abstrait24لم يكن ذاك الصباح شبيهاً بغيره كان صباحاً فوق العادة، فتحت عيني على عالم جديد فكل ما يحيط بي مختلف، رغم أني ظللت مستيقظة حتى وقت متأخر أحاول بكل الطرق أن أعطيَّ لغرفتي الجديدة طابعاً له نكهة الوطن.
ابتعدت عن سريري و صرخت صرخة روح ذاقت طعم الجنة، ثم توجهت رأسا صوب نافذتي المطلة على نهر السين، تأملته بدقة كان له منظرٌ مختلفٌ تماماً عن ليلة أمس فجماله الحقيقي يظهر في الليل عندما تتلألأ أنواره الساطعة في زَهوٍ غريب، أما الآن فقد أذهلني هدوؤه الصامت.
ها أنا ذا أقف أمامك يا نهر السين ها هي أحلامي تتحقق واحداً تلوى الأخر، لم أكن يوما لأكتفيَ من الحياة ولكن بعد هذا اللقاء لا مانع لدي من عشاءٍ مع الموت فبعد لقياك لن يكون هناك لقاءٌ يستحق عناء الحياة.
أتعرف يا عزيزي كم قضيت من  الليالي في مرسمي الصغير لرسمك، لك عندي 170 لوحة  رسمتها في لحظات عري، فلرسمك يا عزيزي طقوس، أقفل بابا غرفتي التي اقتطعت منها جزء صغيراً و جعلته مرسماً و أدير جهازي ليخرج منه صوت كاظم و حليم و نجاة و ماجدة و كلثوم.

abstrait23تسلق دمع (ميليسيا) حيطان المخاض، حيث يولد المطر حطبا... دروبا... وريقات زهرة تشرين في فيض مدينة المواعيد المتأخر. يتجثم على قلبها أحتماء ليال الشتاء الموحشة،  وهي تتأمل حمم الماضي بعيون ينساب اليها خرير المطر وخدر الدفء بالقبل كالمجد. فتفنى أصابعها بتلويحة شاردة، بصمت خلف الجمر العابر لزرقة البحر، وبلا أكمام تجتاح أوردتها وهج صهيل الشواطيء .. وحبات الرمل تزرر ثوبها الليلي المتكاسل فوق نهديها... فيلسعها هبوب نشارة الحنين المشتعل... فيثب بها العشق بألذّ ماينكره النهار.
أنبتت الكروم فيها دربا بلا دار... بلا ميناء...، ولم يغف النبيذ بلهب يرتعش فوق سطوحه معاطف النسيان، وينساب به وجع يبعث ريح الشتاء من عظامها. (ميليسيا) تتلمس ملامحها الكثّة بمجمرّة يكسوها الربيع بالحجر والحطب والصفير وسقسقة صرار مزاليج خريف الشبابيك... فيسهر بها أنهمار السأم بالأنتظار، كأغنية تحتطب تجاويف التوابيت بعتمة ليل برد الشتاء، فتتوقدها الشبابيك سعالا مزمجر بالذكريات، وهي أثيرة واهنة بالزًّبد....هادية بغسيل أقدام قصيدتها الموثقتين عند البحر...أو لربما لقادم يحمل بيدية طين الهيل.

abstrait21نفس المشهد الكالح يطالعني، كل صباح وكل مساء، بل وفي أيّ وقت. أبصق بلا لعاب. نفس الوجوه الكئيبة، تصطدم بها عيناي حين أغادر البيت - مرغمًا- لابتياع أيّ شيء.
أجسادهم لا تفارق كراسي المقهى، وأعينهم  تطوق كل شيء.. نفس الزبائن يغتالون الوقت بتفاهاتهم اليوميّة.
أمني النفس بالرحيل إلى مكان لا يعرفني فيه أحد، ومغادرة هذا الحي البائس.
وبعيدًا عن بيتنا، أتدرب على التشرّد، وحيدًا.
***
جيراننا البؤساء -عفوا الأعزاء!- يسألون أبي كلما التقوه:" لم لا يقعد ابنك في الدكان؟".
حل طوباويّ لمشكل شاب ضائع، كما الملايين. هكذا  ببساطة، وكأنّ كل أحلامي أن أسجن خلف منضدة، وسط حي يقتات أهاليه على التدخل في خصوصيات الآخرين. لسوء الحظ أنني لست من هواة الاسترخاء على الكراسي و... !!.

abstra20" عجل بالإياب ..آمنة تحتضر ! "
ألقى السماعة من يده وحث الخطى صوب البوابة الخارجية .مستحيل ..آمنة ؟ ..الزوجة و الأم و الحبيبة.. توشك أن تفارقه ؟
ركض كالمجنون غير عابيء بالدمع المنهمر..تداعت الذكريات أمام ناظريه كشريط مسجل..
آمنة غادة الحي..ست الصبايا ..حظيت بحسني الظاهر و الباطن ..وقلما اجتمعا في صبية..كل شباب الحي  يخطبون ودها لكنها اختارته لدماثة خلقه وطيب معدنه
حلقت طيور الصفاء فوق عشهما الدافيء الصغير ..كانت آمنة نعم الزوجة الصالحة..القنوع ..وكان هو لا يألو جهدا في توفير اسباب السعادة ..رُزقا صبيين فاكتمل سفر الرضى ..مرت السنون كأنها لحظات ..شب الولدان عن طوق آمنة ..وغادرا العش صوب أحلامهما على الضفة الأخرى ..بكت آمنة أما هو فتجلد :
- هي سنة الحياة ومشيئة الرحمن !

abstrait19()...كانت لأحمد لحظات صحو مفزعة. فما كان يمكن لأحمد أن يستمر في تجاهل نفسه واحتقار طموحه على الظهور في الجرائد فقد حدثته نفسه الأمارة بالذهاب إلى الجرائد وعرض نفسه على المحاورين ونشر صورته ولو بلون واحد، يقول لهم «أنا أحمد المشهور بالتخلي عن هموم الناس المنغمس في التفاصيل، أفكر في الجرائد مثلكم.ومثلكم أرى نفسي قريبا من هموم الآخرين البعيدة عن همومي فانشروني في مقال واضح أو أخبروا عني يخلدني التاريخ مثل كلامكم في المزابل، وسحب الاعتبار الأخير وقال «يخلدني في المنازل أو ليس لكم مثلي في القلوب منازل».
  وكانت أبواب الجرائد مغلقة تستقبل المعلنين عن السلع من أبواب جانبيه وتأتيها المقالات بالخيوط الهاتفية. وقد تعيث بالمقص في الجرائد الأجنبية. ولا مكان فيها لأحمد العروس ولو استحال مقصا، فكيف وهو يخرج من قشرته إلى جريدة لا تستحي. وقال أحمد العروس المطرود من الجريدة لأحمد المقابل في واجهة محل مغلق ينعم بالأمن فلا ينزل ستارة الحديد« لماذا تهين نفسك يا رخيص ؟ ما ألجأك إليهم يا فاقد البوصلة يا أحمد الذي علمته التواضع فاستكبر وأبى، أتريد أن تعود إلى الجنون ؟»

abstrait18تتسارع الخطوات إلى مكان غصت به الأجساد ، إحساس غريب بفاجعة تلف الكيان، شقت الجمع بعنف فتراءى لها جسد متدل من غصن شجرة طالما استظلت بظلالها ورسمت على جدعها من بهي الشجن ما كان يحفظه الجسد المتدلي عن ظهر قلب..في برهة تكاتفت فيها صور زمنية مشتركة كتبت بأنينهما وضحكاتهما وأسرارهما ومغامراتهما...دوي صراخها يلفت انتباه الأجساد المتحذلقة على الجسد المتدلي وتهيم في غيبوبة ترفض الخروج منها تسعى اكتشاف سر  انفصال الذات عن ذاتها وتمردها عليها و تحايلها إلى أن تخلصت منها ،،من فكر في الخلاص وفك ارتباط الذات بالذات ،أي ذات منهما كانت سيدة القرار وأي ذات كانت موضوعه ، ما كان للقرار أن يكون لولا تواطؤ الذات مع الذات بعد حوارهما واقتناعهما بفكرة الخلاص وتغلب النفس على الروح
  تلح الذات على سياحتها في غيبوبتها، تسعى العلو عن الزمان والمكان ، تحيى انفصال الذات وهي التي سعت للتواصل مع الذوات فتتألم لشكواه من جحود الحشد وقد ارتوى من نبع الغريزة وسقيه شوارع المدينة قيئا واغتساله بماء نافورتها فانسلخ الماء عن طبيعته وألبسه لونا ومنحه طعم العلقم ، تسترجع الذات في غيبوبتها  شكوى باب المدينة التي ارتدت بيوتها لباسا رماديا كئيبا ،تهاوت سقوفها وانمحت منمنماتها وتآكلت حيطانها وعصف بأعراصها ..أضحت الذات غريبة في مكان نسج بخلاياها وهي عروقه التي ارتوت بدمائها ، كانت ذاته بداية باب المدينة وعمقها ، فضاؤها الذي يتنفس بكلماته الثائرة المستنكرة لإرادة الإقصاء السياسي والاجتماعي .

abstrait17دخلتْ البيتَ مسرعة فرحة ، توجّهت على الفور إلى المطبخ ، ضمت أمها بقوة وهتفت :
أخيراً .... أخيراً يا أمي وجدت وظيفة .
لقد ذهبت اليوم إلى المدرسة الداخلية التي قدمت إليها أوراقي منذ أيام ، فأجروا معي مقابلة
قبلوني بعدها معلمة في هذه المدرسة .
لم تعرف كيف تقضي ساعات هذا اليوم ، فغداً ستثبت وجودها ... ستعمل ... ستتخلص من قضبان هذا البيت الذي أسرها والماضي الجريح .
أضاءت شمس الغد يوماً جديداً ، وعلى باب المدرسة تسارعت نبضات قلبها ... تنفست بعمق
ودخلت إلى مديرة المدرسة التي حدثتها عن التلاميذ الذين ستدرسهم قائلة :
_ هؤلاء التلاميذ سافرت معلمتهم بعد أن علمتهم الشيء الكثير ....
لا أخفيك سراً أنهم تعلقوا بها كثيراً ، لذلك حاولي أن تتقربي منهم ....

regard_abstraitإلى العراق
جلستْ.
جبين معصوب . ثياب مهملة . دم يجفّ على ندوب تحفّ الوجه.
الصِّبْية يتقافزون صخبا والطّاعمون يتناوبون على مآدب سخيّة . أطباق الأكل صنوان وغير صنوان يسعى بها قِرًى حثيث .
كانت مراسم الإطعام جاهزة ترصد خروج الرّوح من سكنها ، وكان أهله على أُهْبَةِ الفقد وتراب المقابر ينْمَل في نعالهم .
نساء باسِرات الوجوه مرهقات العيون يتحلّقن حولها ملتفعات بصمت خشن ، وقرآن يسترسل تلاوة من مسجّل يُوثِقُ الآذان بخشوع متين تتحوّل فيه وجهة البكاء إلى شفير القبر. لكنّ بعضا منهنّ يتهامسن ورجال آخرون هناك يتهامسون..

-  مات مُتْخَما بالمنكر . شرب البارحة حتى اختنق ..
- مسكينة زوجه .. عياله صغار ..
- ماذا عسى يترك لهم نادل في مقهى من بعده ؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة