choualiتركت غيابها يفاجئ نشرة الأخبار الصّباحيّة تُذيعها الأبواب المشرعة على الأبواب أسرارا وجه أسرار، وأفْجرت تخرج من مسكن ضيّق بنهج ضيّق من حيّ مكتظّ .
كانت على بساطة مترفة الأناقة ، وقوام حسن يميس في بنطال وسترة ناعميْ الزّرقة ، يباهيان سماء عينيها الرّائقة بدقّة التّفاصيل المنحوتة على مدى الجسد وصِفر الخصر المستدقّ. 
عمّ مسافة حصباء وزمن نعسان ، تدرك القطار الأوّل نحو العاصمة يأتي مهركلا على هزيز يرجّ السّكينة ويقضّ ضجعة الحيّ الغافي لحينه على صقيع الحديد فينهض أهلهُ على الصّفير الصامّ متأفّفين تتطاير أفواههم أخْلافا وسُبابا وأوجاعا . 

تسافر إليه من شعور كفيف يتلمّس الوجوهَ المتفرّقة بحثا عن إطار عاطفيّ يلائم الصّورة الرّاسخة بالخيال ، ولهفةٍ معصوبة الرّأس لا تفكّر إلاّ بصوته الثريّ يسري فيها خريرا كجرعة النّور تشْهَقُها العتمة اليائسة فتحيى ، ويزهر ليل الضّجر ببساتين فيحاء ذات ثمر وريحان وظُلل من أفياء الحلم الوثير.

40كنت أمارس حماقاتي الذهنية فأقفز بعشوائية بين الممكن والمستحيل وبين الماضي والحاضر حتى بلغت ذات الطريق الخالية دوما في مثل هذا الوقت المتأخر نسبيا،فأنا أقطن بمدينة صغيرة تنام فيها الحياة في فصول الشتاء مبكرا جدا. أعبر من تلك الطريق كلما مررت من هناك وكنت حقا أستعذب الصمت والظلام الذي تدكه أعمدة ضوء خفيف ، من جهة اليسار سور يحيط بمركب ترفيهي ومن جهة اليمين سور اخر أكثر علوا يلف بناية فخمة مترامية.وليس ذلك باللأمر الهام،فقد كنت أسير كما فعلت مرارا، مطأطأ الرأس صامتا غائب الفكر في شارع شاحب أضواءه خافتة تنكسر في حدود الزوايا الضيقة التي تحيط بأعمدتها، وحين تنعكس على ربوع الشارع تبعث القليل من السكينة في النفوس وقد استعذبت المشهد وكنت كمن يتوق إلى المفاجأة لما أقنعت نفسي أن ما أراه حقيقة وليس هلوسة ، عفوا ، كان علي للأمانة أن أقول "من" رأيته فقد كان ذلك أشبه بشخص وليس محض هلوسة بصرية، وحتى تلك اللحظة لم أكن قد قرأت كثيرا عن قصص الأشباح ولم تغرني قط تلك الأفلام التي يعتقد مخرجوها في ما هو خارق لقدرة العقل البشري على الفهم، من عساه يكون فأنا إلى حدود اللحظة قانوني جد ا، أسير على يمين الشارع لا أسب أحدا ولا أغتاب أحدا ، و حتى السياسة لفظتني لأني لم أستهويها كثيرا.عندما رفعت بصري كان القادم مثلي تماما أو على الأقل ذلك ما أراد أن يظهره لي، يسير جهة اليمين خطوة خطوة..

PAYS_13تسللتْ وئيدة الخطى تسبقها رائحة الحناء بالقرنفل البلدي.قبل التحاقي بالفراش مازحتها متسائلا عن كيفية تخلصها من سنة مسح الرأس لإتمام الوضوء، تركتها تغمس ضفيرتها الفاحمة في بلل أخضر.
تسمعت صدى نقر رؤوس بنانها فوق بساط يفصل بيني وبين النافذة الوحيدة في الغرفة، أحكمت إطباق الصدر على العجز، فتوقف صفير الريح على وقع زخات مطر متقطع بين رعدة ورعدة، أحسست بدنوها من فراشي، تؤخر رجلا و تقدم أخرى كأنها تطمئن على استواء غطاء ضقت به ذرعا رغم الجو البارد، رفعت من وتيرة افتعالي شخيرا يتماوج بين ثنايا صمت الشتاء، كنت أعرف أنه علامة في ذاكرتها على غرقي في نوم ثقيل، توقف الخطو، ثم تراجعت منسحبة في حذر نحو الباب، تجر خلفها ما تبقى من حس لوجودها في خيالي.
لعلها ثاني ليلة أبيتها في بيت بنيتي" سلمى"، بعد فراق خمس سنوات ، ظـللت أتحجج لديها ببعـد المسافة بين " الحسيمة" و" الرباط"، و ظلت توهمني بتصديق خطابي رغم يقين علمها بأن تفاهة زوجها أصلُ هذا التباعد الكريه، كم يحزنني شعورها بذنب قبولها الزواج منه رغم حدة موقف أمها، كنت الشريك في الانتصار عليها، هل رحلت عنا بعد عام فقط تحمل غصتها؟ !

كان كل شيء يتدهور ويتفتت ويتقلص تدريجياً، تراقبه الأعين ببرود ولا مبالاة، لاعتيادها عليه، لكن من يراقب جيداً سوق مريدي، يستطيع أن يخرجه من هذه القاعدة، فمع الشروع بالتدهور والتفتت والتقلص، كأن هذا السوق يتنامى ويتماسك ويتمدد، المساحة الأصلية للسوق اصبح يشغلها بائعون ومتبضعون يزدادون يوماً بعد آخر، إضافة إلى مساحات جديدة يحتلها هذا السوق يومياً، بحيث يغدو من الصعب تحديد نقطة بداية او نهاية له، وكل بائع مهما ابتعد بمسافة عن السوق فهو مراديّ الهوى، وعينه تراقب دائماً المسافة التي بينه والسوق، وكيف يظهر فيها نهار كل يوم جنبر جديد، حتى تتزاحم في النهاية فوق مساحات صغيرة متجاورة.

anjfasseدوى المحرك مزمجرا في يأس، محاولا الانعتاق من أسره ليتوه في صمت الجبال.. و السيارة العجوز تلتهم الطريق المتعرج أمامها.. في كد و مثابرة و كأنها باتت تحفظها عن ظهر قلب...
في الجهة الخلفية من السيارة أرواح حبيسة، استكانت في أحضان الزمن، عيون تبصر و لا ترى شيئا.. و أفكار شاردة تجتر أحكام القدر..
جلس صابر بين تلك الأرواح المنجرفة وراء تيار القضاء بقسمات جامدة منحوتة من صخرة الجرانيت... لا شبح ابتسامة في الأفق يبشر بانفراج جو العبوس ..في رحلة يومية بين جبال تزيد من إحساسهم بتفاهتهم و عقم أحلامهم...
شرد صابر بفكره...و انفلتت ذاكرته من سجن المكان مسافرة عبر الزمن تنبش في ذكريات الماضي البعيد.. تذكر يوم أعلنت نتائج البكالوريا.. و كيف استقبله أهله و جيرانه بالمشروبات و الحلوى.. و هو كالطاوس يختال بينهم مستقبلا عناقاتهم و زغاريدهم و كأنه ملك في حفل بيعة و ولاء..كيف لا و قد حصل على الامتياز و الدنيا تفتح له أحضانها و تسقيه من طيب كأسها.. و هو مأخوذ بها، مفتون برقتها، ثمل بعشقها...

انفاسعاد إلى بيته في المساء بعد يوم عمل شاق، فتح الباب لتستقبله وحدته بثوبها الأسود المسترسل الذي يرتد صدى حفيفه في صمت المكان...تطلع حوله في تذمر و قد سئم النظر إلى وجهها المطموس الملامح و نظراتها الفارغة المتلهفة إليه... أقنعة معلقة على الحائط، مكتب في الزاوية المظلمة من المكان عليه حاسوب، أقلام و أوراق متناثرة، فنجان قهوة فارغ و سجائر سلبت منها الحياة مهملة في صحن الفنجان تزيد من وحشة المكان...إنه مسرحه الصغير حيث يؤدي كل ليلة أدواره بنجاح ليغيض وحدته و يثير غيرتها... ترى أي دور سيلعب هذا المساء؟ و بأي قناع؟..
أنقذه صوت أمعائه من تساؤلاته و هي تصرخ مطالبة إياه بالشفقة لحالها...دخل مسرعا إلى غرفته لينزع عنه ملابسه و يدخل إلى المطبخ..

انفاسشعر بانتعاشة وحيوية نادرة، كأنه استيقظ بعد سبات عميق أزال عنه تعب نهار طويل. أدرك ذلك عندما تذكر بأنه نهض لتوه صباح اليوم بعد أول استفاقة من ليل خريفي. لم يكن ذلك من عادته، لكن شيئا ما يجعل بهجة تعم شعوره في هذا الصباح، سرعة حركاته وهو يغتسل ، رغبته في الكتابة ، في الكلام  و في لهفه و شغفه في طهي القهوة و وضع أنامله على الجبن وزيت الزيتون.
أنهى فطوره و في رأسه تغرد عصافير بشدى الألحان. توجه إلى غرفة بناته الثلاث عندما سمع ضجيجا ما يأتي من غرفتهن . داعبهن بداخل فراشهن. وعدهن بأنه سيسافر بهن إلى باريس  لحضور حفل ازديان طفلة لخالهم .
من عادته أن يكتب أو يطلع على أخبار اليوم عبر الانترنيت كل صباح. ثم يخرج للبحث عن الشغل إن كان عاطلا عن العمل أو لقضاء حاجيات اليوم. وغالبا ما يأخذ معه الحاسوب  المحمول ليتوجه إلى أحد المقاهي التي أحدثت قاعة يسمح التدخين بداخلها.
 لكنه قبل أن يغادر بيته هذا اليوم، أحس بأن هذا الشعور الفريد الذي يغمره جاء لسبب ما. بعد التفكير قليلا، تفطن أنه ينتظر ردا عن ملف طلب التعويض عن البطالة. و فتح الانترنت، ليعرف هل تمت دراسة ملفه .

أنفاسالزمن خريف وعلامات السقوط المفقود تؤشر للقدر المختوم,ليس في السطور ولا حتى بين تلافيف الصدور,بل انسكابا في متاهة ذاكرة النسيان..هي حكاية ترويها جدتي أورسولا,تلك المرأة التي خط الشيب شعرها وانقضمت ظهرها على ايقاع طقطقات عظامها كفالس أخير يشد أوتار لمقاطع نشيد الوداع.تضاءل نهائي يعلن الرحيل كامتداد أجنحة طواها الأفق الكالح لتغيب..
 يدان بيضاويتان ترتجفان ونبضات تئن من تحت عروق كأخاديد مهجورة تعزف اللحن الأخير.عينان ساهمتان نحو الله وأنا وأبي لا نستوعب مداها,فترتقي هي ونمكث نحن على حواشي فراش الموت..
 مولاي..مولاي..هكذا كانت جدتي تمزق اهابي في لحظات احتضارها.الأب الصامد يشد على يديها,فألمح على صفحة وجهه بريقا هادئا شديد البهاء يمنحني الجسارة لأنحني اليها لأسمع:
"كنت هالة نورانية في حلم راودني قبل ميلادك.."

مفضلات الشهر من القصص القصيرة