anfasseالحوار الأول
قال له عندما أحس أن الحوار أصبح جديا :
- العدالة المطلقة وهم نعتقد أنه حقيقة ...    
- والوهم حقيقة نسبية ...
- إذن الحقيقة والوهم لا ينفصلان و ضروريان
- أكيد ..أكيد ..في كل حقيقة جانب من الوهم ، وفي كل وهم كثير من الحقيقة...
- جميل ..إذا العدالة حقيقة نسبية فيها الكثير من الوهم ...
- لا..لا..لا العدالة وهم نسبي فيه من الحقيقة الكثير...
- كيف ؟ هل نحن نعيش وهما كالحقيقة إسمه العدالة ...

أنفاسفي ضجّة الأيّامِ والآلامِ والفرحِ أحياناً، وفي فوضى الأحلامِ والأوهامِ وهذا التأرجح الدّائمُ بين الزيّف والحقيقة والمشوّه والمخرّب والمكسّر وما بينهما، سيأخذكَ كلّ هذا إن كنتَ تعرفْ، إلى مفترقِ طرقْ، يميناً.. يساراً.. وإلى الأمام حيثُ أنتَ، وستكون قادراً على أن تزرع أقدامكَ، حواسّكَ..أن تزرعكَ، وتمضي في أيّ طريقٍ ستختاره، ستمضي في أيّ خيارٍ اخترته أنتَ، ووحدكَ أنتَ..ذاكرةً، سلوكاً يعكسك وتعكسه كمرآة.
أيّ طريقٍ ستمشيهِ ستخسرُ حتماً طريقينِ تركتَهما للفراغِ، فراغكَ.. ستخسرُ الأرصفةَ والتجاربَ ونكهةَ الأرضِ وما فيها ومن فيها من كائناتٍ، أحبّاءٍ.. أعداءٍ.. وأشياءْ.
إن الطريقَ، طريقكَ.. جزءٌ منكَ أنتَ، وبلون جلدكَ.. وبقسوةِ قدمكَ.. وخطوطِ عقلكَ.. وبأرصفة احساسك.
إنّ اجتراركَ لطريقٍ، تجربةٍ.. يفتح أمامك أبواباً للتيهِ والتردّد بدلاً من تراكم التجربة، الطريق.. وتكوينها لذاكرةِ وعي حقيقي تعرف نفسها، وتعرّفها وفق رؤية تفهمها ونفهمها..تنخرط معنا ثقافةً عملاً يراكمُ نفسه ويمشي في طريق الدّائرة الأولى والأساسية نحو التكوين، تكوين الذاكرة، تكوين الذات.. طريقكَ اذاً طريق واحد، ارتكاز لانطلاقك..

Natasha-Barnesوإني أنا الصبيُّ أصطحبُ رفاقا،تدفَّقَتْ ألوانُ جَلابيبِهِمْ أسْمالا،تغشى وُجوهَهُمُ الفِطْرة،قال صَغيرُهُمْ_أنا من كنتُ أحجبُ بالقميص لوْحَ الخَتْمِ المُبين تحْتِي ،مُزَوَّقاً لا أُريهِ لِغَيْرِي ولا لأحدٍ _وإن ألحَّ علي _حتى يأتيَنا بالفتح المُبين،أحرُفهُ ببهاء الستر مستور، مُغمض خلف ثيابي أقيهِِ بصدري وأمشي حافيا حتى يُدركنا الحالُ عصْرا،أو نتوسلُ لمن نُصادفُهُ طريقنا فينفَحُنا ببعض ما يَجُوُد به علينا،ذلك هو الفتحُ المبينْ.
ما كان أحمدُ إلا رفيقا يَحْمِلُ قفة القمح، وقفةُ الشعير_نحنُ علينا جميعا _حملُها بالتناوب بيْننا،نقْطعُ مسافةَ ما بين قصْر وقصْر ،والقصرُ ليس للملوك وإنما كتلةٌ من الطينِ احتلت مكانا يتصدره القوسُ هو عنوانُ الدخول.
تطايرتُ فَرَحا حين تفرّقْنا نسعى،نقِفُ على أعْتابِ الدِّيار زُرافاتٍ ونَصْدحُ بما علَّمنا الفقيهُ_ ليس نشيدا على نحو ما تعلمناه من المدارس_ ولكنه أحلى،نرددُه واقفين على الأعتاب:
"بيضة بيضة لله.باش نزوق لوحي...لوحي عند الطالب والطالب في الجنة،والجنة محلولة حلها مولانا.مولانا مولانا.يا سامع دوعانا.لا تقطع رجانا .في حرمة محمد.محمد واصحابو.في الجنة ينصابو.يا بارئ يا بارئ.يا مفتاح الهواري.والهواري قاري.ترحم من قرانا.سيدنا محمد عليه السلام.يا حجاج بيت الله،اما ريتو رسول الله ؟خليناه يتوضأ باش نقراو حجاب الله.عينينا وعنيكم في الجنة ينصابكم.داك الفاس المذكور في الجنة وعليه النور"وينتهي اللغط المباح.

 

أنفاسشُرع الستار الأحمر البهي.. في ظلام دامس:
.. وهو يحدثها عن الحب، قدَّرتْ وفكرتْ وقالتْ: "الحب طريق إلى الرذيلة، وأنا أريد أن أظل بتولا حتى مخدع من يكون زوجي"
"أنا أحدثك عن الحب ولا أحدثك عن الجنس، فالحب ثقافة أما الجنس فهو عودة طارئة ومتكررة إلى المنابع الأصيلة للطبيعة"
قاطعته: "الحب مجرد أكذوبة أبدعها الرجال ليقدموها رشوة لجسد  للمرأة للحصول على جسدها، فليست هاته الكلمة تحيى إلا في مجتمع الروايات، أنا أرفض قطعا أي حب قبل الزواج فهو رذيلة وعهارة وحقارة.."
علقتُ على المشهد: ربما ملاك تائه.. لا قطعا لا ملائكة تمشي على الأرض"
*   *   *   *
وهما يجلسان وعلى مرمى من نظرهما عشيقان يتبادلان الحب ويقتنصان لحظات من اللذة، قالت له وهي تسرح خصلات شعرها على ردائها الأحمر: "أنظر كيف تسمح له هاته الوقحة السفيهة بأن يمرر يده على كل مفاتنها وهي تغط في نوم عميق بعدما سحرها بكلماته وأكذوباته.."

abstrait32ذاك الصباح المشرق وتلك العاطفة التي كانت تدحرج قلبه في مكانه مرات عديدة. كانا المرجع الوحيد الذي كان يجعله يرفع رأسه أمام السماء الغاضبة والناقمة. تتغير أفراحه بأرقام عاجلة... مختلفة الأحاسيس والعواطف الظاهرية والباطنية في جوارحه العميقة. وفي إثرها تتعدد المشاعر وتغدو ذات أهمية..
ها هي حبيبته تحوم حوله ووراءه تحيط بجثته الهائلة، فيلوح له اللون الأحمر القاني يمازج الألوان النيوتينية، يراها تمتزج وتختلط وتتعكر لتشكل طاقما واحدا رائعا وهندسة خادعة. لكن اللون الأحمر بطغيانه وجبروته المعتاد على كل الألوان، كان سببا في إعادة الأشكال الأصلية إلى ذاتها، والطبيعة الشحيحة إلى وفرتها، والأحاسيس الدافقة إلى نعومتها، كما لو أنها في حاجة إليه دون أن تفصح عن ذلك من قبل. البحر يحتضن تلك التغيرات المفاجئة التي طرأت على كل شيء، وكأنها نوتات موسيقية خلقت لتوها من أعماق المياه، بل كأنها رسالة من تحت الماء على حد قول الشاعر، ممزوجة بترنيمة لحنية رائعة بصوت الفنان الراحل .
العلاقات العاطفية التي تعم الفضاء المشحون بأشعة الشمس الدافئة، لا هدف لها سوى التحالف مع هبات النسيم الممكنة، ولا طائل منها سوى الروايات الممرضة والاستعراضات التافهة .

abstract30لمّا تمكّن الشّتاء من الأيّام، كانت خيمة ناصعة السّواد تنتصب على ذروة الصّقيع من الحيّ الجبليّ الكابي، وعُقرَها قبع زوجان لم يمض على زواجهما غير بضعة أيّام وحَبْل الصّمت الممدود بينهما يرتخي ويشتدّ. 
كان منصور يَسُوم أحلام العودة إلى البيت الكبير بعد أن لم يبق من الغنم ما يرعى ، بينما اِلْتفعت عزيزة بوشاحها ذي الصّفرة الأنيقة وجلست تغزل من تراث الأيّام المنصرمة القصصَ الجميلة لتسردها على أطفالها القادمين حتى لا يعتري الماضي نسيان.
كان والدها شيخا يدرج في الهَرَم ببصر وقور وسمع ذاهل وصوت حسير يصخب في الصّدر ولا يجتاز الحلق بغرغرة . وكان جسمه المنهوك مسنودا على ليل جدار لا ينْضُب ظلّه من النّهار إلاّ يسيرا.
حاذت مجلسه فتفرّق بريق عينيها المُسْهَدِ على حشايا الظّلام تنبسط ملاجئ لعابري الرّهق وسائلي النّسيان .
ضوء رديء ينتثر صدر الحَوْش ويُعْرضُ عن الزّوايا فتبدو منزوعة عن المكان بلا رَحِمٍ . سماء بعيدة جافية . وِحْشة تؤثّث الفضاء مرارة وتوجّسا .
عَنّ لها فسألت : "أأموت وحيدة يا أبي وأخواتي في النّساء سِتٌّ وأزواجهنّ كمثلهنّ عددا ؟

 

abstrait28تناهى إلى سمعه وقع أقدام تعتلي الدرج بعسكرية واضحة !..ألم يسأموا بعد ؟.. طرقاتهم كادت تخلع الباب .. هب من سريره ليفتح.. لم يمهلوه حتى يستفهم .. ألقوه على الارض منبطحا .. قيدوه ثم شرع كبيرهم يردد نفس الاسئلة الرتيبة .. قرر ألا يجاريهم هذه المرة وينفي ما يلصقونه به من تهم .. بل يلوذ بجدار الصمت و يترقب الفرج !
ـ تكلم يا ابن الـ.. أما سئمت وجباتنا الدسمة ؟.. متى ستفصح عن نواياك الارهابية ؟
قلبوا محتويات الغرفة راسا على عقب .. وقعت عينا كبيرهم على مجلد كان ملفوفا في ورق صقيل .. تفحص العنوان قبل أن تنفرج اساريره عن ابتسامة خبيثة :
ـ وقعت يا ابن الـ... سلكت سبيل المتفجرات إذن ! .. تقرأ عن " الصواعق المرسلة " .. ومن " ابن القيم " هذا .. أهو زعيم التنظيم ؟
دنا منه أحد معاونيه ثم همس في أذنه فاكفهرت ملامحه فجأة..
ـ أتهزأ بي يا ابن الـ.. ؟!..سأسلخ جلدك كما يُسلخ البعير.. سأنتزع الحقيقة من بين اضراسك يا ابن الـ.. أنا كبير المحققين في البلد أغدو أضحوكة للملتحين أمثالك ؟

nuageكنت أسير على الرصيف الأيسر في شارع كبير، طبقا لنصائح المختصين في السلامة الطرقية ، حتى أكون مواجها للسيارات القادمة من الاتجاه المعاكس ، وأستطيع بذلك رؤية كل خطر أو مناورة غير محمودة العواقب ، سيما وأن السائقين في هذه الأيام ، بفعل الضغط وتأثير المشاكل اليومية أصبحت سياراتهم تتحكم فيهم أكثر مما يتحكمون هم فيها.. لذلك ، وأنا الحريص على حياتي ، أو ما تبقى منها على الأصح ، لم أكن قط لأجازف بها في طرقاتنا المميتة.. لذلك اطمأن قلبي وارتاحت نفسي وأنا أسير واثق الخطو سعيدا بأنني هنا في مأمن من كل خطر داهم..

كان الشارع الطويل أمامي فارغا إلا من بعض المارة الذين اضطرتهم الظروف ، مثلي ، إلى الخروج في هذه الظهيرة القائظة من يوم صائف محموم.. توقفت قليلا عند بائع فواكه احتل عنوة جزءا من الرصيف ، نشر فيه بضاعته واستلقى إلى جانبها في ظل شمسية مهترئة.. سألته عن أثمنة ما يعرضه من فواكه ، فرد علي في تثاقل دون أن يغير من وضعه.. تحسست جيبي وأنا أعلم أن ما فيه من "صرف" قليل لا يكفي حتى لربع ما طلبه من ثمن..