amour-anfasseإستأنستْ الروح بك فَرسمت حروفها على قناديل مِن ضوء، كَي يكون الرحيل إلى
قلبك يَقظتي، ويكون الغروب إشراق مُهجة تجعلنا نحيا اللحظة دون خوف، ونبض
الروح يُرافقنا دائماً في أحاسيس من وهْجها!.. إننا نصنع من الكلمات سفناً نُبحر
فيها إلينا، كأنّها مناداة الحَياة التي تجعلنا نَبوح بالمستحيل وعلى شفاهنا ارتسم
صَمت بهي....

حَبيبي..

أنفاس نتتتساقط الثلوج فوق القمم
فتأتي الشمس وتذيبها
تبعث في النفس الشعور بالحرية
فيأتي الخريف لتذبل أوراق الأشجار ...
ويأتي الربيع ...تتفتح الأزهار، لكن لون الحرية طعمه باهت في دنيا التعساء، وجوه شاحبة، وأخرى باسمة، عيون ناعسة، وأخرى متألقة تألق البدر في ليلة قمرية..في تجويفات هذه الحياة تتسابق الكلمات والأحرف لتأخذ مكانها بين حروف أخرى في هذا العالم تنضح بالحياة ، تنسلخ أحيانا وتلبس أحيانا أخرى أثوابا..تود من خلالها النفاذ إلى العالم لتصنع مكانا لها يأويها من العبث والمتاهات ، تقذفها أمواج الحياة مسافات لتبعدها إلى مكان قصي لتطمس معالمها ..وتتبخر حينما يقترب المساء..بيد أن الحروف تتشبت بالجذور، تستعصي على الاقتلاع، تنبت تنمو تصير بذرة ترتوي بالطل الندي، تصرخ في وجه العاصفة،تكسر الحواجز وتختزل تواجدها، كينونتها في زمن تطرد فيه الحروف الضعيفة..في زمن الأقوياء: زمن لا مكان فيه للحروف الصغيرة سوى لحروف صنعت لها وزنا بحد السيف، طمست معالما، أتلفت أرواح الأجساد قبرت في  الثرى لتصير كالرماد.

 

أنفاس نتإلى روح شهداء انتفاضة يناير 1984 بالقصر الكبير 
أكتم الصوت داخلي، يتأجج صدري، أوزع تساؤلاتي،، نظراتي عبر النافذة،، اختفت الحركة، صياح الباعة وهلوساتهم، أحاديث قدماء محاربي الحرب الأهلية الاسبانية، وهم يتحذلقون حول الأدرد ، يتطاير لعابه من فمه وهو يمسك القصبة الصقيلة، من طرفها تارة، ومن وسطها تارات أخرى، يحكي يشد الأنفاس،، يحكي يشخص المواقف المناسبة  لقامته القصيرة، والصوت المبحوح الذي يعرف محطات توقفه،  يتقن فن التوقف يجول بالحدقتين الضيقتين، يتفرس الوجوه يستعطفها باسما  تنفحه فيتابع رحلته .
من موقعي أرقب الأزقة الفارغة، والمحلات المتوحدة إغلاقا ، كان للهواء طعم لم أستسغه، أقلقني الصمت، وحده صوت الهيلوكبتر المحلقة يكتم  أنفاسي،  تمسح الأزقة،،والرجال مبثوثون هنا ، وهناك ، يتملكهم الذعر،  يمسحون واجهات البيوتات ،وإطارات المحلات المغلقة، بنظراتهم البئيسة ،، قدر أحمق الخطى ساقهم وساقني،  أشفق على نفسي، أتخيلها تعود لتلك الجماجم الصغيرة ،وهي تصارع أسبوعا آخر من الانكسار الرتيب ، نفس المقعد، نفس المربع ، نفسها الوجوه المصفوفة تنتظر ..ماذا تنتظر ؟؟

أنفاس نتويغورُ المخيمُ في الليلِ البهيم؛ والحالمُ يستدعي جناحَ طير الوعدِ، فيقبضُ على رسنِ اللجام، ثمَّ يصعدُ الريح؛ ليستحمَّ ظمآن في حُزم الشمسِ الكاوية تحت نجيماتٍ ضاحكاتٍ، وكويكباتٍ تشير!
ويسرُّهُ أن تزفّهُ أجراسٌ؛ فيبتسمُ لسعدٍه الآتي؛ وهو بواتي الديارَ من عالٍ مهيب؛ فينسابُ عبْرَ الحدودِ مثلُ شهابٍ، وقد ترك حراسها في الغرابة مشدوهين، لا تنفعهم في حصونهم صيحاتُهم المتأخرة، ولا ما رشقوه من صليات!
والحالمُ سهمٌ محمومٌ؛ يستنشقُ من قبلتِهِ الطِيْب، ويملأُ رئتيهِ بشذا الحقول، وقد يخمنُ أشجارَ كرمِ أبيهِ تأتيهِ، فيتصاعدُ زهرُ برتقالها في غيماتٍ، ثم الغيمات  يتشكلن عرائس، بأياديهن باقات، ويتبخترن في ثيابِ زفافٍ!
وعادةً ما يُحلّقُ مع الطيرِعلى ذات الطريق التي عبرها صغيرا ليلة التهجير، فيستعيد نحيب النساءَ من خلفِ الأحمالِ، ومن على أكتافهن بكاء الصغار، وتطعنهُ حيرةُ عيونِ الكهول، وتعودُ سيقانُ الشيوخِ؛ تترنحُ مثلُ البوص بصحبةِ عصيٍ قطعوها قبل طردهم من الكروم!

أنفاس نتخرج مسرعا من المنزل ، كان مُقدم(1) الحي يرقب في مدخل الزقاق كل هابّة و دابة، حيّاه بابتسامته الصفراء المعهودة ، كان سعيد يرتاب من تلك الابتسامة ، و يعتبر رؤية المقدم نذير شؤم سيلقاه في يومه . كان يسرع الخطى ، إنه يرغب في حضور محاضرة الفلسفة منذ البداية ، لأنه يعشق الفلسفة ، بل يراوده من حين إلى آخر حلم أن يصير فيلسوفا بلحية كثة و شارب طويل .. أليست هي ملامح الفلاسفة و المجاذيب !؟. واصل سيره دون التفات،أمعاؤه تقرقر .. ليس فيها سوى جرعات من شاي أسود، في الجهة المقابلة ، شاب يعاكس فتاة متبرجة ،كأن كل مساحيق العالم قد صبت على وجهها ... ألم تفعل ذلك للإثارة ؟  يعاكسها و تتمنع ، فارتسم في رأسه سؤال الرغبة و الامتناع دون أن يجهد نفسه في الإجابة عنه.استفاق من غَـشية السؤال ، فوجد نفسه أمام الجامعة .. الباب مغلق و الباحة فارغة إلا من كلاب الحارس الليلي . آه .. ،لم يفطن إلاّ حينها ..

أنفاس نتجلس أمامي دون استئذان، كان حافي القدمين، أشعث اللّحية ...إنه أحد ضحايا التعذيب في بلدتنا الصغيرة... كان أستاذا جامعيا ... دخل السجن كأعقل ما يكون، ولكن خرج منه سليب العقل و الوظيفة... كان يلزم الصمت لأسابيع عديدة...أحيانا تراه يمشي عاريا وهو يردّد كلاما غير مفهوم... وأحيانا اخرى يتكلم كأحسن العقلاء... أخرج من جيبه عقب سيجارة... دون أن يكلف نفسه النظر الى ناحيتي، قال بجدّية من يلقي محاضرة:
ـــ لم يحكم الناس أشد منه شؤما ولا أثقل ظلاّ... في عهده الرهيب، اضطر الفلاح الفقير الي الهجرة الي إسرائيل... أجبر مدّرس الإبتدائي على طلي وجهه بالسواد ليستجدي المارة بعض القروش دون ان يتعرف عليه احد تلامذته أو معارفه... في عهده المشؤوم طلبت زوجة " طبيب قدّ الدنيا" الإنفصال عن زوجها...عللت طلبها بكراهيتها الجماع بين القبور، حيث اضطر بعلها الي السكنى هناك! في عهده المشؤوم، أصبح من الطبيعي ان يقال: اذا انهارت العمارة التي تسكنها، فستتحول حتما الي المقبرة، اما لتدفن في قبر، أو لتعيش بقية حياتك الي جوار قبر!.

أنفاس نتفي غرفة صغيرة تفرد جسدها على السرير لتنام.
تحاول تركيز تفكيرها على كلمات الأغنية التي تسمعها، فجأة تنفلت دمعة مالحة من مقلتيها، تمسحها بسرعة وتتبعها بابتسامة صغيرة، تحاول إقناع نفسها أن ما حصل كان لصالحها.
تطفئ المذياع في سرعة، ثم تأخذ الرسالة التي تسلمتها هذا الصباح من طرف سعيد البواب، تعرف أنها قرأت الرسالة أكثر من مرة، لكن رغم ذلك تعيد قراءتها على مهل وكأنها المرة الأولى.
تنطق بهذه الكلمات بصوت مرتفع، ناسية أنها ليست بمفردها في البيت(سامحيني واعذريني لكوني  باحث عن طيف جديد، اعذريني فقد سئمت انتظارك، ما عدت قادرا على إلقاء درسي المعهود، ولا حتى أن أربي، ما عدت أقبل أن أكون مدرسا لتلميذة كسولة).

أنفاس نتجسم من تدويرات لاحد لها، يمتطي هرما مقلوبا، عيناه خطوط مرتعشة،  يتنفس عاليا بأنف كبير أفطس ... أحجام خشبية حوله في تداخل . تحيط بها هامات،  يعلوها لون ترابي متدرج  القتامة من أسفل لأعلى. لن أتركه راقدا داعنا للون، سيخرج إلي متجها من اليسار إلى اليمين. وهذه النقطة الذهبية هي محل كتفه المائل ، لونها ناطق ... مشى قليلا إلى الخلف، وتفحصه من جديد، ثم اندفع يغزوه بالحرارة والضوء والإحساس. أية ملامح ستكسو وجها بارز العظام، فاقدا لطعم الحياة، لكن لا يزايله الانبهار في مدينة تلفها مساحات ترابية، وتتوغل في قلبها فوضى من إسمنت.  
الإفريز خلفه والكراسي فارغة، وظلال لا تبارح مكانها. الوقت ليل إذن ! هل سيطل القمر؟ …لا …لا معنى لذلك … كفى لن يطل، الليلة حلكة تامة،  ولا قمر. ضوء المصابيح شحيح ينذر بالتلاشي.
اكتملت ...؟ ... ليس بعد. قليلا من لمسات أخرى  مرهفة، ومزيدا من ضباب هش على صفحة الليل، وليشح الضوء أكثر، ويخمد اللون قبسا عن قبس. أما الوجه النحيل فليعتل جسد الدوائر، والقامة لتبق حسب وقفة الرائي ... هكذا أفضل، مادامت التدويرات إيقاعها متراكب ... والتفاصيل ؟ ... بعد تلك التحزيزات والتحريفات، هناك كليب يبحلق فيه، وقطة بيضاء فاغرة الفاه، ظمأى ربما، وأوراق كابية اللون تلاعبها الريح هنا وهناك.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة