anfasse.orgكنت أراها قبل كل فجر، بهيأتها المقوسة وساقيها "الأفركين". تتوكأ على مكنستها وتحمل على ظهرها كيسا من البلاستيك الأسود، كذاك المستعمل لزبالة المستشفيات. تتوقف كل بضع خطوات لتلتقط أنفاسها. تستقيم من انحناءتها الأبدية، تجيل عينين غائرتين في جوانب الحي، ثم تنوء بحملها وتتابع السير.
أراها تأتي من أقصى الدرب. تزحف كحيوان جريح يلتصق بالأرض. تتوقف عند أكوام الزبالة على جانبي الرصيف، تهش عنها قططا سائبة، تجسها برأس مكنستها، قبل أن تلتقط منها ما تراه ذا قيمة، وتدسه في كيسها البلاستيكي الأسود. وحين يغالبها محموله، تضعه عن ظهرها المقوس وتجره على الإسفلت.
تمر تحت شرفتي حيث أدخن آخر سيجارة لي قبل النوم. تتوقف لترفع لي نظرا محدقا. وقد تفك المنديل عن رأسها، تشد به شعرها الأشيب المنكوش، تتنهد بنفس مسموع، وتكمل مسيرها. أحيانا تفوتني غير مبالية. لكنها تنتبه على وقع كحّاتي، فتلتفت إلي بنظرة من يتذكر شيئا نسيه في الطريق، تشرد قليلا في مكانها، ثم تتابع زحفها نحو البيوت لتنظف أدراجها.

anfasse.orgأوّلُ أيام الشتاء. أجلس خلف نافذتي مستنشقا طعمَ الغيوم. للغيم نكهة الحبق المذوّب في الحليب. سأحتفل بأوّل أيّام الشتاء – تلك عادةُ الطير الكناري و ذئبِ الجبال – أطفئ ضوءَ الكهرباء و أشعل شمعة ... يُضيء المكانُ ! أعبّئ كَأسَيْ كريستال نبيذا فاخرا. أشرب كأسِي و كأسَ الخريف الذي قد مضى. أسحبُ قـُرصًا ليزريا من جوف مكتبتي: كونشيرتو التشيلـّـلو الأوّل لهايدن. أضعُ القرصَ على الجهاز. تنحني إبرةُ التشغيل في رهبة. تتدفـّق موسيقى البيان / يلتمعُ البرق ............
لا شيءَ يحدث الآن !
وحدي أنا هاجعٌ خلف نافذتي. لا شيءَ يعكـّر صفوي، مثلَ قوقعةٍ مضمومة على مجاهلها. أنا هادئ هذا المساء. أرائكي الخمسُ هادئة ٌ، عوارض السقف، وسائد القطن، مكتبتي و طاولتي و لوحة الزيتِ ( مات صاحبها). أنا الآن صاحبها....
لا شيء يحدث الآن !
مازلتُ خلف نافذتي. أراقبُ برجَ الحمام عند السطح. لو كنت حمامة (أقول في سرّي). لا شيء يعكـّر صفوي.أدندنُ اللحن الحزينَ محافظا على رشاقة الأسلوب، فيحملني الإيقاع صوْب غابةِ سنديانٍ داكِن. الغابةُ حائط أشجار و نباتٍ. لا بابَ لأدخله أو دربَ لأسلكهُ، فالغابة محض جدارٍ. لكنّ الأمرَ بسيط جدا: آخذ جرعَة من نبيذٍ فاخر، فيتـّضحُ الطريق (شبه دربٍ ضيّق تحفـّهُ الأجمات). أخوضُ في الأعشاب و الطحْـلب المغمور بالضوء و الأملاح مقتفيا خطوةَ عابرٍ سابق – لا أعرف إن كانت خطوة إنسان أو حيوان بري - ...... ........ لا زلتُ أمشِي.

ANFASSEما إن بدأت وتلامذتي أكل حبات الكرز التي ضيعها أبو فياض بسلتها حين تيهته الحرائق التي التهمت العاصمة وأتت على الأخضر واليابس فيها، حتى سمعنا دقات خجولة على الباب..أسرعت وفتحته.. سلمتني الورقة المطوية وهي تقول: يقول لك أحضر مجلس التأديب حالا..اترك تلامذتك وتعال..
ـ هل أترك سلة حبات الكرز ورائي؟ تساءلت في السر..
ـ لا..أجبتني في السر أيضا..
عدت إلى المكتب..حملت السلة وخرجت..وتركتهم  يبحلقون في الباب مستنكرين..
دخلت مكتب المدير..قابلني وجه عمر مباشرة..                                                                                
ــ سبقتني ياعمر.. قلت..                                             
 ابتسم عمر ولم يقل شيئا..
نظر وهو ينزل من الحافلة إلى الناس أمامه..ومشى.. كان التعب باديا على وجهه..وكان الناس أمامه يتحركون ببطء..يتسلقون الطريق الترابية الضيقة التي أخذت تصعد به إلى القرية..الأشجار صفراء والمنازل يملأها الغبار..

anfasseشروق ..غير متوقع
خطر لي مرة أن الملم النجوم من السماء ....فتسلقت سلم غبطتي وبدأت الملم الالق وأدسه في جيوبي حشرا ً..... وقبل أن امتلئ....أشرقت الشمس من جيبي.....!
.............................................
مملكتي ...مكنستي ....وأنا...!
حين جاء الليل غطى بإزاره الحاني عرج كراسي الغرفة المتهرئة الحيطان أخفى شقوق ستائري ونامت الأواني المتصدعة الشائخة في مكمنها المظلم فتحولت غرفتي لمملكة من مرمر ....تسكن موج البحر الفيروزي ....درت ارفل بحرير أثوابي معتمرة تيجان ورودي النضرة ...وجاء الفجر ...فمدت الشمس أصابعها من ثقوب الستائر ....مدغدغة جفوني الغافية .......لتعود الفئران الصديقة تتقافز حولي ملقية تحية الصباح ......وأعود أنا ......
محض سندريلا بعد الساعة الثانية عشر...

anfasseإني أراك...
كما أنت، هزيلاً تنهشك الأمراض، وضعفك يسري بين يدي.
أراك...
متيبس الأضلاع، تهوي روحك في قيعان سحيقة، ألتمس جبهتك العريضة، حارقة كهجير آب، أتمتم بآيات من الرقية التي حفظتها مذ كنت صغيراً، وجسدك ممد إلى آخر الدنيا. أحاول استمطار الكلمات، الهذيان معك بأي شيء، لكنك غائب عنك، عن كل ما هو حولك، ورعشة النزع تنتابك، فلا تملك سوى الاستسلام. عيناك تحدقان في الفراغ، وسكون الغرفة يزرع الرهبة فينا، فلا نجد غير الصمت كي نلوذ به. وبين الفينة والأخرى تشخر أنفاسك لتقطع شريط الذكريات الطويل. يسألني أحد أقاربك:
- ألست من جاءنا بالخبر؟!
وصمتي هوية لا أحمل غيرها.
يعاود السؤال مرة تلو أخرى دون أن يحظى بإجابة تشفي غليله، أو تطفي ذلك الفضول الكامن بين شفتيه، فيقرر الانسحاب من الغرفة، ونحن، كما كنا منذ عام، ألف عام، وحدنا، ننتظر أن يستفيق أحدنا كي يخبر الآخر أين هو الآن؟ أأنت في الجنة أم نحن في النار؟

anfasseرأيته فى مساء ذلك اليوم هادئاً على غير عادته،ولولا أنه مر بجواري كأنه لا يعرفني لشككت أنه في طريقه للتعافي،لكنني حينما لحظته ـ بعد وقت قليل ـ بمنتصف الش،يخوض معركة مع أشباح،يخرج على الدوام من عراكه معها خاسراً،تأكد لي أن حالته تزداد سوءا.
بمنتصف الشارع الذىيشق قلب بلدتنا ،غير مكترث بأبواق السيارات،وزحام المارة يواصل عراكه فى شراسة مع أشباحه ، فتراه يقبض بيديه على الهواء فى استماتة على عنق أحدها،وفى هستيرية جنونية يصرخ فى وجهه معنفاً،وكالعادة ينجح الشبح فى الفرار،ويسقط "عارف"مغشياً عليه،حتى يجد من بين المارة من يتبرع بإفاقته.
يجر قدميه فى تهالك،يجذب كرسياً خشبياً،وبوجهه المحتقن،وأنفاسه اللاهثة يجلس قبالتي، فى استسلام تام لحصار عيون عيون زبائن مقهى فضولية تحدق إليه فى وقاحة،يرمقني بنظرة واهنة تثير شفقتي،وتدفعني على الفور لمناداة النادل :
،قائلاً: "شاى للدكتور"كما يروق له مناداته،فيفتعل ابتسامة باهتة،ويواصل شروده.
من علبة سجائري التى توشك على الانتهاء،أشعل له سيجارة،يتابع فى استغراق تام سحابات دخانها، يوقظه صوت النادل ملاطفاً:"أحلى شاي بالنعناع لأحلى دكتور "فتصدر عنه ابتسامة ودودة، تخفى قلة حيلة، وشكر لم يقو صوته الهارب على النطق به.

anfasse"ربنا لا تغفر لنا "
د. السعيد بوطاجين  

  استيقظت قبيل الفجر و المدينة ساكنة سكونا يكاد يخفيها عن أنفاس الوجود..فتحت النافذة
و تنفست بعمق و الليل يعزف سمفونيته الاخيرة.
     أمير الفضاء لا زال ينشر أجنحته النورانية على الخلق كما أراده بديع السماوات و الأرض.. دقائق الاثير حابلة بشيء لا يفنى..الهدوء ، السلام ، النجوم ..علائق الود متجذرة عبر الازمان .. الفلسفة الخفية ، الجميلة منشورة ..منشورة للعيان.
 الناس نيام ..ليتهم يظلون نياما !..
وحده الموشوم بالفقر و الحرمان يخرج من بين فلقتي الظلام يدور في أنحاء المدينة، يود لو يغطسها في الماء المبارك لتصبح نقية ، فاضلة..
وحده المصلوب على وحدته و وحشته يدفع تابوته الخفي كل ليلة عبر الطرقات المتربة و الزوايا العاتمة يريد أن يطهرها ، أن يرشها بالمسك ، أن يحتويها من أول الليل الى السحر.

anfasseضمائر
 هو
 كان يعقر راحلته. يتوه في الطرق يجمع أكواما من حجرٍ، ويحفر حفرا؛ يبيت فيها ثم يمضي يتبع الشمس يريد أن يلحقها.
انا
كنت امشي أفكر أمامي. كان ظلِّي يتبعُني؛ يمحي أثري عن الطُرق ويُبعد عنِّي الماضي الذي لا يريد أن يتركني .
نحن
كان يتوه يعقر الرَّاحلة...كنت أتوه أعقر الماضي
هم
كان ظلِّي يدفن الراحلة في الحفر

عمُر
كان يجتاز عمره بكسر الحصى
ذهب العمر وبقي الحصى

مفضلات الشهر من القصص القصيرة