ABSTRAIT16لم يعد يَحتمل كل تلك الآلام التي تعتصر معدته وتُقطّع أحشاءه. تكوّم على نفسه أكثر من ذي قبل وراح يترنح في مشيته. صمم أن يقتحم الضيعة الزراعية ويطرق باب الفيلا، فليقع ما يقع..
تحلّقت حوله مجموعة من الكلاب عاوية تريد الفتك به. صدتهم المرأة الشقراء البدينة من الشرفة التي تُطلُّ منها، ووجهت كلامها للغريب بنبرة مريبة:
- ماذا تريد؟
رنا إليها وهو لا يزال محدودبا بوجه فاقع اللون. أشار إلى بطنه علامة إحساسه بالألم. تسمّرت المرأة في مكانها مدة خُيلتْ إليه أنها سرمدية، محدقة فيه تتأمل انحناءاته وتوجعاته، وتسْلقه بعينيها، وتتملاه كما يتملّى فنان جسدا مسجى أمامه يتوخى رسمه.
كان في أشد الأوقات ضيقا وعنتا. ضيق لم يعرفه حتى أثناء مصارعته للموج مدة يومين على ظهر قارب صغير يتلاعب به موج البحر. وجد نفسه متلفعا بحناديس ليل يركب بحرا لا أمان له، مخلفا وراءه ألامه وأماله. كان لابد له أن يركبه، لم يتبق له خيار آخر غيره بعد أن هدّته الانتكاسات والارتكاسات وتآكلت مؤخرته على كراسي المقاهي. فما أقسى أن تلفظك الأرصفة، وتكون لك مدارج ومعارج في البطالة والصعلكة. أخيرا عقد العزم على المخاطرة، وفي المخاطرة كما يقول النفري جزء من النجاة..

abstrait15عند المغيب تصاعد الضباب فوق قمر الطرقات، و"زهرة عباد الشمس" تجالس "ربيع" عند الاحراش، يعتصرهما برد الشتاء تحت شجرة الحور، يخبآن تيه الحكاية... وتيه الغناء، تبرق عيناهما بردا كقناطر حين تختمر بها المسافات... أسدل الليل جفونه وهو يمطر السهر باللفتات الخجولة... وخطواتهم نحو المدى... بلا منازل.
كانا يسيران، كالعصافير الشاردة تحت المطر... يلوح لهما من بعيد الخوف والصدى لمواويل ليال شتائية حبلى بالرماد...
أيلول، طفل وحشي، يولول قصتهما الغريبة في التقبيل بين الازقة..النوافذ.. سطوح بيوت الصيف العارية ... يروي قصة تعثرهما بعبور السواقي والنوم فوق الندى..
عيناهما الخجلتان من رسم الندى، من صيحات الماضي، تقطرت بين ارصفة القرية الحجرية، وبرد ايلول الحزين ينفخ العيون حنينا... فيتكأن العزلة، وهما يفترقان طرقات الحنين، وهي تندي بأقدامهم ليال السهر، النوافد، الاغاني، وذكريات الدروب العتيقة...

abstrait13رنا ببصره إلى  الثريا..بدت مصابيحها جذلى وهي تتراقص فوق رأسه..اللعنة..حتى هذي الشرارات الغبية تتنفس الصعداء لفراقه ! ..لو أن به بقية من جهد لقذفها بعكازه ..لكن..!
لغط الأقارب من حوله لم يخف منذ الصبيحة..علا صياحهم وهم يُحصون أملاكه للمرة العاشرة..هذا العجوز الوغد لم يُطلع أحدا على حجم ثروته..ضربت الحفيدة بكلتا يديها على الطاولة ..إنها مصرة على الاستئثار بمتجر العطور..فلا دراية لها بتدبير شؤون المعامل أو حظائر الماعز !
لمح في عينيها جشعا غريبا لم يعهده من قبل..كانت الاثيرة لديه  دون سائر أحفاده ..لم يبخل عليها بمصاريف الجامعة و تذاكر السفر الموسمية ..آثر البقاء إلى جانبها حتى تمر محنة الإدمان بسلام ! ..أجبر الوغد الذي تسلى بعواطفها على تقبيل قدميها وطلب الصفح ..قبل أن يشيع خبر انتحاره ! .. يا للجحود !

abstrait12إني اراهم هناك ..على تلة هادئة..يعفرون وجه السماء بغبار قطعانهم ..يمدحون الله بموال ..مشدود إلى أوتار القلب ..يصفرون..يغنون ..يركضون خلف الحِملان الوجلة ..يمتليء الوادي ثغاء ..وحين يتعبون ..ينتقون من قعر الوادي حجارة ملساء..يصُفونها ..ويوقدون عليها النار ..حين تتقد الحجارة يطهون عليها خبزهم..ويُعدون شايهم ..ينتشون بما جادت عليهم به ..يد الإله الحانية .. يتمددون ..يتقلبون كأنما التل فر اش اثير..تبرك الشياه حولهم .. يهدأ كل شيء ..
إني اراهم هناك..بعد أن مالت الشمس إلى المغيب ..يتلاومون ..يركلون أشياءهم غيظا ..القطعان تفرقت ايادي سبأ..يممت كل شاة إلى حيث الكلأ الوفير .. ركضوا بجنون في كل اتجاه.. يلملمون شعث القطيع .. صفير و صياح وثغاء يُحيل المدى سمفونية صاخبة .. تجمعت الشويهات بعد إنهاك و غضب ..جدت المسير صوب القرية ..كتائب من الصوف الأبيض تكسر رتابة المشهد ..

abstrait11تعبت من أحاديثها الضيقة، وتعبت من مرافقتها المضجرة، كل ساعة تعيد نفس القصة على مسامعي.... تزيد فيها مرة... وتنقص مرة أخرى... تصنع من نفسها بطلة أسطورية ثم تنتهي في موشحات عقيمة جدا: الحب يا أخي نار من لهب، تأكلك إذا رميت بنفسك فيها...  وما أن تصالحها تمنحك السلم والذهب.... أوصيك والوصاية لا تقتل ولا تحيي... امنحه كل شيء، ولا تستسلم له ببطء، الحب يجب احترامه ...
وأنا أجيبها: لا عليك سأفعل ما تطلبين بالحرف الواحد .
عندما وصلنا إلى البيت، ارتحت من موال النساء هذا قليلا. أحضرت طبقا من الفاكهة بشتى الأصناف والألوان، قشرت موزة وناولتني إياها وهي تبتسم ابتسامة حريمية وتقول: نسيت أن أقص عليك قصة. قمت منتفضا من مكاني كأني سمعت زئير أسد، ثم توجهت إلى غرفة النوم، وضعت الرداء على عيني وغبت في رحمة النوم .

coulerBougiesانتبهت أشجانُ من نومها مذعورةً, صوتُ ارتطام وجلبة بالخارج, نورُ الغرفةِ قضى نحبه بقيلولة التيار, تحسستْ وقع الأصواتِ, مناشرُ الغسيل تصطك وتذروها الرياح, زخاتُ المطر تطرق النوافذ كمن يعاقب.
تأففتْ قائلة: وليلة ممطرة طويلة...نهضتْ متثاقلة الأعطاف, تتحسس هدى أقدامها مستعينة بيديها, بالكاد استطاعت أن تنير شمعتها, ألقتْ نظرة على صغيريها...أكرم و رماح, الصغير يضمُّ صدرُهُ أقدامَه منكمشاً, أتراه البرد أتى عليه ؟ أم احتياجه لأبيه وحنانه المسلوب؟ تمددتْ بجانبه ...أشعرته بقربها وحنانها, أحكمتْ غطاءه, انتبه الصغير لشذا أنفاسها, وبلا قصدٍ طوقتْ ذراعُه عنقها, راحتْ تعبثُ بخصلات شعره, تحاول منحه أماناً تفتقده, وحين استغرق فى نومه ....أزاحتْ يده برفق وانسلتْ إلى مضجعها, لفها القهر والبردُ, خاصم النوم مقلتيها, اتخذتْ زند الأرق وسادةً, أسندتْ السريرَ إلى ظهرها, تمنتْ أن يكون لقلبها وعينها أفواه لتصيحَ من فرط ما تحمل من آلامٍ, ضرب النومُ ستاراً بينه وبين مآقيها, أرختْ الجفونَ وراحتْ تقلبُ سنواتِ عمرها, شعرت بانصهار الحياة من جبينها بفعل مجتمع لا يرحم, خيطُ الليل يلفظها فى هوة الوحدة, وأنين الدمع يكسو محياها, دمعاتٌ تتدلى من رموشٍ ذابلة, كأن الكلَّ يعلن حداداً على وأدِ أنوثة هذا الجسد, ترتعش أنفها ويضطربُ عرنينُها متخلياً عن بعض الكرامة ليشارك فى تأبين مشاعرها, لا تسمع أشجان إلا هديراً بداخلها كمدِّ البحر وجزره.

47استيقظت على مضض، فقد نامت مع ظهور أول خيط نور، التفتت إلى زوجها النائم بسلام، تأملت ملامحه الملائكية و هو يغط في نوم عميق، ربتت على شعره في حب و نهضت ، فمنذ زواجهما الذي مرت عليه السنة، كانت تحب أن تنهض قبله لتختار له ما سيرتديه، تجهز فطوره بحب و اهتمام كبير ثم توقظه، لكنها اليوم تشعر بعياء شديد بسبب توالي ليال من الأرق و التفكير.
توجهت إلى الحمام و هي تجر رجليها جرا و كأنهما باتتا عاجزتين عن حملها، نظرت إلى صورتها المنعكسة في المرآة و تأوهت، عيناها اللتان أسرتا زوجها من أول لقاء و أوقعته في شباك حبها، قد نشر التعب النفسي الذي تحسه بظلاله السوداء حولهما و غزت تجاعيد رقيقة جوانبها.. لتمتص بعضا من سحرها، أطلقت زفرة عميقة تعتق بها آلامها المسجونة بداخلها و التي تحاول جاهدة كتمها عن زوجها.
يا إلهي ارحمني و اهدني إلى حل يبعد عني أذرع ذاك الأخطبوط البغيض، لكم بت أكرهه.

manalhamdiوصلته الصور محمّضة وهو يقضي العطلة في العقبة مع زوجته. غمرت الابتسامة وجهه وهو يقلّبها بين يديه. اقترب من زوجته يريها إياها، فأمسكت تعاينها: طفل تسير فوقه دبابة أمريكية في العراق، نار مشتعلة في جثث آدميين لبنانيين، عراقيون وفلسطينيون في مجازر جماعية، ثم صورة أخرى لجثث انهالت عليها حيطان منزل هدّمته قاصفات ودبابات إسرائيلية. محمّد الدرّة وهو يموت رميًا بالرصاص.
لم تستطع رؤية المزيد من هذه الصور. أدارت وجهها متحاشية النظر إليها:
"يا إلهي، كيف التقطتَ هذه الصور؟!"
ردَّ بفراسة جندي: "هذا عملي؟ أرسلوها لي من عمّان لأراها. ليس أيُّ صحفي يستطيع التقاطها. خاطرتُ بحياتي وأنا أزجُّ نفسي في هذه المخاطر لأكون الأول فيها. دمي مُستباح ككل هؤلاء، وهم يلقون بالحجارة على الأعداء!".
"وأنتَ أيضًا كالجنود القَتَلَة. هم من يتيحون لك فرصة التقاط هذه الصور النادرة!" 
همّت بالمغادرة عندما سألها بخيبة أمل:

مفضلات الشهر من القصص القصيرة