anfasseلم تـكـن تـادلا سـاحرة فـي عـيـنيه كما كانت ذاك الصباح … لقد اخترقها النهر منذ آلاف السنين لكنها ظلت مجرد محطة يرسو على غربتها وهم الصيادين وشرود القوارب الصغيرة .
هـا الـنـهـر اليوم يـجري كعادته ، لـكـنـه عـلـيـل ، مـتـرهل ومنكمش حد الإغماء … الماء لم يعد ماء بعدما اخـتـلـط بالمجاري الراكـضة ومـات الـسـمـك بـيـن عـفـونته … فقط بعض الأماكن البعيدة ما زالت تهب ماء النهر صفاءه وعفوية الانسياب بلا فواصل أو نقط تفتيش .
ففي الأماكن الموجودة بين هضبـتـيـن يـنـسـل هـذا الـمـجـرى الـعـذب الذي أصبح ملجأ هادئا لحياة يتهددها الموت المؤجل في كل اللحظات … هـنـاك ، دأبـت مـاريـة أن تـصطـحـب قـصـبتها لتنسى شحوب العالم وتتذكر شـيئا من طفولة مترفة على ضفاف السين حيث الحلم ينتعش دائما بروايات الفنطازيا التي ظلت ذاكرة الطفلة حريصة على تتبع خطى أبطالها .
وهناك ، أيضا كان حيدر ينبعث من رماد كتاباته لينفلت من غربـة سحيقة لفت خاطره بأزمنة كثيرة وسؤال واحد .

anfasseضرب الأخماسَ في الأسداسٍ كعادتِه في كلَّ مساءَ، فصالَ مرعدا، وجال، فذبحَ ألفا أو يزيد ذبحَ الخراف الراجفات، تخيّر فيهم متلذذا مواضعَ سيفِه، فحزَّ الرقاب، وبقرَ البطونَ؛ ثمَّ مال على السَّبايا، فاركا كفيّه، فانتقى الفارعاتِ المستسلمات، ثمَّ ساقهن مهمهما إلى فراشِه كما القطيع، فضاجعَ ألفا، أو يزيد، ولمّا فرغ؛ عاد إلى الغنائمِ؛ يجمعُ ما استطاب، فكنسَ الأراضيَ بنظرةٍ، وأشار بإصبعه، فامتلك كلَّ المزارعِ في الجوار، ثم مال فاحتضن ما شاءَ من ذهب، وكنزَّ الحقائبَ، ثمَّ استفاض؛ فاستزادَ بضربةٍ، نظفَ الكونَ مما تبقى، أو رآه فيهِ قد علق، بعدها أغمض عينيهِ، وقد ارتضى، فاستراح، وعلى وجهه ارتمى مثل غريقٍ، وقد غفا!

anfasseرياح الفراق هبت..بثت الرعشة في جسد الليل الهادئ ... تدفع بمراكبي نحو المجهول...و أنا ما عدت قادرة على التجديف... همومي أثقلت كاهلي ، هزائمي شاخت لها آمالي قبل الآوان، مجاديفي اهترأت ... لا بصيص أمل يهديني لبر الأمان... و مراكبي ما عاد لها شراع يضحك لمداعبة النسيم .. و يزمجر أمام العاصفة.....
ظلام في الأفق و غضب يشق السماء...أنظر خلفي فلا أرى سوى شبح فرحة هزيل يعذبه مارد الحزن...فيصرخ من الحسرة و الأسى. إنها رحلتي الأخيرة في بحور الخيبة، الأخيرة تحت سماء المرارة...فقد قررت أن لا أبحر من جديد.. لن أبحر لجزر الوهم ألاحق سراب الحب، أنقب عن كنوز الغرام...و أجني خيبات الأمل.

parabole.jpgعلى سريرِه؛ في غرفة بيتِ المسنين؛ جاءه الصوتُ الأنثويُّ متأوِّها، يقطِّعُه شيءٌ من الأنين، رأسُه سخن؛ ثمّ صار يغلي؛ قام كما لم يقم منذُ زمنٍ، صيحةٌ ناعمةٌ أخرى ممطوطة نادته؛ فاندفعَ إلى السلمِ بسروالِ البيجاما؛ ثمَّ بيديه الناحلتين بدأ يتسلَّقُ حافتَه، فُتح بابٌ جواره؛ وعجوز مثلُه أطلَّ بملابسِه الداخلية، فوقهما كان الصوتُ ينتفضُ، ثم يتراخى ناعما مثلُ الحرير، انتفضت مآقيهما، وقد تبسما، شيءٌ من الدمع أيضا أطلَّ، تفتحتِ الأبوابُ في العالي، والهياكلُ خرجت زاحفة، صاروا مسيرة سيقانٍ راجفة، لكنَّهم على السطحِ توقفوا يفتشون حائرين، لم يكن هناك سوى لاقط الإرسال يتأرجحُ مع الريحِ، ويصفرُ مثل أنثى جريحة!

السماء ملبدة بغيوم داكنة. الطيور القريبة من سطوح العمارات تحلق- بوداعة- في أرجائها، ثم ترحل بعيدا في الأفق، وتغيب في السحب كما  أنهاتتلاشى.جلس –كعادته-  على كرسي بلاستيكي جامد وبارد، والذي ينوي أن يستبدله بآخروثير متحرك، حين تعيد له أخته مبلغا كبيرا، كان قد أعطاه قرضا لها .اشترت به  عقد عمل باسبانيا.
 قبالة شاشة الانترنيت في البيت، وعلى جانبه الأيمن نافذة  عريضة من زجاج يرى من خلالها- من حين لآخر- العالم المقلوب على رأسه، من الطابق الخامس، الذي يسمح له أيضا بأن يفكروهو يرمي بنظراته الى العصافير المحلقة في السماء.
الأم التي جاءت من مدينة تحبها حد الموت،لتشاركه الأيام وتتقاسم معه الحياة في بعض تفاصيلها – لوقت غير مسمى- تركت هناك عمرا وتاريخا طويلا، تجره معها في كل اللحظات، وتستعيده في صمت البيت وسكون الليل.

ra7ile.jpgتاهت نظراتها فوق أمتعتها المركونة أمامها و كأنها ذكرياتها التي كومتها في جانب مظلم من أعماقها محاولة سجنها، التفتت لتلقي نظرة أخيرة على شرفتها التي طالما احتضنت ضحكاتهما و همساتهما و كانت أيضا شاهدة على جلساتهما الحميمية غيرما مرة.. فتدحرجت فوق خدها دمعة سارعت إلي تجفيفها بظهر يدها كما لو كانت تعنفها.
حملت حقائبها و مشت و كأنها تهرب من ضعفها، من خوفها الكبير من أن يخونها شوقها فتعود أدراجها، لتمضي من جديد يومها في انتظار عودته في المساء ليرمي لها فتات عواطفه فتلتقطه و هي سعيدة بل راضية بأقل من ذلك.
أخذت تمشي فوق أشواك حيرتها التي تخدش أفكارها و تترك بها ندوبا وجراحا، يحاصرها الندم على سنوات أمضتها في إلتقاط الفتات و انتظار ابتسامة من سيدها تعكس لها رضاه فتضاء حياتها.

anfasseأخيرا وصلتْ سيارة "البيكوب" إلى آخر منعرج من المنعرجات المسكوكة مثل أسورة هندية حول الجبل الشامخ..وتنفس إبراهيم الصعداء وهو يلتفت إلى زوجته زينة التي تجلس إلى يمينه كالصنم..بدا له وجهها ممتقعا وقد اختفت عن وجنتيها تلك الحمرة التي كانت تلازمهما ليلا ونهارا..ولكن جمالها البدوي الساحر لم يتأثر بهذه الساعات الأربع المتواصلة  في رحلة جهنمية مرهقة..أدرك أن سفرها الأول هذا سيكون صعبا ومريرا بالنسبة إليها هي التي لم تغادر قمة الجبل منذ نعومة أظفارها..واستغرب كيف استطاعت أن تغالب الدوار الذي لا بد أن يصاب به كل من ركب مع دّاعلي سيارته "البيكوب" المهترئة والتي يستغرب الجميع من أين لها هذه القدرة العجيبة على تسلق الجبال والنزول منها يوميا دون أن تصاب بعطب..
      التفت نحو دّاعلي القابع إلى يساره فإذا هو قد سوّى من جلسته بعد أن كان طوال المنعرجات اللامنتهية يمسك المقود بيديه المعروقتين وقد انحنى نحوه قليلا كأنه يتأهب لأي طارئ قد ينبثق فجأة خلف كل منعرج..رآه يتكئ إلى الخلف بظهره المقوس بعد أن أمسك المقود بيد واحدة ، ثم رفع قدمه اليسرى فوق لوحة القيادة ، وبدا كأنه متكئ فوق حصير..

anfasseيومٌ مصهود، تخلع فيه جلدك وتتنصّل من نفسك. جوٌّ كاتم يدفع الروح إلى الحلقوم، ويجعل الحياة غير متحمّلة بالمرة. حتى الصمت، الذي يهفو إليه المرء يغدو جرسَ تنغيص لا يهدأ طنينه في الأذن.
جو نموذجي لارتكاب جريمة. هذه هي الحقيقة. أيامٌ من البرد اللاسع والأمطار، ثم فجأة، يهجم كل هذا الحر الدبق ك"مازوت" على إسفلت، الثقيل كالرصاص.
ليحافظ الواحد على خفة الملاك فيه عليه أن يدخل بيته بأسرع ما يستطيع. أن يتحاشى كل الآخرين. أن يخلع حذاءه وملابسه (وحتى جلده إن قدر !) ويستلقي على فرشته. أن يغمض عينيه وحواسه عن العالم ويركز "نظره" على أقصى نقطة في العتمة، تماما كما يفعل "اليوغيون". أن يخلي ذهنه بالكل، ويغسل باله من يومه اللايطاق ذاك.. وينام.