dessin-abstrait-4السكونُ يهجمُ على العجوزِكهجومِ ليلٍ لا قمرله, أوجاء قبل موعده, راحت أناملُ (تيتة الحاجة) تعبثُ فى خصلاتِ شعرٍ لطفلٍ يغطُّ فى سباتٍ, انتبهتْ.. نظرتْ إلى أناملها ...إن فيها قسوة َحياةٍ, حفر العمرُأخاديدَ كالتى على وجهها, مرهونة هى فى جسدها, تحمل سنواتِ احتلالٍ على ظهرها, يلفُّ وسطها قيدٌ قماشٍ لن ينفكَّ الا إذا وقفتْ أنفاسها, فهو بمثابة إرادة من خارج نفسها, تستمد منه القوةَ وتَحملَ آلام الحياة حين ضعفها.
أه ٍ...وتنفست بعمقٍ... لامستْ يدها الأخرى حباتِ خرزٍمتدليةإلى الذى كانت تسميه خصرها, قالت: لماذا هى هكذا كبيرة؟ متورمة....منتفخة...تحمل ألواناً عدة؟ أجابتْ بهزة رأس ٍ....ربما هى متورمةٌ من صديد الحياة الساكن فى النفس ينهش فيها, وألوانها تعبرعن خيوط اللأمان, منسوجة بعذاباتِ قهروعتْ عليه, ينخر فى عظامها, وفى أنفها تجد قطعة ذهبية اللون, ربما تذكرها بذهبية تراب أرضها, أوهى نوعٌ من الانقياد للأعراف والتقاليد وحكم الرجل المتجبر, لا تفهم ماذا تعنى؟ لا يهم وراحتْ تنظر إلى الصغير, ملائكى الوجة والملامح, لم تعبثْ به بعد قسوةُ الأيام....ولا همجية القرود, ثم تساءلت: أى قدرٍ سيواجه هذا الصغير؟ وأسندتْ جانبَ السرير إلى رأسها....

abstrait-anfasse111مع دخول ليلةٍ من ليالى الشتاءسالتْ الأجواءُ برداً وقرّاً, أرادتْ السماءُ أن تعاقبَ قريتنا المسكينة وأهلها الذين يسكنون بيوتاً من الطين, فصبتْ جام غضبها مطراً واصل ليله نهاره, فكست ثوباً منقوشاً بالوحل, وكان هم الجميع موضعاً لجسده ولو واقفاً يقضى فيه سواد ليله.
قطع صوت أمى طرقاتِ المطر فى أوانى قديمة نجمعها لنقذفَ بها من طين إلى طين, وراحتْ تستجدى ولدا بارا ...أتستطع أن تسير إلى المدينة لتحضرعقد قران ابن فلان الغنى؟ إن له علينا يداً, فأشفقتُ على نفسى الذهاب وأومأتُ إليها موافقا, فبيتُ الفقير تحت المطرليس بأحسن حالٍ من الشارع.
ارتديت ُ أحسن ما عندى من ثياب رثة تفضح قلة ذات اليد لمن لا يعرفنى, لففت أكياس بلاستيك حول أقدامى حتى لا يدخل الطين من ثقوبٍ على أرجاء حذائى, ظلام الشارع يوحى بأن السماءَ أطبقتْ على الارض, فلا أمل لشعاع نورتسيرعلى هديه, أغلقتْ معظم الحوانيت أبوابها, القليل منها مفتوح نصف فتحة لمن يبتاع شمعة أو كبريتاً أو لتراً من الجاز.

amour-anfasseإستأنستْ الروح بك فَرسمت حروفها على قناديل مِن ضوء، كَي يكون الرحيل إلى
قلبك يَقظتي، ويكون الغروب إشراق مُهجة تجعلنا نحيا اللحظة دون خوف، ونبض
الروح يُرافقنا دائماً في أحاسيس من وهْجها!.. إننا نصنع من الكلمات سفناً نُبحر
فيها إلينا، كأنّها مناداة الحَياة التي تجعلنا نَبوح بالمستحيل وعلى شفاهنا ارتسم
صَمت بهي....

حَبيبي..

أنفاس نتتتساقط الثلوج فوق القمم
فتأتي الشمس وتذيبها
تبعث في النفس الشعور بالحرية
فيأتي الخريف لتذبل أوراق الأشجار ...
ويأتي الربيع ...تتفتح الأزهار، لكن لون الحرية طعمه باهت في دنيا التعساء، وجوه شاحبة، وأخرى باسمة، عيون ناعسة، وأخرى متألقة تألق البدر في ليلة قمرية..في تجويفات هذه الحياة تتسابق الكلمات والأحرف لتأخذ مكانها بين حروف أخرى في هذا العالم تنضح بالحياة ، تنسلخ أحيانا وتلبس أحيانا أخرى أثوابا..تود من خلالها النفاذ إلى العالم لتصنع مكانا لها يأويها من العبث والمتاهات ، تقذفها أمواج الحياة مسافات لتبعدها إلى مكان قصي لتطمس معالمها ..وتتبخر حينما يقترب المساء..بيد أن الحروف تتشبت بالجذور، تستعصي على الاقتلاع، تنبت تنمو تصير بذرة ترتوي بالطل الندي، تصرخ في وجه العاصفة،تكسر الحواجز وتختزل تواجدها، كينونتها في زمن تطرد فيه الحروف الضعيفة..في زمن الأقوياء: زمن لا مكان فيه للحروف الصغيرة سوى لحروف صنعت لها وزنا بحد السيف، طمست معالما، أتلفت أرواح الأجساد قبرت في  الثرى لتصير كالرماد.

 

أنفاس نتإلى روح شهداء انتفاضة يناير 1984 بالقصر الكبير 
أكتم الصوت داخلي، يتأجج صدري، أوزع تساؤلاتي،، نظراتي عبر النافذة،، اختفت الحركة، صياح الباعة وهلوساتهم، أحاديث قدماء محاربي الحرب الأهلية الاسبانية، وهم يتحذلقون حول الأدرد ، يتطاير لعابه من فمه وهو يمسك القصبة الصقيلة، من طرفها تارة، ومن وسطها تارات أخرى، يحكي يشد الأنفاس،، يحكي يشخص المواقف المناسبة  لقامته القصيرة، والصوت المبحوح الذي يعرف محطات توقفه،  يتقن فن التوقف يجول بالحدقتين الضيقتين، يتفرس الوجوه يستعطفها باسما  تنفحه فيتابع رحلته .
من موقعي أرقب الأزقة الفارغة، والمحلات المتوحدة إغلاقا ، كان للهواء طعم لم أستسغه، أقلقني الصمت، وحده صوت الهيلوكبتر المحلقة يكتم  أنفاسي،  تمسح الأزقة،،والرجال مبثوثون هنا ، وهناك ، يتملكهم الذعر،  يمسحون واجهات البيوتات ،وإطارات المحلات المغلقة، بنظراتهم البئيسة ،، قدر أحمق الخطى ساقهم وساقني،  أشفق على نفسي، أتخيلها تعود لتلك الجماجم الصغيرة ،وهي تصارع أسبوعا آخر من الانكسار الرتيب ، نفس المقعد، نفس المربع ، نفسها الوجوه المصفوفة تنتظر ..ماذا تنتظر ؟؟

أنفاس نتويغورُ المخيمُ في الليلِ البهيم؛ والحالمُ يستدعي جناحَ طير الوعدِ، فيقبضُ على رسنِ اللجام، ثمَّ يصعدُ الريح؛ ليستحمَّ ظمآن في حُزم الشمسِ الكاوية تحت نجيماتٍ ضاحكاتٍ، وكويكباتٍ تشير!
ويسرُّهُ أن تزفّهُ أجراسٌ؛ فيبتسمُ لسعدٍه الآتي؛ وهو بواتي الديارَ من عالٍ مهيب؛ فينسابُ عبْرَ الحدودِ مثلُ شهابٍ، وقد ترك حراسها في الغرابة مشدوهين، لا تنفعهم في حصونهم صيحاتُهم المتأخرة، ولا ما رشقوه من صليات!
والحالمُ سهمٌ محمومٌ؛ يستنشقُ من قبلتِهِ الطِيْب، ويملأُ رئتيهِ بشذا الحقول، وقد يخمنُ أشجارَ كرمِ أبيهِ تأتيهِ، فيتصاعدُ زهرُ برتقالها في غيماتٍ، ثم الغيمات  يتشكلن عرائس، بأياديهن باقات، ويتبخترن في ثيابِ زفافٍ!
وعادةً ما يُحلّقُ مع الطيرِعلى ذات الطريق التي عبرها صغيرا ليلة التهجير، فيستعيد نحيب النساءَ من خلفِ الأحمالِ، ومن على أكتافهن بكاء الصغار، وتطعنهُ حيرةُ عيونِ الكهول، وتعودُ سيقانُ الشيوخِ؛ تترنحُ مثلُ البوص بصحبةِ عصيٍ قطعوها قبل طردهم من الكروم!

أنفاس نتخرج مسرعا من المنزل ، كان مُقدم(1) الحي يرقب في مدخل الزقاق كل هابّة و دابة، حيّاه بابتسامته الصفراء المعهودة ، كان سعيد يرتاب من تلك الابتسامة ، و يعتبر رؤية المقدم نذير شؤم سيلقاه في يومه . كان يسرع الخطى ، إنه يرغب في حضور محاضرة الفلسفة منذ البداية ، لأنه يعشق الفلسفة ، بل يراوده من حين إلى آخر حلم أن يصير فيلسوفا بلحية كثة و شارب طويل .. أليست هي ملامح الفلاسفة و المجاذيب !؟. واصل سيره دون التفات،أمعاؤه تقرقر .. ليس فيها سوى جرعات من شاي أسود، في الجهة المقابلة ، شاب يعاكس فتاة متبرجة ،كأن كل مساحيق العالم قد صبت على وجهها ... ألم تفعل ذلك للإثارة ؟  يعاكسها و تتمنع ، فارتسم في رأسه سؤال الرغبة و الامتناع دون أن يجهد نفسه في الإجابة عنه.استفاق من غَـشية السؤال ، فوجد نفسه أمام الجامعة .. الباب مغلق و الباحة فارغة إلا من كلاب الحارس الليلي . آه .. ،لم يفطن إلاّ حينها ..

أنفاس نتجلس أمامي دون استئذان، كان حافي القدمين، أشعث اللّحية ...إنه أحد ضحايا التعذيب في بلدتنا الصغيرة... كان أستاذا جامعيا ... دخل السجن كأعقل ما يكون، ولكن خرج منه سليب العقل و الوظيفة... كان يلزم الصمت لأسابيع عديدة...أحيانا تراه يمشي عاريا وهو يردّد كلاما غير مفهوم... وأحيانا اخرى يتكلم كأحسن العقلاء... أخرج من جيبه عقب سيجارة... دون أن يكلف نفسه النظر الى ناحيتي، قال بجدّية من يلقي محاضرة:
ـــ لم يحكم الناس أشد منه شؤما ولا أثقل ظلاّ... في عهده الرهيب، اضطر الفلاح الفقير الي الهجرة الي إسرائيل... أجبر مدّرس الإبتدائي على طلي وجهه بالسواد ليستجدي المارة بعض القروش دون ان يتعرف عليه احد تلامذته أو معارفه... في عهده المشؤوم طلبت زوجة " طبيب قدّ الدنيا" الإنفصال عن زوجها...عللت طلبها بكراهيتها الجماع بين القبور، حيث اضطر بعلها الي السكنى هناك! في عهده المشؤوم، أصبح من الطبيعي ان يقال: اذا انهارت العمارة التي تسكنها، فستتحول حتما الي المقبرة، اما لتدفن في قبر، أو لتعيش بقية حياتك الي جوار قبر!.