anfasseعلى الجسر الطويل الذي يجتاز بها دجلة ، رغم زحام السيارات، والسيطرات وعندما تمر كل يوم، كانت تلبس ذلك الوجه القاتم ، تتلصص النظر دون أن يراها احد، غارقة بعالم من صنعها، لا يمسه غيرها، تكللها نظرات الرجاء التي تودعها بها أمها، ترقب الطفلة التي شاخت، ترجو الله أن تعود إليها كل يوم، ضاقت ذرعا ببيتهم الصغير، الذي يطبق على روحها، يجلدها ذلك الحداد الطويل والذي يتلاشى مع الزمن، حتى يغدو هو الزمن، يندفع مع ثوب أمها الأسود، في تلك الندوب الكثيرة التي تغزو وجهها الأسمر، حداد وذهول فرضته على حياتهم، منذ أن تناقص عدد من في البيت، وتطايرت أجسادهم الشابة قسرا،  وسط الذهول الذي استقر في قلبها لا يفارقها ، ترتق اللحظات لتستل ذكريات أبناء رحلوا في جحيم أحداث عصفت بالجميع  ، فما عادت تعيش إلا فردوسهم  السماوي. 
لذلك ما أن تترك البيت وأمها، حتى  تنشر فرحها في تلك المسافة الممتدة على ضفتي النهر ، تتطاير روحها مع طيوره المحلقة ، تحاول أن تفك غلالتها قليلا ، تجعل عنقها يلامس أنفاس النهر، تنتشي بقبلاته، رغم أن الطريق قد يلحقها بكل طيش ولا معقولية الأحداث، بأولئك الراحلون، إلا أنها تبقى محتفظة بفرح مخبول لا تعرف له نهاية  .

anfasseبخفة كان إسحاق يمدّ عكازه لينقر الأرض ثم بقوة عليها يدب.. بساقه الخشبية يدب. ثم بطرف العكاز الذي انقلب إلى قرن استشعار برفق بالغ كان يحس.. كأنما يخشى أن يؤذي ظله الممدود أمامه أو يخدشه، فيلحق به الألم. ظله الذي كوّنه ضوء خافت لنصف هلال سافر ومكشوف، فنصفه الآخر سترته غيوم لونها فيراني فيها شحوب، كانت تعبر الآفاق مبطئة في طقس ساخن لا رياح فيه لتنشطه. إنه فوق هذا كفيف، فمذ كان صغيرا حوّل أذنيه وأنفه إلى أعين على الدوام مفتحات. لهذا صار بإرهاف في ضوء النهار يرى، وفي حلكة الليل أيضا بجلاء يشاهد. 
اشترى فرشاة أسنان حجمها كبير لتناسب سعة فمه، وكبر أسنانه الأطول بقليل من عقرب الثواني. بعدها مرق في زقاق ضيق ولف بطمأنينة من وراء الجامع، ومن هناك انعطف بجسده الطويل إلى الحارة الهادئة، وفي سكون الليل تسلل. وتحسس بطرف عكازه أوراقا متناثرة ملقاة في عرض الطريق وطوله، فخشخشت.. وفي الحال توقف.. ليس من أجل الأوراق توقف. وأتاح له وقوفه أن يتذكر أول ليلة اغتصب فيها زوجته زينب، فراح يدير وجهه على ما في عينيه من عمى نحو اليمين، وعوجه ثانية وسط الظلمة نحو اليسار، فلمعت بسرعة البرق بسمة حلوة واستطالت وهي تضيء على شفتيه فأوشك أن يقهقه.. فبدا لوهلة كأنه حشر وجهه عنوة بين ابتسامتين.. ثم ثبته في الوسط.. وببطء في طريقه القصير مضى. وكانت تلاحقه أصوات صاخبة ليست مضجرة.. لم يفهمها وربما خمّن أنه لا يستطيع أن يفقه مرادها أحد.. لكنه خمّن ما فيها من وعيد وتهديد.. فضحك أكثر، فتناثرت نهايات شاربه كعشب عشوائي ناشف، بعثرته ريح عاتية هبت فجأة في غير أوان. وارتفعت قمم حواجبه أيضا واهتزت هي الأخرى بغير حساب، فوصلت إلى منتصف جبهته اللامعة الأملس من قطعة صابون مبلول.

قراءة:
يتهجى التلميذ القصيدة (حرفا حرفا)
مطبقا "مبدأ الثالث المجرور"...
فتصرخ النوافذ مصححة أخطاءه
وجبة:
كحيوان أليف
تلتهم السبورة قطعة الطبشور من يد الصبي...
بغتة يبعد أصابعه ...يجدها دون سبابة
خطوتين:
...يحط الصبي فوق الجدار

anfasseإليها في ذكرى غيابها
فكرت أن لا بأس بدقيقة نوم أخرى. تركت الغطاء يغلف جسدي في حشمة. لم أخاف التعرى دون قصد ليلا؟. لاعبت النعاس على جانبي الأيسر. القِبلة لا تهمني الآن. ليس مهما إن مت وأنا نائمة وكنت غير مقبلة ولست على جانبي الأيمن. ناحية اليسار كان الحائط الذي لونته بأحلام وكتابات غير منتهية. تسلل الضوء عبر رموشي. أزعجتني فكرة يوم جديد، ماذا أفعل به؟.. لم أهتم بالنهوض إذا وأغسل وجهي وأمسح عرق حلم غير منته وأخبأ عريي تحت ثياب ملونة وصيفية؟
انتبهت إلى صوت الآخرين الذين يتحركون في البيت. يحاولون إضفاء العادة على اليوم الجديد. رائحة القهوة تتسلل إلي. أبعد عني الغطاء وأنهض. يبدو أن لا مفر من الأشياء الروتينية. أتجاهل الوجه الذي يشبهني في المرآة. أُصمِتُ بوحه المزعج. لست راغبة الآن، اليوم، في ملاحظة وجه التطابق بيننا: هي وأنا.
عيد ميلاد سعيد..

متجهما؛ دلف إلى البيت...لم يكلم أحدا وانصرف الى وحدته في غرفته الصغيرة...لم يكلم زوجته و لم يكن بد من الكلام.
(سقط الرجل )
هكذا كان يقول ... قضِي فيه الأمر وانتصرت هزيمته ... تبدد فيه العجز وأخرج له العمرُ كل الفاجعة.
عاد منهكا..لا تترتب عنده كلمة واحدة ولا تسوده إلا الفِكرُ السوداء.
تاه في الهاجس ..كيف سيذهب للعمل... كيف سيدخل من باب الموظفين... كيف سيدخل مكتبه
كيف سيلقى رواد المقهى في العشِية.... لن يتحمل شماتة إبراهيم ...و ضحك المنذر و استهزاء عبد القادر..وصالح....كان يتأوه من الألم.
( سقط الرجل )
هكذا قال مرة أخرى..تعقدت أساريره وتجهم وجهه ... حلف إن كلَّمته زينب أن يسبَّها وأن يطلِّقها
...كان يريد ان يصيح وان يصرخ وأن يضع رأسه في ماء باردٍ...كان كمرجلٍ يغلي، ... بركاناً يتأهَّب
لإطلاق ناره...ارتعش...عمي...صَمِيَ1...أزبد ...أرعد...كاد من الغيظ ان يكسر معصمه وهو يدقُّ الحائط
(سقط الرجل ..)...هكذا قال مرة أخرى

anfasseيتسلل الضوء حبالا من ذهب تنغرز في الجدران المقابلة  وتنفجر في الغرفة  معلنة أن هناك نهارا جديدا يحقق عبوره ، النهار عنيد وهذا دأبه ، و قد كانت النفس منذ الصبا ، تهفو  وتندفع  للقائه فيطيعها الجسد ، أما الآن....
الضوء نفاذ، يستغل كل شيء ليحقق عناده، فضولي يتسرب عبر الثقوب والشقوق، عبر الأنفاق والكهوف ليعلن وجوده للكائنات، ويعري المستور.
ويتذكر الطيب يوم اندفعت حبال الضوء لأول مرة عبر ثقوب الباب؛ لتطهرها وتمحو الألم ، وتطارد الرعب ، وتمنح الدفء للأشلاء ، وللدماء المقرورة المتخثرة المتعانقة في برك.
كانت حبال الضوء، تكتب، تقول وتغني : سيبقى الإنسان أخطر الآفات ، يهلك الأحياء والأحلام والحياة .
حبال الضوء تسللت من خلال الثقوب التي مر عبرها رصاص الجريمة واستقر في الأجساد المستريحة في استرخاء وطمأنينة ورضا ، كان الباب حين أمطرته الرشاشات  موصدا ، وراءه ظلام دامس يلف نفوسا  تلهث متوثبة، أعين تدور في محاجرها ، تقلص الإحساس وضاقت دائرته ، ورق الخط الفاصل بين الموت والحياة حتى كاد يمحي ،... ما معنى الموت ؟ الموت هو أن لا تكون هنا ،  أو على الأقل هو ألا تعي أنك هنا ،  وأن تتخلص إلى الأبد  من أناك ، ومن  فكرة الخوف و الانتقام من الآخر، عدوك المفترض . وأن تستغني الروح عن الجسد، وعن الأحلام.

anfasseتأمل أسراب السيارات التي تمرق عبر الشارع الطويل، تنساب كما لو أنها كريات صغيرة. لم تكن لها ألوان ولا أشكال مميزة، مجرد كريات مستديرة تتدحرج بسرعة في اتجاه مجهول.
الناس أيضا يتحركون مثل كريات في خيط سبحة، تتقاطع اتجاهاتهم كأنها مرسومة سلفا، ومحددة خارج اختياراتهم.
يعلو الغبار في الأفق، تزداد ملامح الأشياء قتامة، فتصبح هلامية.  تذكر سبحة جده، كان يحرك خرزاتها ما بين السبابة والإبهام بسرعة مذهلة، يعلو محياه خشوع، وتتحرك شفتاه متمتمة في همس غير مسموع. كان يشعر أن هذه السبحة تملك قوة سحرية لا يدرك كنهها إلا صاحبها، لم يشاهدها قط إلا  مع الشيوخ، فكان يجلس قبالة الجد بصمت يتأمل حركاته، وتمتماته، حاول قدر الإمكان تبين حقيقة ما ينطق به بلا جدوى، سأل الأطفال عما يقوله الكبار وهم يحركون خرزات السبحة، فكان النقاش يفضي إلى مواضيع تعجز عن فك رموزها عقولهم الصغيرة.
تذكر يوم نسيها الجد فوق "الزربية" فنط بحركة بهلوانية إلى مكان جلوسه، حاول تقليد حركاته وتحريك حبات السبحة، فكان يفشل كل مرة، ولما اعتراه اليأس حولها إلى لعبة يرمي بها في الهواء تارة، ويضعها حول عنقه تارة أخرى، ومن حيث لا يدري انفرطت السبحة، تناثرت خرزاتها في كل الاتجاهات، باءت محاولاته لإعادة جمعها بالفشل، فكانت ليلة نال فيها عقابا اختلط فيه الصفع والضرب على الأيدي ... وبقي سر السبحة مكنونا، بلا تفسير.

نيران الإنتظار تشتعل في قلبي وقلب أبي، نترقب مرور الدقائق أمام غرفة العمليات في الطابق الثالث، لا يهمنا وهن الأرجل ووجل النفوس، نتلهف لصوت عطوف يروي ظمأ النبضات وخبر عاجل يطفئ فزع النظرات.
 لحظات صعبة تمرّ برتابة قاتلة، ثواني حرجة تتسارع بكثرة الداخلين والخارجين لجناح العمليات، أفكارنا مشدودة نحو رأس أمي الممدد بعيدا بين مشارط الجراحين، لم يقطع هذه الأفكار عدا اتصالات أختي " غالية"، البعيدة عنا بجسدها الالآف الأميال ...الحاضرة معنا بقلبها في هذه اللحظات.
تتلبد السماء بالغيوم، غمغمات الرعد تداعب زفراتي، أسرق نظرة خاطفة عبر النافذة وأنا أسأل نفسي: ماذا يجري هناك برأس أمي الطاهر؟، تتنامى في داخلي الظنون، تحثني على اقتحام المكان لأخوض معها هذه الرحلة، لكن هيبة المكان تقيدني، كم أبهرتني شجاعة " أمي " وصرامة موقفها؟ ..لازلت أتذكر ابتسامتها الدائمة التي أحيت نبضاتي ونحن في طريقنا لغرفة العمليات.
يتسلل الهدوء إلى المكان، قلوبنا ترتعد، تصارع الهواجس في ظلمات الغربة، تصطدم بوحشة الوحدة بين جنبات المستشفى الامريكي وسط " بانكوك"، تنبعث من ممراته الواسعة أدخنة الوجع ونيران اللهفة لترسم بخاطري جملة أفكار مشتتة: