anfasseتصاعدت الحناجر هادرة تلعلع في المكان. نظر إليها وهي مازالت ترفع عقيرتها بالشعارات الرنانة الطنانة وسط زغاريد زميلاتها.
قال لها:
 - ما رأيك لو ننقل المظاهرة خارج هذه الأسوار؟
دون أن ينتظر ردها جرها من يدها. غير بعيد عن الأسوار، وهما يفترشان العشب تناوبا عن الصراخ واللهاث ورفع الشعارات. فرغم أنها بدت متحشرجة مختلفة، إلا أنها كانت في نفس حدة وقوة الأصوات التي تصلهما من هناك. وفي حمأة احتجاجاتهما الهذيانية سألته:
- ما الفرق بين الصراخ هنا في الداخل والصراخ هناك في الخارج؟

anfasse- أعترف .... و لم لا ؟؟؟
- سأعترف، أو بلغة اليوم، أمارس نقدا ذاتيا. أنا وأعوذ بالله من قولة أنا، مشروع كاتب فاشل مع سبق الإصرار و الترصد.
- أدخن بشراهة كبطة منقوعة بالماء، أو قل : كمصنع ارتأى ربه أن يكون في خدمة بيئة سليمة...
- ها . . ها . . ها . . أراك تلوي شفتك العليا متهكما ، لا يهم . . المهم يا صاحبي أن تعلم، جازاك الله و أيدك، أن أصعب أوقات الإنسان حينما يتراءى لنفسه كديك منفوش أو كلب أجرب في أحسن الحالات، و قد جربت و لا فخر الإثنين . . .
- قبل أن يتمم كلامه (أقصد صاحب البذلة السوداء  التي انمحى لونها و ذا الشعر الأشعت) كان بلحراكة قد تنحنح :
- " يا بسم الله، على بركة الله."
- و أدار محرك سيارته (الرونو 18) البيضاء كسحابة صيف، و سلك الطريق الجنوبية.
- جلست بقرب الرجل الذي بدأ حكايته الآن، و قد تعتعه السكر، و كل ما يسكر فهو خمر، و كل خمر فهو حرام، حتى ذلك الذي يعبه صاحبنا من حين لآخر.

anfasseالتقط من بين كل تلك الأوراق المتزاحمة على المائدة تلك الورقة المنكمشة التي من المفروض أن تلقى في القمامة. فتحها محملقا بين سطورها دقائق حسبتها دهرا. سطور أعرفها كما قلمي. كلماتها تفر حينا وتركض حينا آخر وبين الإقبال والأدبار ، تتلاشى الكلمات على جسد تلك الورقة العارية في منافي من صمت وسكون.
في ذلك المكان البعيد عن كل الأوطان، وقفت تلك الكلمات عند مفترق الطرق، كما لو كانت جليدا. كلمات كانت تحلم بالمدى، شاردة، حاسرة القلب، تصطك بين جبال الموج التي تضرم فزعها الغافي وتيارات التيه تقود حروفي لتختفي في ظلام بارد كالصقيع. سواد حالك يحضن الليل وينام في زوايا السكون فاقدا كل شيء. سواد محفور في حنايا القلب، يجامل ويؤلم وينخر ويتعب وفي الظلام وشاح بكل الألوان.
هكذا كانت تلك السطور مجنونة في متاهات الشرود، تتهافت في زحمة الأفكار المنكسرة، تئن بصوت مبحوح عن المساءات الماسية، وعن ظل منكسر، ووحدة مرتجفة وعن تنهدات تبكي ألم الغموض، والصمت المتواطئ في جحود وشذوذ وفراغ.
أهو الألق من القلق أو ارتباك الخوف من المجهول؟ أهو الماضي المخلوط بالحاضر ورهبة المستقبل أو سفر بين طرقات المنافي التي لا تنتهي  أو فقط حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان؟

anfasseجاء يسألني عن الطائر .لم أقل له إنّ "فضّة" ماتت وإنّني قد هجرت البستان ، لكنّ عينيّ تسلّقتا وجهه واستقرّتا على شواطئ عينيه ،تبحثان عن المنارة ...كلّ شيء كان منطفئا،والموج كان ثقيلا راكدا وما من نوارس٠قال: أو لم تعودي إلى هناك ؟ قلت: وما حاجتي ؟ردّ مقطّبا : كأنّك نسيت ...سقطت كسوف من قلبي وتناثرت في كلّ مكان ورأيته كالقافز يبتعد متحاشيا أن يصيب دمي حذاؤه .حذاؤه الذي كان تائه الخطوات كعادته ،أسود اللّون كما رأيته آخرمرّة  و مزيّنا بما يشبه المنجل الصّغي في أحد جوانبه٠يصعب نسيان التفاصيل الأخيرة إذا كنّا نقتحم العالم بعين شغوف٠كدت أسرّ له،احذر أن تقع على وجهك مرّة أخرى٠٠لكنّي أحجمت٠

anfasseلم يكن مليئا بالركاب والأمتعة فقط بل بالانفعالات أيضا. انه قطار قديم أشبه بتلك التي تقل الجنود وكما في قطارات أفلام الحرب .
و"منذ صنعوه منذ بدأ يعمل وهو ينطلق بنا" . بهذا حدثني جاري الطبيب الخمسيني ولم اكن لأشك فيما قاله بالكاد اذكر شيئا سابقا على صعودي اليه . لقد استيقظت على ضجيجه ونشأت على دعوة المبهمة، ورغم ان سرعته كبيرة إلا أن الوقت كان يتقدم بنا ببطء شديد. قليلا ما تحدثت إلى رفيقي وجاري على المقعد الجلدي . كنا نتبادل النظرات مع الاهتزازات العنيفة. وكان الصخب واللغط حولي يمتص رغبتي في الكلام ويبددها. حدث غير مرة ان هممت بالحديث فإذا بالضوء ينطفىء قبل أن اتفوه بكلمة. كان بوسعي بالطبع أن اتحدث في العتمة، وان اعلى صوتي ليسمعني جيدا خلال ذلك .
الا ان وقع الكلام في العتمة ليس كوقعه في الانارة . والحلول المفاجىء للعتمة يشتت افكاري ، علاوة على مايثيره من توجس مشروع فما الذي يمنع في الاثناء من ارتكاب جريمة خاطفة.
أما الجاران الآخران قبالتي ، السمين القصير والطويل الاصلع ، فقد كانا في انشغال عن كل ماحولهما، وينهمكان في احاديث لا تتوقف وبصوت غير خفيض عن الربح والخسارة واصول التعامل والفرص التي لا تضيع وعما يصح وما لا يصح . يتحدثان بأنفاس لاهثة وبتفاهم ظاهر ولا يعيقهما شىء : لا ظلمة مفاجئة ولا حال من هرج ومرج . ومع ذلك كان لابد لي ان اتحدث وأبادر الى الحديث . اذ كان جاري من النوع العادي الذي يبادلني صمتا بصمت وحديثا بحديث . . الانفاق . . انها الانفاق

anfasseمن فوهةٍ معلقةٍ في السماءِ هوى، تقلب مذهولا إلى أن اصطدم بالقاع البعيد، لم يصرخ؛ بل تحسس جانبيه، ثمَّ نهض، فصدَّه بابٌ انقفل، هاجمه، ولمّا انفتح، غرق في ضبابٍ غليظ!
خطا؛ فردَّه بابٌ جديد، وفي نهر الضباب تقاذفته الأبوابُ، فإذا هو في بهوِ يغصُّ بالجثث، فوقف يفغرُ فاه، ويقولَ:
- هنا عزرائيل هجم؛ أطفأ الوجوه، وبالكركم رشَّها، ثمَّ مضى!
وخارت بقاياه، فسقط؛ لكنّ بصره ظلَّ يجول، فالتقط ممرضةٌ بين الأجسادِ تحوم، حتى شارفت قامته الممددة، فأشهرت حدقتين في خيطٍ تدخله في ميسم إبرةٍ هائلة، ولمَّا في صدرِه ضربتها؛ ارتجف، فأجلسته بين راحتيها؛ تخيطُهُ كخرقة بالية!
لكن على غِفلةٍ هبَّت الجثث، تحملُ بقايا سيوف، وممرضته أرخت صدرَه، لتضع في فمِها طرفَ فستانها، وتغادره راكضة، فداسته الأقدام، وصلصلت السيوفُ ثعابين راقصة، وأخذ الرجال يذبحون رقابَ الرجال، وفي الالتحامِ كان الهتافُ يتلوه الهتاف، والشرايين تنفضُ الدماءَ شاخبة، ورأى الخلقَ يجرون زاعقين، ثم يهوون حولَه خرافا خامدةُ!

anfasseعلى الجسر الطويل الذي يجتاز بها دجلة ، رغم زحام السيارات، والسيطرات وعندما تمر كل يوم، كانت تلبس ذلك الوجه القاتم ، تتلصص النظر دون أن يراها احد، غارقة بعالم من صنعها، لا يمسه غيرها، تكللها نظرات الرجاء التي تودعها بها أمها، ترقب الطفلة التي شاخت، ترجو الله أن تعود إليها كل يوم، ضاقت ذرعا ببيتهم الصغير، الذي يطبق على روحها، يجلدها ذلك الحداد الطويل والذي يتلاشى مع الزمن، حتى يغدو هو الزمن، يندفع مع ثوب أمها الأسود، في تلك الندوب الكثيرة التي تغزو وجهها الأسمر، حداد وذهول فرضته على حياتهم، منذ أن تناقص عدد من في البيت، وتطايرت أجسادهم الشابة قسرا،  وسط الذهول الذي استقر في قلبها لا يفارقها ، ترتق اللحظات لتستل ذكريات أبناء رحلوا في جحيم أحداث عصفت بالجميع  ، فما عادت تعيش إلا فردوسهم  السماوي. 
لذلك ما أن تترك البيت وأمها، حتى  تنشر فرحها في تلك المسافة الممتدة على ضفتي النهر ، تتطاير روحها مع طيوره المحلقة ، تحاول أن تفك غلالتها قليلا ، تجعل عنقها يلامس أنفاس النهر، تنتشي بقبلاته، رغم أن الطريق قد يلحقها بكل طيش ولا معقولية الأحداث، بأولئك الراحلون، إلا أنها تبقى محتفظة بفرح مخبول لا تعرف له نهاية  .

anfasseبخفة كان إسحاق يمدّ عكازه لينقر الأرض ثم بقوة عليها يدب.. بساقه الخشبية يدب. ثم بطرف العكاز الذي انقلب إلى قرن استشعار برفق بالغ كان يحس.. كأنما يخشى أن يؤذي ظله الممدود أمامه أو يخدشه، فيلحق به الألم. ظله الذي كوّنه ضوء خافت لنصف هلال سافر ومكشوف، فنصفه الآخر سترته غيوم لونها فيراني فيها شحوب، كانت تعبر الآفاق مبطئة في طقس ساخن لا رياح فيه لتنشطه. إنه فوق هذا كفيف، فمذ كان صغيرا حوّل أذنيه وأنفه إلى أعين على الدوام مفتحات. لهذا صار بإرهاف في ضوء النهار يرى، وفي حلكة الليل أيضا بجلاء يشاهد. 
اشترى فرشاة أسنان حجمها كبير لتناسب سعة فمه، وكبر أسنانه الأطول بقليل من عقرب الثواني. بعدها مرق في زقاق ضيق ولف بطمأنينة من وراء الجامع، ومن هناك انعطف بجسده الطويل إلى الحارة الهادئة، وفي سكون الليل تسلل. وتحسس بطرف عكازه أوراقا متناثرة ملقاة في عرض الطريق وطوله، فخشخشت.. وفي الحال توقف.. ليس من أجل الأوراق توقف. وأتاح له وقوفه أن يتذكر أول ليلة اغتصب فيها زوجته زينب، فراح يدير وجهه على ما في عينيه من عمى نحو اليمين، وعوجه ثانية وسط الظلمة نحو اليسار، فلمعت بسرعة البرق بسمة حلوة واستطالت وهي تضيء على شفتيه فأوشك أن يقهقه.. فبدا لوهلة كأنه حشر وجهه عنوة بين ابتسامتين.. ثم ثبته في الوسط.. وببطء في طريقه القصير مضى. وكانت تلاحقه أصوات صاخبة ليست مضجرة.. لم يفهمها وربما خمّن أنه لا يستطيع أن يفقه مرادها أحد.. لكنه خمّن ما فيها من وعيد وتهديد.. فضحك أكثر، فتناثرت نهايات شاربه كعشب عشوائي ناشف، بعثرته ريح عاتية هبت فجأة في غير أوان. وارتفعت قمم حواجبه أيضا واهتزت هي الأخرى بغير حساب، فوصلت إلى منتصف جبهته اللامعة الأملس من قطعة صابون مبلول.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة