aveugle.jpgوئيدا كان يمشي. تقوده خطوات الظلام والمجهول. يصارع ريحا تصد تقدم الجسد النحيل في جلباب أبيض يرفرف بعنف المنتفض. ترك العكاز في البيت، وتخلف عن موعده مرافقه الدليل، فاضطر إلى خوض الطريق بعينين فارغتين تغطيهما نظارة شديدة السواد. لم يدرك مأزقه إلا حينما توغل في دوامة الطريق والريح الغضبى؛ حيث إكمال المشوار صار أرحم من العودة. كانت الريح تزداد عنفا وبؤسا واختراقا لوجدانه المهزوز.. لذلك ركز كل اهتمامه على ألا يقع أرضا فيفقد بوصلة التركيز وزمام الاتجاه.. يخطو بحذر.. يمد قبضتيه إلى الأمام  كأنه يمسك بلجام الريح أو يلاكمها. عيناه لا تطرفان وفمه نصف مفتوح رغم صبيب الريح فيه، فيما رأسه المائلة مدفوعة إلى الأعلى كأنها تطمئن على وقع أقدامه.  
    غالبه القهر والتذمر، فشرع يلعن في قرارة نفسه الجرأة التي أوهمته بيسر الطريق وقدرته على الوصول من غير عيون أو دليل. وعرته الوحشة حين أحس بخلو الطريق.. وحدها الريح كانت تعربد في الفضاء، تحدث أنينا وخشخشة جراء احتكاكها بالأرض والأوراق والأشياء...
    تثاقلت خطواته لما سمع حشرجة سيارة تقترب منه. حاول تجنبها بحدسه لكنه خاف من التورط أكثر فتوقف مؤذنا باستسلامه للموقف تاركا المسؤولية للسائق ليختار طريقه. وحين مرت السيارة بجانبه تناها إلى سمعه من داخلها صوت "أم كلثوم" وهي تصرخ صرختها المشهودة؛ ( فات المعااااد). شق الصوت طريقه بعنف داخل نفسه المجروحة، وتفاقم لديه الإحساس بالوحشة والضعف. وشرع يمشي من جديد.. بتثاقل وإحباط.. مكتويا بالمواعيد الهاربة.

ANFASSEيترنح السكر في كل خلية من خلايا جسده الضخم الفارع، وحبيبات من العرق الفضي تتلألأ فوق جبينه وتغطي أنفه وتتراقص فوق شفتيه الغليظتين. وكان الرجل الستيني يسير ببطئ في زقاق ضيق يغرق في ظلمة تامة لا يبين فيها سوى بعض الأضواء الوانية المتوجهة على استحياءٍ كأنما تكابد خجلاً مما تقف عليه من أسرار الليل. كان يدمدم بكلمات لأغنية خليعة. هذا الليل السكران معشوقه ونديمه، وهذه السكرة كل ما ينال من لذة هي الغياب بعينه. يطيب له الغياب عن حقائق حياة لا تفترق عن البشاعة إلا باللفظ، وحتى اللفظان باتا في ذهنه مشحونين بذات الصور والمشاعر. فكلما قال "حياتي" تواردت في ذهنه كلمة "بشاعة"، وجاءت تتهادى في مخيِّلته كراقصة متصابية أناخَ القبحُ عليها بِكَلْكَلِهِ، تنبعث منها رائحة كريهة وتشع صورتها بوهج يبعث على الغثيان.
وعلى الرُّغم من انسياقه وراء سكرٍ مفرط متواصل، فقد نمت لدى الرجل العجوز، وعلى مَرِّ السنين، غريزة من اليقظة البالغة يفرزها خوف فطري تطور في ذاته على امتداد عمرٍ من التَسَكُّعِ في الشوارع والحواري، إضافة لما تعرض له من تشريد وترهيب في صباه وشبابه الأول. وكان في أيام الصبى كلما قفل راجعا من العمل إلى مخبئه الحقير عند المساء استنفر كل حواسه وأعصابه تَحسُّباً لأي هجوم مباغت قد يتعرض له على يد أحد زعران الأحياء وما أكثرهم. كانوا يتعرضون لعاثري الحظ في ظلمات الليالي سعياً وراء المال وأشياء أخرى ثمينة. وكان قد سمع منذ بداية وعيه الكثير من القصص المخيفة، حتى أنه عاش إحداها بنفسه، إذ انقضَّ عليه ذات مساء، وكان لا يزال شاباً يافعاً، شابان في أحد الشوارع الضيقة المظلمة.

anfasseنجمتي الزاهية في خريف الزمن,اكذوبتي الجميلة في زمن الخريف,انشودتي الباكية خلف جدارالعمر ,خطيئتي المصلبة فوق جسد المسيح , رغبتي العطشى في جوف المحل , احلامي التائهة على ارصفة السماء , اسئلتي الحائرة في دواليب الضباب , امانيي المبعثرة على اطراف الليل , نوارسي الحبلى بعشق الرحيل , دموعي المسافرة على اجنحة الضوء
وبعد ,,,,
اعبث بالقدر كما يعبث بي , الهو بالحزن كما يلهو بي , ابعث نبياً ..احمل رسالة الشك وادعو الى الوهم واقدس الخيال وأعد بجنة خلت من كل شيئ الا من الالم.
يبغضني الزمن واسخر منه , تلفظني الحياة واركلها من الخلف, يمقتني التاريخ وألعن نشأته , تختلس ايام عمري اللحظات واختلسها من ايام عمري , تتجاهلني الارض واغازل السماء , تسكنني الريح واسكن العراء , اقذف الليل بالنهار واغتصب النهار في الليل , اعاشر الحياة وادفع لها ولا اخشى عليها من تشوه الجنين كما شوهت جيناتي وكما زُرعت في رحم القهر واستقبلني العبث وعلمني اليأس نطق الحروف السوداء , الثم الجرح تتلاشى المعالم وبيبقى الانين.

rue111.jpgتعالوا نستمع إلى كلام لا يشبه الكلام.. كلام عن طفلة خانها المنطق واغتالتها أيدي الآثام..
تعالوا نحكي حكاية عن  صبية كانت مثل خيمة في صحراء قاحلة تحِنُّ إلى سفر جديد..أو عن وردة داستها أرجل المجون بقسوة..أو عن عصفورة أجلتها أيدي الخطيئة عن عشها الآمن فهي في مهب عواصف الآلام..
كانت هنا.. في هذا الشارع العريض المهترئ..تلك الخيمة..تلك الوردة.. تلك العصفورة..تغزل على هذا الرصيف المغبر أحلاما واسعة كعينيها.
كانت هنا.. تبحث عن كينونتها المفقودة في أطراف الشارع الرتيب.. وبين فراغات حاناته الباهتة.. وقصب أكواخه الكالحة .. وبين هشيم زجاج النبيذ الفاسد المتناثر على قارعته.. وتحت أبوابه العتيقة المقوسة.. وبمحاذاة صفائحه القصديرية وجدرانه الطينية المنقبة والملطخة بالأوساخ والكلام البذيء الفاضح.. وفي أركانه الملوثة بالقمامات العفنة.
كانت هنا قبل عشرين عاما.. في عمر الزهور. .طفلة مشردة تفتش عن نفسها..عن امرأة في أحمر شفتيها..تستعجل أنوثتها وحرارة صيفها.. وطيفُ الشوق إلى كواليس المستقبل يرفرف في عينيها كفراش جامح.. طليق..

amour.jpgاِعــترافٌ
أحـبَّها بصِدقٍ .. رأى فيها الأمّ والعشيقَـةَ .. عـرّاهـا كم مرّةً، ضمَّهـا بين أحضانِـهِ،  رشَفَ دمَهَـا، وقـبَّلَ أصابـعَ رِجلَيْها

فِتْـنَـــةٌ
دائـماً ترمُقُـهُ بعينيهـا السّاحرتين .. تعشَقُـهُ حـدَّ الجنونِ .. حبُّهـا صمتٌ .. هُدُوؤُها حربٌ .. ابتسامتُها طلقـةٌ ناريـةٌ ..

خَـيْبَــةٌ
صَفَـعَتْـهُ بيدٍ من حديدٍ .. لم تُقـدّر عِشقَهـا لـهُ ولاحُـبَّهُ لجنُونِهـا تجاهَـهُ .. رمَـتْهُ في دوّامةٍ من التفكـير وغابةٍ من التيـه ..
عـرّتْ أسرارَهُ وشَـرَّحَتْ وجِيـبَ قلبِـهِ بعد أن طَعَـنَتْـهُ بسيفٍ خَشِيبٍ.

souffrance.jpgالأول  :
عرف  بالإنضباط  والإستقامة ...بالتضحية والحكمة....منح عدة أوسمة لشجاعته وتفانيه في الخدمة العسكرية ، في أوقات السلم و أثناء الحروب....وهو يقود فرقة من المدرعات ، تأمل المشهد أمامه....نيران مشتعلة ،دمار في كل مكان ...جثث حيوانات وأطفال متفحمة ...جرو صغير يزحف على بطنه ...فجأة جاءت أوامره صارمة ...دارت المدرعات نصف دورة وبدأت في التقدم وإطلاق النار...
 
الثاني  :
تأمل حياته الحافلة بالأ حداث ...حقق نجاحات كبيرة وأثار غيرة  الأصدقاء والأعداء ...
حصل على كل شيء ......شهادة جامعية عليا ومنصبا رفيعا ....زوجة غنية وعشيقة فاتنة
...باع أصدقاءه وإشترى آخرين.....غير سياراته كما يغير الجوارب...وفي الأخير وعندما

ANFASSEأنتزعُ الخاتم من يده وأكتم صرخة كادت تخرج من بركان فمي لتذيب ما حولي ، يتراجع قليلا ،  يحدق بي مذهولا وينتظر رد فعل امرأة مرتبكة وكأنها لص يعرض بضاعته المسروقة ..!
ألملم اعصابي واستدرك بأن لا ذنب لهذا المشتري أنا من دخلت متجره وانا من تبيع ..
أضع يدي على السلسال الثمين  المعلق في  عنقي ( الذهب ليوم عسر، وقد جاء ) ماتبقى لي من عبق  الماضي ..
والخاتم المنقوش بحروف وتاريخ ، برهان ودليل مرور اسم  رحل وآخر  بقي  على هذه الأرض ليكمل المسير..
بصوت هامس أعتذر ، وأكتفي بما بعت ،  أقبض  المبلغ وأغادر ..
 وجهتي وأين أمضي أعرفها  ، لكني أجهل  كيف ومن أين، فتلك المرة الاولى التي تطأ قدمي منطقة شعبية مترامية الاطراف تدعى مخيم  (الوحدات )  سكنها  اخواننا الفلسطينيون بعد النكبة.
أعلق الحقيبة على كتفي ويتعلق معها حمل  تعب الأيام ، يثقل الجسد ، يتعب الخطوات ، ويرهق الأعصاب .

anfasseالبحر مازال يمدُ لسانه في اليابسة فيكوِّنُ شاطئين، شاطئ لكل ضفة. حلمتُ بالسفر على ظهر سفينة تجوب البحار، لكنني ظللتُ أسافر بين الضفتين اللتين يفصلهما الماء وبينهما قوارب الصيادين. أمشي على ذلك الشاطئ وحدي كل يوم، فأتذكرُ الأيام البعيدة التي حملها البحر في ذاكرته.
******
ولدُتُ مبصراً ولكن مرض الرمد الذي غير حياتي أقبل مع رياح الشمال، التي تأخذ السفن لوجهة بعيدة، أطفأ إحدى الحسنيين، وتعثرتْ الأخرى بعد أن أكملتُ السادسة، فتحققت نبوءة جدتي لأمي بأن أصبح معلماً للصغار.
 وقع اختيار إمام المسجد على ابن صديقه البكر ليكون مؤذن الحارة فأصبحتُ الطفل الشيخ. هكذا لقبونني عندما لازمتُ خطى المسجد منذ أن كنت طفلاً صغيراً.
طفلاً عليلاً بسببه تم طلاق أمه. هكذا سمعتها خلسة من جدتي، التي هددت زوجة أبي الثانية بالطلاق إن لم تنجب الولد القوي المعافى. كان أبي يرى أن المرأة هي سبب رداءة وقوة الطفل الذي تنجبه. رزق والدي بأولاد كثيرين بعدي صحيحي الجسم ولكنهم يموتون فجأة.