49انقذفت للخارج. كان هو عينه يمشي في خطوي كظلي. يلاحق إيقاع سيري. يطاردني بلا هوادة!. ثم دهمني سيل أسام : ابن جلجل ، ابن المثنى، ابن شملال، ابن تومرت.....ابن القفطي. سيل لا ينضب، وأنا تياه في ليل شارع خال. كيف أمكن لرجل أن يعدم وجاهة الألقاب منذ فجر التاريخ، ويقضي حياته يدون أعيان الأسماء حسب حروف الهجاء بدءا من الهمزة إلى الياء؛ دون أن تطوقه طبقاتهم، ولا تواريخ وفياتهم ؟!. الحي القريب ضوؤه يلوح باهتا، وسيل آخر يندفع: ابن بسام، ابن زائدة، ابن الهبارية، ابن الفضل، ابن باشاد، ابن التعاويذي...ابن قلاقس...ماذا صرت ؟. لائحة أسماء، أم نسابة جديدا؟!. اختلطت علي الأشياء. توقفت أتحسس أعضائي؛ أتثبت من السلامة، ثم عرجت على اليمين. وسرت أتطلع إلى الدور العصرية المتراصة من حولي. بدا جليا أن المعماري الذي كان أول من خطها على أوراقه؛ مغرم بالدوائر. كل واجهة تدوير إسمنتي مصبوغ، والواجهات تختلف في تشكل أحجام الإسمنت عليها. أقواس هندسة الدوائر تعطي انطباعا باقترابها منك؛ ولو أنها بعيدة، أو عالية. إحدى الشرفات يتدلى منها نبات أخطبوطي يضفي هسيسا، ويعبق برائحة ليست كريهة، وليست طيبة أيضا، أو هي طيبة إذ لا يمكن أن تكون إلا كذلك، وهي تعم الشرفة.  فذاكرة الشم لا تحتفظ لها بأثر،  ولم يسبق أن ضمختني على أية حال.

62كان الطاهر حجرا في جوفه قلب ، كان يكتسب قوته بالتدحرج بين الطبقات المتطاحنة  ، وعندما يزداد الضغط حوله يتطاير عنه شرر سرعان ما يتلاشى ويخبو ، وقد تنز من جبينه قطرات؛ يحسبها البعض ماء؛ ويراها البعض عبرات .
تلمس و قرأ في فترة تشكله شيئا من طبائع الأشياء؛ مغتنما اختلاف نظرات الخلق إليه ، واقتناع البعض بعدم صلاحيته للبناء أو الترميم  ، وولع البعض بسحر الطفولة ، جميل  ولين فقير  وحماه مظهره من ضعفه .
و في رحلة التحول  تحمل حز المدي ، و دوران الألسنة على مختلف المواضع الملساء الظاهرة من جسمه ، وتحمل قذارة المتيممين في الكُتاب عندما حمل إليه ؛ بعدما أصاب وباء مواشي ملاك الأرض، وتعلقت آمال السادة وأحلامهم بهامات السنابل المشرئبة التي راحت تعمُر و تتذهب كي تسجد تسبيحا لربها قبل أن يفتك بأعناقها وتكون نعمة للأشرار... و للأخيار، ولأنه لم يعد يصلح لشيء بعد هلاك البهائم جيء به إلى المقام ليخدم نازليه... مطيعا ،صامتا، منصتا ، متحفزا لتلبية الأوامر، حريصا على  امتصاص  ما استعصى على الفناء من رحيق العقول حتى مهر في تهجية النصوص ، ثم أدمن قراءة قصاصات الجرائد المرمية التي تلف فيها حاجات الناس وأشجانهم الميتة ، ثم الرسائل ، ثم الكتب ،ثم تظاهر بأنه أدمن العطالة أقرب الصفات إليه ، وأنسبها لضعفه و وضاعة أصله، وأصبحت القراءة تفتك بجزء كبير من وقته فتزيده فقرا ، ولكنه كان يجد لذة تجعل الماء بجوفه يضطرب ، تنسيه التفكير بوضع أحسن، وتعزيه .

134... في شُقّة ما في الطّابق الثّالثِ يفتَحُ الشّاشة َ، وحتّى النّافذة َ ،ويُطِلُّ على الكون.في وسط الطّابقِ تندسُّ الشقّةُ. والطّابِقُ في أعلى عِمارة أصلُها ثابتٌ في شارِع كثيفِ البؤْسِ، مدفون في الوحشةِ. والمدينة ُ محفوفة ٌ بالضّبابِ، غارسةٌ في الرّطوبةِ ،يلُفُّها عَفَنٌ كبيرٌ. ويخترِقُها عبرالأحشاءِ والأزقّةِ وخلايا الأمكنةِ صمت محضٌ .. والشّاشة  في أيّامِ الرّاحاتِ الأسبوعيّةِ والعُطَلِ تذبحُ الصّمتَ المتطايرَ من الجدران والنّوافذ، ومن أمكنة عدّة.. ومنذ الفجرِ، بعد أن يفْنى صوتُ المؤذّنِ وتنمحي غمغمة المُصلّين الخارجين من العبادةِ ويتلملمُ الكلمُ الطّّيبُ بريدا إلى السّماءِ، وتئِزُّ سيّاراتٌ خافتة ُ الأزِّ على الطّرُقاتِ الموحلةِ ، تنفتِحُ وردة ُ الضّوءِ وتنقشِعُ الظّلماتُ بطيئا، يهرعُ الصّمتُ إلى الشّوارِعِ ويستوْطِنُ المكانَ .ويُلْحِدُ المدينة َ على امتداد سويْعات من الفجرِ المتثائبِ موتٌ فجٌّ،، لا ينْهبُ منْ سلطتِهِ إلاّ وقعُ حوافِرِ الأحمرةِ والبِغالِ تنقُلُ على العرباتِ المجرورةِ صناديقَ الخضرِ والغِلالِ باتّجاه السّوقِ والدكاكين المجاورةِ  لكنّه نهبٌ مخلوسٌ خفيفٌ.. والصّمتُ والموتُ متعانقان إلى وقت متأخر نسبيا في النّهار.
على الكونِ يُطِلُّ من شُقّتِهِ. أصابعُه على الزر. والقنواتُ تنساقُ إليه سريعا. وأصابعُه لا تسكنُ عن الضّغط والدّوسِ إلا هنيْهات متفاوتة في الطّولِ والقِصرِ: زرّ:موسيقى.زرّ: صخَبٌ.زرّ: تلاوة. زرّ: رقصٌ أهوج. زرّ: خبرٌ عاجل. زرّ:عرْي. زرّ: قتْلٌ . زرّ: زعماء وخطابات. زرّ:اعتصام ما بعد العام. زرّ: شيوخٌ وُعّاظ. زرّ: إرهابٌ. زرّ: سيّارات مفخّخة ٌ. زرّ: أخبارٌ شتّى. زرّ:نعْـــــــــــــــيٌ:أنباءُ الموتِ تُطِلُّ من زوايا الحياة ... ...

34يفسح״ ميشيل״ كلبه ״ البيرجي ״ على رصيف الشارع الرئيسي . ودون سابق إنذار يرفع الكلب إحدى رجليه .
شرْ رْ رْ رْ !! ينساب الماء بين قدمي  نصب  الزعيم٬٬  يفيق الرئيس مذعورا يظن أن الأمر يتعلق بمحاولة للإطاحة بعرشه٬
يركل الكلب ..إبن الكلب ..تطوح الركلة ب״ المجحوم״ عاليا !..عاليا  !.. تتلقفه أحضان الإسفلت   ..لكن بدون برد ولا سلام .  
يحاول أن يحتج ٬ يطالعه وجه الرئيس غاضبا٬ يغص حلقه بالنباح كما غصت حلوق ملايين رعايا الرئيس بالإحتجاج   في حياته .       
يعود الزعيم إلى وقفته المهيبة ممتشقا سيفه الملطخ بدماء أبرياء شعبه .
العابرون في الشارع الرئيسي-  الذي هو بإسم الرئيس- يمشون مطرقين ٬ غير آبهين بما يفعله كلب״ ميشيل״ في الشارع
الرئيسي ٬ يستغرقهم التفكير في كيفية تحصيل  المواد الأساسية في ظل إرتفاع أثمنتها .  لكن في آخر الشارع ينتصب
المختار״ لقرع ״  بائع النقانق خلف عربته ٬لا تبدو منه إلا رأسه المليئة بالمقالب ...يحك فروتها  تتطاير القشرة منها ٬يتابع  المختار
كلب ״ المسيو ميشيل ״  الذي يمر أمام عربته مجرورا من طرف صاحبه . يخرج المختار عن صمته حينما يتجاوزه  الكلب
وصاحبه ״ آه ! الكلب أكبر من  مولاه!! ״  .

wland02هم يسرقون الآن جلدك
فاحذر ملامحهم وغمدك
كم كنت وحدك
يا ابن أمّي يا ابن أكثر من أب,
كم كنت وحدك
ـ محمود درويش ـ
يتهافت النّاس على الدخول في حركة مائجة من الازدحام والجلبة وكأنما يدفعهم دافع إلى الفرار من الشارع.
القاعة فسيحة تتّسع لعدد كبير من الكراسيّ والزّائرين.فضاؤها الدّاخليّ بديكوراته الأنيقة وأساليب تنضيد محتوياته على طرازات غربيّة بارزة الازدهار , يوحي بالتألق والفتنة .. على جد ران الغرفة الوسيعة تتدلّى صنوف السّتائر متناسقة في الطّول والشّكل مع طريقة التّشكيل المعماري للقاعة, وتتعدّد ألوانها بما يسمح بانسجام مميّز بينها وبين ألوان الجدران وطلائها وألوان المقاعد ولمعانها .وقد تتلاءم إلى مدى واضح مع ما يوحي به الرّكح من بنّيّة باردة تتحوّل إلى بريق برونزي كلّما شرقت فيه أضواء الفوانيس. وكلّما تراقص الضوء ,مضى ذائبا في ألوان الستائر, وسائحا في أخشاب المقاعد والركح. فإذا هما متناغمان في تأثيث مشهد الدفء والحفاوة للوافدين على المكان.

bellefemmeشاحبة الوجه ، تدور مترنحة  كعصفور جريح بين جدران الغرفة المعتمة إلا من ضوء تسلل خلسة عبر ستارة خضراء شبه مسدلة ، يسمح لي بالقاء نظرة على ساقها المتورمة ، وذراعها المصبوغة بالبقع الداكنة الزرقاء ، خلفتها آثار حقن الفحوصات المخبرية التي أجرتها على مدار يومين بعد تعرضها لتخثر دم في  الساق تشير الى جلطة مرت بسلام   .
كم من الوقت مضى على ذرف دموعٍ ساخنة أحرقت الوجنة وفتحت أخدودا على خدها الطري..؟
- لمَ لا تستلقين على السرير حسب أوامر الطبيب ، وتدعين الدواء يسري في الشرايين تخلدين بعدها  الى الراحة، مع كأس من العصير يعيد الى وجهك بعض نضارة وتتناولين قطعة بسكويت بعد إضرابك عن الطعام  ؟
- أخلد الى الراحة ..؟ ومن أين أشتريها لو كانت تباع ، وهذا الأسود ، الصامت ، الأخرس القابع على سريري يزيدني توترا، تشنجا ، وعصبية ، يأخذ ما تبقى لي من هدوء ، يحيلني الى بركان ملتهب يحرقني ، يصهرني ، يجرفني نحو سفح  عذاب مهلك  ؟
- ماذا دهاك وأنت الصلبة القوية ، المتزنة ، العاقلة ، الناصحة والمرشدة التي تضم صبرا إلى صبر توزعه وصفة طبية  ، وأنت من يتحدى الصعاب ، يتجاوز المحن، يصغر المشاكل ، يبدد  الهموم ، تواجهين بالعقل والمنطق نوائب الزمان ؟
- لا داعي لهذا الموشح ، أدرك من أنا ، وأدرك قدراتي ، أعلم من أكون وماعلي التصدي له  في  ممرات حياتي لكن في وضعي الحالي أشعر أني هشة ، ضعيفة ،مستسلمة لا أملك بصيص نور لخلاص ..!

AWLAD AAISAنظراته تعانق الأضواء المتلألئة من وراء الأفق...فتشرد روحه... تَلُوحُ له أشرعة آماله و هي تنعطف عند الأفق.. يتراءى له طيف حبيبته يلوح له من هناك...فاتحة ذراعيها لاحتضان أحلامه..تعده جنة الخلد.آآآآآآه من حبيبته، تلك الحورية من سلالة عيسى أرقت منامه...تأتيه كل ليلة تمشي بغنج و خيوط الشمس تتدلى ثائرة على ظهرها... يشحب وجه القمر أمام ضياء وجهها..و عيون تغريه بالإبحار في زرقة سمائها.
كل يوم كان يضرب لها موعدا عند قمة هذا التل، يناجيها فتحمل أمواج البحر آهاته إليها.. و نسيم المساء يداعب آماله و يسافر بأفكاره إلى ما وراء الأفق..ليعانق حلمه.

في كل يوم كان الحلم الجميل الذي تبناه يكبر في أحشائه حتى تحول إلى وحش ينهش أفكاره و يأسر إرادته ... أصبح كالمسحور.. لا يرى نورا غير ذاك المنبعث من وراء الأفق.

و حل اليوم الموعود.. اليوم الذي سيذهب فيه للأندلس فاتحا...قلبه للحب الجديد...سيغادر الليلة على متن قارب عند منتصف الليل . و ضع ماءا في حقيبته و فواكه جافة تعينه في رحلته على كتم صرخات أمعائه حين تنهشها مخالب الجوع... ثم جلس و عيناه تراقصان عقارب الساعة في إيقاع دقات قلبه المتسارعة كلما اقترب موعد الرحيل..

kmachineللرجة أن تأتي كالريح تجثث جذور الأشجان
أوردة القلب
من غيمة النبض
تنهمر القطرات رذاذا
وبالكف غير الريح أقبض عليها
فيسري  يسري
حلمها أثيرا
يسمح للرموش
بالانسدال
وللنفس بالارتشاف من حوض
الأوهام .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة