهر من القصص القصيرة