anfasse.orgملأت كفي بتفاحة وحذّرتني من ترك الباب. تفاحة كبيرة اضطررتُ لـمَسْـكـها بكلتي يدي. جلستُ على العتبة وأخذتُ أتفرجُ على المارّة في الزنقة وأتشمم مرة مرة تلك الفاكهة التي أحب.
لا أذكر أي فصل كان، قد يكون الصيف، وقد أكون في عطلة، وعمري في حدود العاشرة، ولا أصدقاء لي في الحي وقتذاك. لكن، أين هو أخي الأصغر ليؤنس وحدتي ؟ لعله نائم، أو كان قد مات... ثم فجأة وقف عليّ. لم أحس سوى بظله يحجب عنّي ضوء النهار. يبتسم ببلاهة، وجانبا شفتيه متحلبان بتُـفاله. ينظر في وجهي وإلى ما أمسك بيدي.
طلب مني أن "أذوّقه" من التفاحة، وقال أنه جارنا وأنه يراني ألعب مع أخي فــي السطح وأنه من "بْلادنا" وأننا لا نخرج إلى الزنقـة وو.. مددْتُـها له فقضم منها حتى رأيتُ عينيه تلتصقان بقشرتها، و...

anfasseوقت طويل مضى على جلوسي في هذا المكان الموحش، كنت أرى خلاله أطياف لأشباح لم أعرفها يوماً، أو حدث أن رأيتها، رغم أن شيئاً بداخلي كان يخبرني بغير ذلك، كأن الوجوه مرت في تاريخ الذاكرة البعيدة جداً، أحدهم يبتسم في وجهي وهو يلقي عليّ تحية المساء، بينما يهتف آخر باسمي وهو يشير بإحدى يديه مودِّعاً، وأنا لا أزال متخشباً في مكاني، تظللني عتمة الزاوية التي أركنها، وضوء هارب من فراغ يحيطني.
كثيراً ما كنت أسألني، "أين أنا الآن؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟" لحظات كأنني قررت خلالها الانسحاب كرجل الظل البائس، لكنني لا أفعل، أتسمر على أريكتي، تراودني شكوك بأنني سألتقيه هنا، وفي هذا الشارع تحديداً، وتحت هذه الشجرة أيضاً.
... وكأنه يفكر مثلي تماماً، يحضر إلى الحديقة، يجلس على الأريكة المقابلة لي، يبتسم في وجهي، يحدق كأنه يريد افتراسي، أو كأنه يراني للوهلة الأولى، يسألني:
- من أنت؟
أجيبه بكل تؤده:
- أنا يسري

anfasseعيناك مِثقابان في رأسٍ أشعث، والضابط - الذي كان فدائيا - يساومُ في السوقِ عيون الباعة الحيرى!
أنت الشرش مدوخُ اليهود! صدرك يميلُ الآن، والضابطُ لعينيك يتثنى، ثمّ يزود بالأكياسِ سلة ظهرِك!
عيناك مِثقابان، وساقاك برقة منجل! كنت سهما  في الريحِ، تُرقصُ عسكرهم من حولك! وأنت ابنُ أمّ الشرش! ساكنة الكوخ الغرفة، ثَملت بعودة الفدائيين، فهرولت بالجموعِ إلى الثكنةِ، هزّت ظهرها المكسور، ثمّ هاجت مثل قطة، يوم تلونت الشمسُ، والنسوةُ عن الزغاريد أفرجن!
كنت تُحملُ إليها؛ فتصرخ:
- هل مات؟
فتطلّ بعينيك المِثقابين لتغمز:
- لا

انفاس نتكان وحيدا ، سعيدا وهو ينتظر اطلالتها هذا المساء .بيد أن شعورا غامضا انتابه فجأة فغفى ...
ما كاد يستفيق من غفوته ويتبين ما حوله ، حتى غمس سبابته في جرح ضلعه الأيسر النازف ثم شرع في كتابة أول قصائده على ظهر العارية المستلقاة بجانبه !
تنبهت على دغدغة السبابة فوق ظهرها ..رفعت عينيها فصادف نظرها تفاحة ناضجة .. حدقت فيها برهة ثم ابتسمت في خبث وأغمضت عينيها تتحسس حركة سبابته وتتلذذ بايقاع بوحه الشجي !
توقف عن الكتابة مسحورا بحسن حرف ( الحاء ) المرح .. الفرِح ..حدق فيه ..حملق .. حرارة بدأت تحرقه .. حركة حرنت في حناياه .. حمى .. حواها في حضنه بقوة وحنان وفي حلقه تحمحم حشرجة ثم حلق بها مبحرا في سماء أول حب !
اندست داخل الضلع الدافئ من جديد .. موسقت أو ل ألحانها على وقع دقات قلبه .. ورقصت على ايقاع حشرجاته القادمة من أرهف وتر حساس في أعماقه ..لكنها كلما فتحت عينيها ، بين شهقة وأخرى ، يصطدم نظرها بالتفاحة الطازجة فتبتسم في خبث !

anfasse.orgأنا تمثال سومري افقده التاريخ رأسه ولم يبق سوى كتلة حجر جيري . ولمنامي دستور نصته علي آلهة العشق أن لا اغمض عيني فالمساحات بين جفني حافلة بحقائب العشق الأزلي .
فلكل القلوب شبابيك تطل منها حور للعشق امتلأت بها حروف تلمع من ذهب وفضة تداولتها المناديل لتزيد بريقها . إلا أنا ساد الصدأ فضتي وتآكلت من قحط . وفي كل ربيع ابحث عن حروفي التي لم يبق منها سوى الألف  .
 أدور في باحات قلبي كالطواحين العتيقة افقد في كل حين ذراع . ويَِِِِِهرمُ قلبي على قارعة الطريق متكأ على أعوام طفولتي. حتى باتت السماء تمطر نجوما ماسية ترمي بها في كل الاتجاهات لتضمر حينا أعمدة الرخام وتنهار علي قباب قلبي وأتناثر متشظيا وافقد ما كرست طوال أعوامي من شموع وأصوات وزغاريد وأفواه قابلة للتهنئة ولون ابيض كنت لطالما أخشى النظر إليه .

anfasse.orgخرجَ إلى تراس المنزل يستنشق عبير الصباح . تلفت حوله ، فرأى الذئب والحملَ ، يسيران متشابكي الأيدي ، بودًّ ووئام . رأى القط والفأر يتسامران ، ويتبادلان النكات بألفة ، وحميمية. رأى الدجاجة تبيض في وكر الثعلب . رأى نمراً يحمل بين ذراعية غزالة جريحة ، ويسرع بها إلى الطبيب ، والدموع تنهمر من عينيه ، لمنظر جرحها النازف . رأى الأفاعي تخرج من جحورها ، وتدعو الناس إلى النوم في العراء مطمئنين . رأى كلابا تزأر ، وغربانا تشدو .
وقف مسطولاً يرقب ما يجرى حوله . عادَ إلى غرفة نومه يتصبب عرقاً ، ويتأرجح على حافة الهذيان . صُدمت الزوجة ، وسألته مفزوعة عمّا حل به . توسل إليها بنبرة حزينة ، أن تتركه وشأنه . اختلى بنفسه ، وقلّبَ الأمور في كل الاتجاهات . اتخذ قراراً لا رجعة عنه ، بالاعتكاف في المنزل ، وعدم الخروجإلا متنكراً ، وللضرورات القصوى ، مثل شراء احتياجات المنزل ، وتوصيل الأولاد إلى المدرسة ، والعودة بهم منها . طَلّق الندوات،واللقاءَات، والمحاضرات ، وورش العمل ، التي كان مهووساً بها بالثلاث . أما المناسبات ، فقد اختصر حضورها على اقرب المقربين إليه ، ولساعات محدودة . أخطرَ الزوجة ، والأولاد بقراراته الفجائية ، وألا يأتوا لأي كان على ذكر ما عقد العزم عليه ، تحت طائلة الحرمان من المصروف ، وربما الطرد من المنزل .

anfasse.orgأيها الحُبُّ أنتَ الذي بكَ أعتصمُ
وإلاّ فمَن مُبعِدي عن زماني
وضيقِ كياني ؟
ولأيِّ النبوءاتِ يُنتَدَبُ القلمُ !؟
----------------------
حين نزلتُ من قطار المدينة الداخلي ( المترو ) قادماً من وسط المدينة باتجاه البيت شعرتُ وأنا أسير في الزقاق الأول أنَّ رجلاً يتعقبني .
الطريق من محطة المترو الى بيتي عبارة عن ثمانية أزقة فرعية تارة تتصل ببعضها وتارة تتقاطع مع أزقة أخرى ومع الشارع العام , مشيتُ في الزقاق الثاني فرأيته ورائي على بعد خمسة أمتار , غضضتُ النظر فمثل هذه الحالات تحدث , سلكتُ الزقاق الثالث فظل ورائي ومحافظاً على نفس المسافة ... لم أتكلم معه ,

anfasse.orgفي يوم كان يبدو من أوله أنه عادي كباقي الأيام التي تروح وتغدو حاملة معها أثقالا من الخطايا، دون أن يشعر بها أحد من الناس حين تمضي بهم مسرعة في هدوء أو مبطئة في صخب. في عصر ذلك اليوم العادي خرجت أسمهان في مشوار مهم، لتتفرج على سباق الجري لمسافات قصيرة.. الذي سيقام في أوسع ساحة في وسط البلد. وانتعش وجه أسمهان لمّا نفخت الفرحة خديها وصار لونهما أحمر بلون الكاتشب. وغلّف قلبها مرح كثيف فصار يدق في ثقة ويخفق، ثم صار يعزف في سرور ويترنم وكان لحظتها لا يزال بين ضلوعها في شغف يرفرف. وشعرت أن أمرا جديدا سيحدث في البلد، وما أندر ما يحدث في البلد من جديد. ولم تنس أسمهان في أوج فرحتها أن تصطحب معها زوجها شعبان النائم على ظهره، الغارق في قيلولته ومنهمك في شخير عميق فيه طرقعات متوالية لا تخمد، وقصف متواصل لا يخبو يصدره أنفه وفيه من القوة ما جعله يهزّ ستائر غرفة النوم. فمدّت المرأة أصابعها الأرفع من أصابع الفنانات، ومشت بها كلها صاعدة على جسده لتقرص بخفة قمة بطنه العالي لتوقظه. فاستيقظ شعبان مرتاعا بعد عدّة قرصات، ثم نهض عند آخر قرصة وكان باله مشدوها وهو يقوم في فزع والسرير يئزّ تحت ثقل جسده الكسلان.
 ثم خرجت أسمهان من البيت.. فخرج وراءها شعبان.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة