أنفاسليلة القبض على حلمي:
تتداعى الأصوات صاخبة، خافتة أحيانا. أصوات أليفة لكنها صارمة.. قف.. قف. لكن الحلم لا يتوقف.. تتناهى أصوات أخرى. بنفس الألفة ونفس الصرامة.. دعه يمر.
أمر أنا وحلمي.
قف.. قف. تتناهى أصوات خافتة مغمغمة. أصوات معركة شرسة داخل الحلم، خارج المعنى.. قف.. قف.. دعه يمر.. قف.. قف..
أتوقف.. لكن الحلم يمر..

anfasse.orgنامت تتوسده. لم يكن معها لكنه يعيش في مخدتها، ويضع كل يوم زهرا، و نوارا، و نيلوفرا، ونيرولي، و قشور برتقال، ...عطور الشرق ... بخورا......
فتحت درجها، و أخرجت لفائف الرسائل التي وصلتها الأسبوع الماضي، بعد أن وضعت صورتها  وعنوانها في ركن التعارف و الصداقة على جريدة اليوم.... كانت الرسائل من كل مكان .الجزائر،...مصر،...قطر،...عمان،......كانت أختها الصغرى تسخر منها . كانت تقول لها أنت من زمن الورق القديم ....ألا زلت تستعملين الرسائل العادية....تنفقين مما يعطيك أبوك الطوابع و الأوراق ....أما تزالين في زمن الحفر بالفؤوس؟....كانت تضحك ولا ترد....كانت تحب أن تكتب على الورق
و تحب القلم....كانت تمضي الساعات الطويلة في كتابة رسالة واحدة إلى أصدقاء كثيرين يحبون التعارف. ظلَّ ساعي البريد يمر كل صباح، وهو يكاد يسقط من الدراجة. كان المنزل في أعلى الهضبة الشمالية للقرية ... كانت تبعد حوالي خمسة أميال عن مركز البريد...كان شابا قويا ، حسن الملمح ،مغرما بتصفيف شعره .... كان لا يتكلم إلا لِمامًا و يده تمر على التصفيف يتعهد زواياه و يسوِّيه.... كانت تراه ينظر إلى المرآة العاكسة ليرى ماذا فعلت الريح بشعره.اعتادت أن تنتظِره كل صباح و تعد له بعض الحلْوى و عصير برتقال .كان يأخذه على عجل .وهو يسلمها الرسائل .كان يصيح في لعب هذه الجزائر ..هذه السودان ..هذه سوريا.. وبلاد أخرى كثيرة لا تعلميها....كان يضحك ثم يمضي.

anfasse.orgجال ببصره في أطراف الحديقة قبل أن يسترسل قائلا : لو علمت سلفا أن مآل هذه البلدة سيكون إلى خراب لوافقت "مسيو جون" على الهجرة إلى فرنسا قبل أربعين سنة .. كانت هذه الحديقة فردوسا يشتهي الوافد إليها أن يُدفن فيها.. أجل ! جداول الماء تنساب في صمت وتؤدة لتروي كل نبتة وشجيرة .. والحشيش الأخضر الزاهي يُغنيك عن الفرش و السجاجيد .. أما صنوف الأزهار الملونة فتسحر العين وتخلب اللب ..رحم الله زمان الفرنسيس !
كان  السي علال من الرعيل الذي فتح عينيه ذات صباح على  عساكر "المارشال ليوطي" وهم يذرعون أزقة البلدة ..توجس شرا في الأيام الأولى.. فجذوة المقاومة والرفض توشك أن تتقد تحت رماد الصمت .. لكن سرعان ما استتب الأمن وخلا له الجو ليقدم فروض الولاء !
عُين في باديء الأمر سائسا لأحصنة الثكنة العسكرية ..أبدى همة عالية وأدبا جما .. فلم تمض سوى اسابيع قليلة حتى صار الجنود ينادونه ب " مسيو علال" ..لم ينم ليلتها من الغبطة.. قرر أن يتفانى في عمله ويتودد لكبار الضباط عسى أن ينال  حظوة العمل في إحدى  " الفيلات " .

anfasse.orgوصلت مدام نديم برفقة  صديقتها الى محطة الشرطة ، قلقة ومضطربة وتكاد الدموع تتدفق من عينيها .. ولولا صديقتها المخلصة التي تتأبط ذراعها وتمسح عرقها وتهمس لها مطمئنة : " سنجده .. ستجده الشرطة .. لا تقلقي " ، لسقطت على الأرض مغشيا عليها.
كانت متوترة للغاية .. وفورا توجهت للشرطي المناوب :
زوجي ضاع .. خرج ولم يعد.. اريد أن تجدوه لي .. اذا لم يتناول دواءه اليومي قد يموت !!
وفورا  أدخلت الى غرفة ضابط مسؤول.
ارتاحي يا سيدتي ، واهدئي .. انا سأعالج الموضوع .
الموضوع لا يحتاج الى علاج .. اريد ان تجدوا زوجي .. خرج صباحا ولم يعد .. ليس من عادته .. انه مريض .. ويجب ان يتناول دواءه والا.. آه ..يا ويلي ..
حسنا سيدتي اطمئني .. لا داعي للقلق .. هذه وظيفتنا أن نجد المفقودين ..عليك ان تعطينا بعض التفاصيل ..
زوجي ضائع وانتم تريدون تفاصيل .. تفاصيل مفاصيل .. من يهتم للتفاصيل .. اريد ان تجدوا زوجي وكفى .

anfasse.orgنصحني صديق مجنون ذات مرّة لكي لا أخاف بأن أواجه ما أو من يُخيفني.
 عجزتُ عن مواجهتي نفسي لأنها أقصى ما يُخيفني.
 ضَحكَ منّي و قال: أنا إن خفتُ أحدا نظرتُ في عينيه فرأيتُه يَخشاني و ما إن أرى ذلك حتى يتبـدّدَ خوفي.
سألتُه و هل لنفسي عيون؟
قال:  نـعم ما عليك إلا أن تَقفي أمام المرآة و سترينها.
حدّقـتُ في المرآة طويلا حتى وجدتُني.
 استغربتُ وجهي الجديد بعد المواجهة. فقد وَجدتُه أليفا على غير العادة و كنتُ قد أضعتُه مند زمن في سوق الوجوه حيث تُباع الغلال و الخضر و الأقنعة.
لم أُقلع بعد عن الخوف. و لم يُقلع صديقي عن الجنون.
أصبحتُ أَكتب قصصا و أصبحَ هو يصنعُ الأفلام.

anfasse.org1
القبر:
أينما ولّيتَ وجهك!
الأمنُ مُشهرُ بانتظام
من بوابةِ الصبحِِ
إلى انسدال صفحةِ الظلام!
من قبضة المِفتاحِ إلى لحافِكَ يعبرون
ويخلعون
 لزوجتكَ الثياب
ويتناوبون على شرفةِ الانتظار
أينما ولَّيتَ وجهك!

anfasse.orgليس عندي ما أخفيهِ
ما أنا إلاّ فضيحةٌ مُتوارثةٌ
ولن تنفع حوّاءَ أو آدم ورقةُ توتٍ
حتى ولا غابةُ توت !
---------
كان مستغرقاً في الإصغاء لموسيقىً شرقية تراثية يتصادح فيها العود والطبلة عندما دخل شقته المُطلِّةَ على نهر دجلة الذابل الآمل ! صديقُهُ القديم الذي يسكن معه منذ إسبوع بعد أن قام بزيارة لبغداد مدينتهِ لأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثة عقودٍ قادماً من منفاه البارد , واليوم يدخل شقة صديقه راجعاً من زحام بغداد وحزن شوارعها وهو يتأفف ثم جلس قبالته وفيما كان صديقُهُ الموظف العاطل منذ شهور يسكب من زجاجة العَرَق القوي على مهلٍ في كأسه وكان الوقت مساءً , سمع صاحبَهُ النحَّاتَ يقول : حقيقة أعجبُ من لامبالاتك وقدرتك على الإحتمال فها أنت سادرٌ في نعناعياتك وتتفاوحُ كحديقة !

anfasse.orgكان جالسا على أحد المقاعد الأماميّة للحافلة. لقد لاحظ وجودها على متنها.جلس قُبالتَها حتى لا يُفوّتَ على نفسه متعة النّظر لوجهها الصّبوح.كان يتأمّلها و يُفكّر. كانت تَنظرُ عبر النّافدة لكنّها لا ترى شيئا.كان يُفكّر في طريقة ما ليُكلّمها.
كانت مُنشغلة بما يَنتظرها في المكتب من عمل متراكم و ملفّات تستوجب التّرتيب.
لم يرفع عينيه من على وجهها. أطلق العنان للذّكريات و الأمنيات.فجأة وَقفتْ و َمشتْ بضع خطوات في اتّجاهه. إنّها تترنّح في الخطوات. جَلستْ على المقعد المحاذي لمقعده. خفقَ قلبُه و تتالتْ الخفقات. انّه لا يكاد يُصدّق. هذه إشارة منها على أنّها تُبادله الشّعور ذاته. غمره إحساس جارف من السّعادة و الغرور.
أغمضتْ عينيها و كأنها غرقت في حلم جميل. وضعتْ رأسها على كتفه في حركة انسيابيّة تنمّ عن قدر كبير من العفويّة. لم ينطق ببنت شفة. قّرّر الاستمتاع باللّحظة. اشرأبّتْ الأعناق نحوهما.  قال في نفسه "اللّهم لا حسد". كان متأكّدا أن الرّكاب كانوا يَحسدونه على ما هو فيه.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة