تمهيد:
أصبحت ظاهرة العنف تكتسي أهمية كبرى في السنوات الأخيرة، بحيث صارت موضوعا محوريا ومركزيا في النقاشات السوسيولوجية والسيكولوجية والأنتروبولوجية وكذلك عند مختلف الفاعلين والمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو حتى عند عامة الناس بمختلف مستوياتهم، سواء أكان العنف الممارس عنفا أسريا أو مجتمعيا أو مدرسيا أو مؤسساتيا أو غير ذلك من انواع العنف، وكذلك بشتى أشكاله وتلاوينه سواء أكان العنف عنفا نفسيا أو جسديا أو رمزيا أو لفظيا أو جنسيا أو غير ذلك. ومن هنا نطرح التساؤل التالي، لماذا أصبح العنف موضوعا مهيمنا في جل النقاشات التربوية والتعليمية والبيداغوجية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية فالسنوات الاخيرة؟ أليست هناك مواضيع ومشاكل أخرى تعيشها المدرسة المغربية يتوجب علينا الإلتفات إليها من قبيل الاكتظاظ، وضعف التحصيل الدراسي، وعدم ملاءمة المناهج، وتغيير البرامج والمقررات في كل مرة، وقلة الموارد البشرية المؤهلة، إلى غير ذلك من الموضوعات العديدة والمتعددة، والتي لم تنل حظها من العناية والاهتمام بالدراسة والتحليل.

  إن ظاهرة العنف تكتسي أهمية خاصة، نظرا للعلاقة المباشرة التي تربط بين ممارسة العنف وبين طريقة تشكل شخصية الإنسان بصفة عامة والطفل بصفة خاصة، سواء تم ذلك داخل المدرسة أو المجتمع أو الأسرة. إن البحث في موضوع العنف يجيب عن أسئلة عميقة شغلت بال العديد من المفكرين والباحثين التربويين والمحللين النفسانيين حول مفهوم الشخصية وطبيعة تشكلها لدى الأطفال، وبالخصوص في السنوات المبكرة، وبالضبط في المجتمعات العربية ذات البنية الذكورية المحافظة أو ما يسمى بالمجتمعات البطريكية، والتي في الغالب ترسخ سلوكات خاطئة ومدمرة عند الأطفال ذكورا كانوا أو إناثا، هذه المجتمعات التي تعلي من سلطة الذكر على حساب الأنثى، ومن سلطة الكبير على حساب الصغير، ومن سلطة الشيخ على حساب الشاب، ومن سلطة الرجل على حساب المرأة، إلى غير ذلك من التراتبيات المجتمعية، مما يولد مع هذا النوع من السلط تجاوزات وخروقات تتجلى في ممارسة أشكال من العنف المادي والرمزي.

 وتعد هذه إحدى خصوصيات البيئة العربية، رغم ما تزخر به من قيم ومبادئ إسلامية تحث على تجنب ممارسة العنف بحق الأطفال وتؤكد على إعطاء قيمة كبرى لشخصية الطفل، لكي ينضج في بيئة سليمة، كما ورد ذلك في القران الكريم، يقول تعالى: (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون)[1]، بمعنى أن حق اللعب لدى الأطفال مهم للغاية، ومقرر بنص قرآني صريح، إذ يسهم اللعب في تطوير شخصياتهم، ويمنحهم الاتزان النفسي الضروري، وذلك بعكس من حرموا منه، وهذا ما يقره مضمون الآية القرآنية منذ آلاف السنين، قبل أن تظهر المواثق الدولية التي تحث على احترام حقوق الأطفال وبالخصوص حق اللعب، وفي المقابل لم يلتزم إخوة يوسف بهذا الإقرار الصريح منهم بحق اللعب، وقاموا بإلقاء أخيهم في البئر، وهو نوع خطير من العنف الجسدي والنفسي ارتكب بحق أخيهم الطفل يوسف وهو ما يزال صغير.

1.تأثيرات التربية العنيفة على الأطفال.

إن ممارسة العنف على الأطفال تؤدي لا محالة إلى عواقب وخيمة على نبوغهم وعلى مستقبلهم وعلى تشكل شخصياتهم، من هنا يتبين لنا مدى أهمية دراسة العنف وتحليل عواقبه على الفرد ، ومدى الخطورة التي قد تسببها ممارسته على الأطفال بالخصوص، فالحصول على أطفال معنفين من قبل أسرهم أو مجتمعهم أو في مدارسهم ، يعيق تطور ونمو شخصياتهم بشكل سلس، ويعيق كذلك تحصيلهم الدراسي وتطوير مستواهم التعليمي، فرغم كم الأبحاث والدراسات العديدة التي أنجزت حول موضوع العنف عند الأطفال، مازال البحث في الموضوع يغري الباحثين والدارسين والمختصين، لأن مقاربته تتيح لنا فهم أبعاد أخرى للشخصية الإنسانية بصفة عامة وشخصية الطفل بصفة خاصة، إن جل الأطفال المعنفين أو الذين سبق وتعرضوا للعنف بأنواعه وأشكاله لا يتمتعون في الغالب بشخصية قوية وسوية، ويفتقدون في الغالب لعامل الثقة بالنفس، وجلهم لا يتمتعون بروح معنوية عالية وثقة تامة بالذات، تمكنهم من الاندماج السريع في مجتمعاتهم وفي أوساطهم الأسرية عن طريق الانخراط في مجموعة من الأنشطة الحياتية والمجتمعية سواء العادية أو التي تتطلب استخدام ذكاء معين.

 إن ممارسة العنف بأنواعه المختلفة تقمع كيان الطفل و تحقر ذاتيته الخاصة وتشل تطوره الطبيعي والسلس في المجتمع وتكبح نبوغه، وتعيق تبلور وتشكل شخصية مبدعة ومنتجة ومنفتحة على المجتمع، فالطفل المعنف بهذا المعنى السالف الذكر يرفع من نسبة الحصول على أطفال مسالمين، اتكاليين ، خنوعين يتملكهم الخجل، وعدمي الثقة بأنفسهم، إنهم تجسيد لعلاقة القهر والرضوخ التي يعاني منها الانسان المقهور، الذي لا يجد له من مكانة في علاقة التسلط العنفي هذه، سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية لقدر مفروض[2]، فلا مناص إذن من إعادة النظر في طرق تفكيرنا وأساليبنا التربوية والبيداغوجية للحد من انتشار هذه الآفة المجتمعية، لأن معظم الأدبيات التربوية تتفق على أن كسب رهان الجودة داخل المنظومة التربوية مرتبط بتوفر شروط بيداغوجية ملائمة وتبني مقاربة نسقية تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعة المنظومة التربوية والرفع من أدائها[3]، والتي من بينها التخلي عن الممارسات الغير تربوية في تدريس الأطفال.

فلسفة التربية هي فرع من الفلسفة التطبيقية أو العملية التي تهتم بطبيعة التربية وأهدافها والمشكلات الفلسفية الناشئة عن النظرية والممارسة التربوية. ونظرا لأن هذه الممارسة منتشرة في كل مكان لدى المجتمعات البشرية وعبرها، ولأن مظاهرها الاجتماعية والفردية متنوعة جدا، وتأثيرها عميق للغاية، فإن الموضوع واسع النطاق، ويتضمن قضايا في الأخلاق والفلسفة الاجتماعية/السياسية، والإبيستيمولوجيا، والميتافيزيقا، وفلسفة العقل واللغة وغيرها من مجالات الفلسفة.

ونظرا لأنها تتطلع في الداخل إلى نظام الوالدية وفي الخارج إلى الممارسة التربوية والسياقات الاجتماعية والقانونية والمؤسسية التي تحدث فيها، فإن فلسفة التربية تهتم بكلا جانبي الفجوة التقليدية بين النظرية والممارسة. ويشمل موضوعها كلا من القضايا الفلسفية الأساسية (مثلا، طبيعة المعرفة التي تستحق التدريس، وطبيعة المساواة والعدالة التعليمية، إلخ..) والمشاكل المتعلقة بالسياسات والممارسات التربوية المحددة (مثلا، جاذبية المناهج والاختبارات الموحدة، الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية لترتيبات التمويل المحددة، وتبرير قرارات المناهج الدراسية، إلخ). في كل هذا، يقدّر فيلسوف التربية الوضوح المفاهيمي، والصرامة الجدلية، والنظر العادل لمصالح جميع المشاركين في الجهود والترتيبات التربوية أو المتأثرين بها، والتقييم المستنير والمدروس للأهداف والتدخلات التعليمية.

لفلسفة التربية تاريخ طويل ومتميز في التقليد الفلسفي الغربي، منذ معارك سقراط مع السفسطائيين حتى يومنا هذا. قام العديد من الشخصيات الأكثر تميزا في هذا التقليد بدمج الاهتمامات التربوية ضمن أجنداتهم الفلسفية الأوسع (Curren 2000, 2018 Rorty 1998). وإذل لم يكن التاريخ محور التركيز هنا، فمن الجدير بالذكر أن مُثُل البحث المنطقي التي دافع عنها سقراط وأحفاده قد أبلغت منذ فترة طويلة وجهة النظر القائلة بأن التربية يجب أن تعزز لدى جميع الطلاب، قدر الإمكان، الاستعداد للبحث عن الأسباب والتفكير المنطقي والقدرة على تقييمها بشكل مقنع، والاسترشاد بتقييماتهم في مسائل الاعتقاد، العمل والحكم. هذا الرأي القائل بأن التربية تتضمن بشكل مركزي تعزيز العقل أو العقلانية، قد تم تبنيه بعبارات ومؤهلات مختلفة من قبل معظم تلك الشخصيات التاريخية؛ ولا يزال فلاسفة التربية المعاصرون يدافعون عنها أيضا (Scheffler 1973 [1989] Siegel 1988, 1997, 2007, 2017).

تقديم عام :
   يولد الإنسان ضعيفا لا يفصله عن عالم البهيمية إلا خيط هزيل، لكن التربية تسمو به و ترفعه الى مراتب الإنسانية، فما كان الإنسان ليكون إنسانا لولا التربية، و لو جاز لنا أن نحده بحدود تسيج كيانه فلن نقول إنه كائن عاقل أو ناطق، بل سنقول أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يربي و يربى، و الدليل على ذلك هو استحالة تصوره خارج إطار التربية، بل قد نغالي و نشاكس الفلسفات التي مجدت الإنسان باسم العقل و اللغة و الأخلاق أن هذه الأشياء كلها لا تحصل إلا بالرعاية، و الرعاية ليست شيئا أكثر من التربية، فالعقل يحتاج الى تهذيب إذا ما كان فطريا، و يحتاج الى تشذيب إذا ما كان مكتسبا، و اللغة لن تتجاوز حدود المحاكاة الطبيعية إذا لم يتم تطويرها عبر التربية انطلاقا من تجسير علاقتها بالثقافة، و ستبقى مهلهلة مفككة مفتقرة للنظام و الانسجام ما إن لم تتخذ التربية طريقا لها لتغتني و تتقوى، و أمارة ذلك أن لغة الشعوب البدائية التي تعيش نمط حياة أقرب الى الحيوانية لا تتعدى أن تكون لغة عيش فقط، لا لغة ثقافة و حضارة، و ليس ذلك قدحا و احتقارا لهذه الشعوب بقدر ما هو تشخيص واقعي حي لما هو حال الشعوب التي لا تتبع سبلا في التربية تستهدف الإبداع الفردي و الارتقاء بالمجتمع الى مستوى من التلاحم و التناغم  . أما الأخلاق فحسبنا أن لا شيء يصنعها إلا التربية، حتى و لو استغرقنا في التفكير في الأخلاق المجردة فإننا نغرق في المثالية، وكما تصنع التربية الأخلاق المثيرة للاستحسان تصنع أخلاقا جالبة للاستهجان، فبقدر ما تستطيع أن ترسخ الأخلاق الإنسانية تستطيع أن توسخها، و بقدر ما تستطيع أن ترصن العقل تستطيع أن تذلل عمله و تقوض رجاحته، و بقدر ما تستطيع أن تثري اللغة و تنمي من قدرات التواصل تستطيع أن تضعفها و تبددها، لذلك، لا يجب أن ننساق مع التصورات التي تلمع من صورة التربية و تعتبرها أساس إبداع الفرد و ازدهار المجتمعات، اللهم إذا ارتبطت بمنظور معين يحدد ما يجب أن تكون عليه، أي الغايات التي نسترعيها منها، و غايات التربية لا تخرج عن نطاق فلسفة التربية، صحيح أن هذه الأخيرة تنتهج نمطا من التفكير ينصب على ما ينبغي أن يكون، إلا أنها لا تكتفي بمهمة التعيير ( وضع معايير ) و إنما تفحص و تشخص ما هو كائن في حقل التربية إن قصد النقد و إن قصد التدخل، و قد يقول قائل أن البحث في التربية انطلاقا من الفحص و التشخيص اعتمادا على الاستقراء هو من اختصاص علوم التربية، و بالأخص السوسيولوجيا و السيكولوجيا و أن الفلسفة هي مجال التنظير فقط و لا يسعها أن تقوم بفعل التدخل لأن ذلك لا يتناسب مع طبيعتها، و الحق أن هذا القول لا يخلو من الصواب، لكن في جزء منه فقط، فعلوم التربية تقتصر على معاينة الفعل التربوي و ما يحيق به من ظواهر بغية حياكة شبكة من البيانات و المعطيات التي تكمم الواقع من أجل تفسير الظواهر التي تتشابك داخله، لكنها لا تتدخل في تغييره، أما الفلسفة فحسبها أن تحمل مشعل التغيير عملا بالأمر الماركسي الذي يقول أن الفلسفة قد اكتفت بتأويل العالم و التفكير فيه و آن أوان تغييره "، إذن، تضطلع فلسفة التربية بثلاثة وظائف : الأولى فحصية تسعى الى تفسير و فهم الفعل التربوي، الثانية تغييرية همها تغيير هذا الفعل مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، و الثالثة نقدية بمعنيين : المعنى الأول هو  نقد الفعل التربوي و فضح العيوب التي تتستر خلف الانطباع المسبق عن التربية، المعنى الثاني هو نقد جينالوجي يستهدف إذابة المحددات الأخلاقية و الضوابط الاجتماعية و السياسية التي تضفي على التربية طابعا ثقافيا، أي نزع ثوب الأخلاقية منها و العودة الى أصولها قبل أن تختلط بالثقافة و المجتمع و تتحول الى مجموعة من المعايير . و الأسئلة التي تخامرنا هنا هي: هل تحتاج التربية الى علومها أم الى فلسفتها ؟ و كيف يمكن للفلسفة أن تبلور تصورا عاما للتربية ينفذ من ضيق المحلية الثقافية الى أفق الكونية الإنسانية؟ و هل ما ينبغي أن يكون في التربية قد ينقلب الى ما هو كائن بفضل الفلسفة أم أن ما ستقدمه الفلسفة للتربية لن يكون إلا نماذج مثالية بعيدة المنال و مخيبة للآمال ؟ و ما الذي جعل التربية موضوعا للفلسفة ؟ و هل يمكن أن نربي بدون فلسفة ؟ هل من الضروري أن نفلسف التربية أي نخرجها من طابعها المألوف الى طابعها غير المألوف ؟

هذا كتاب قرأناه فشدّنا وأجاب عمّا انتظرناه منه (..) ولا نُغالي في شيء إن ذهبنا إلى أنّ كتابا في مثل قيمة «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» يصحّ فيه قولان للأديب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي: «وإنّ هذا الكتابَ كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خَلجة الحياة.» و «وإنّ كلّ كيان لَجَهدٌ وكسبٌ منحوت».  د. [1]خير الدين زرّوق .

مقدّمة:

إنّ مسؤوليّة المثقّف الّذي يدعوه موقعُه والتزامُه إلى أن يطرح القضايا ويوقظ وعي النّاس ويسائل معهم الواقع ويبحث عن الحلول هي مسؤوليّة كبيرة جسيمة، إذ ينبغي عليه أن يرصد تحوّلاتِ المجتمع ويتفطّن إلى ما ينشأ من صيرورات وأطوار وما يستجدّ من أوضاع تنطوي على إشكالات وتحدّيات. وهو في نشاطه المعرفيّ ذاك يستند إلى روافد فكريّة نظريّة وإلى دراية واسعة بالميدان. يستحضر باستمرار السّياقَ الحاضرَ، ولا يُغفل الالتفات إلى الماضي، وتكون له القدرة - والجرأة - ليتطلّع إلى المستقبل.

ليس لزومُ الأبراج العاجيّة للتّأمّل المجرّد والجلوسُ على الرّبوة للتّفرّج ولترقّب الانهيار القادم موقفين يناسبين المفكّر الحقّ، وليس التّسليمُ بهذه الحتميّة العدميّة وبانتفاء القدرة على منعها حلاّ يَركن إليه ويرضى به، فالمنتظرُ منه أن يشارك في الخوض في مسائل عصره وأزماته، بل أن يكون في الطّليعة والمقدّمة، فيمثّل للنّاس مرجعيّة وسلطة اعتباريّة مأتاهما حملُه لرسالة ومهمّة تاريخيّتين في التّوعية والتّحفيز والإصلاح.

ويثقُل العبء وتعظُم المسؤوليّة في العصور الّتي يَعصف بها الشّكّ وتكثر فيها الاهتزازات. فعالمنا المليء بوعود التّقدّم والازدهار والمزهوّ بما أنتجته الحداثة من وسائل مادّيّة سهّلت العيش هو كذلك محفوف بالمخاطر وتنتشر فيه الآفات. وقيمة الإنسان وإنسانيّته في تراجع وانحدار يبعثان فينا الحيرة والفزع ويدفعاننا إلى إعمال العقل والتّدبّر.

ويواجه المجتمع العربيّ، ككلّ المجتمعات السّائرة في طريق النّموّ، عولمة لا يجد فيها مكانه ولا دوره وتقضي عليه بأن يرتدّ إلى الهامش وأن يكون تابعا. إنّه يتخبّط في الأزمات وينشدّ إلى القيود والجمود، وتدلّ كلّ مؤشّرات التّنمية - في شتّى مناحي الحياة - على أنّه في أدنى التّرتيب وأنّ مساهمته في المعرفة ضئيلة لا تكاد تُذكر. وهو في الغالب محكوم عليه بمجاراة الآخرين الّذين سبَقوه إلى التّقدّم، يتلقّى بانبهار ما ينتجونه ويعجز عن التّطوير والإضافة.

وإنّ ما عليه العالم من سمات التّعقّد والتّحوّل والتّموّج والاضطراب، وما يغلب على المجتمع العربيّ من سمات الرّكود والتّخلّف والتّبعيّة، يؤكّدان مكانة التّربية ويُبرزان الحاجة إلى تعميق التّفكير وتجديد المقاربات لإدراك هويّتها الاجتماعيّة والإمكانات المتاحة لتكون دعامة أساسيّة وعاملا إيجابيّا في تحقيق التّنمية والعدالة. ويكون ذلك بتطوير الدّراسات والبحوث واتّخاذ وجهة عقلانيّة موضوعيّة في تناول المواضيع التّربويّة وشرحها للنّاس وتوعيتهم بها.

 

" إننا نواجه اختيارا يتعين علينا أن نتخذه بشكل جماعي ، فإما أن ننفق المزيد الآن على التعليم في حالات الطوارئ والأزمات ، أو ندفع ثمن جيل مفقود من الأطفال غير المتعلمين بل المحطمين " .
( أنطونيو ليك – المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة الأطفال " اليونيسيف " 2020 )

استهلال : ( لذة النص Le plaisir du texte  )[1]

" ما أتذوّقه في قصّة من القصص، ليس هو مضمونها مباشرة، ولا بنيتها، ولكنّي أتذوّق بالأحرى الخدوش التي أفرضها على الغلاف الجميل : إنّني أركض، وأقفز، وأرفع رأسي، وأعود للغوص ثانية ، وليس لهذا أيّة علاقة بالتمزّق العميق الذي يرسّخه نصّ المتعة في اللّغة نفسها و لا في قراءته الزمانيّة البسيطة "
( رولان بارت ، لذّة النصّ Roland Barthes, Le plaisir du texte )

قبل حوالي خمس وثلاثين سنة تقريبا وتحديدا سنة 1985 من القرن الماضي نشر الكاتب والأديب الكولومبي " غابريال غارسيا ماركيز" ( Gabriel García Márquez ) روايته الشهيرة ( الحب في زمن الكوليرا – El amor en los tiempos del colera )[2] والتي تناول فيها وقتئذ مفردات تعودنا تكرارها خلال أيامنا هذه من قبيل : الوباء والجائحة والحجر الصحي واليأس والأمل والهزيمة والانتصار والتحدي والصمود والمستحيل والممكن...

وبعيدا عن أجواء الرواية وأحداثها[3] وما اكتنفها من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال وسلاسة التعبير التي عهدناها ممن حاز على جائزة نوبل للآداب ( 1982) ارتأينا استعارة عنوان الأثر الأدبي المشار إليه قصد اسقاطه على واقعنا التربوي الحالي.. لنجد أنفسنا في صميم الحقل الدلالي لتلك المفردات والمفاهيم التي غصت بها الرواية وإن كان ذلك في  سياقات أخرى وعبر مداخل وأدوات ومنهجيات مغايرة ،هاجسها تقصي الإجابة عن سؤال الكيفيات ، الحدود والإمكانات في واقع يكتنفه الغموض ويدفع دفعا في اتجاه المجهول كما سبق ودفع من قبل أبطال رائعة  " غارسيا ماركيز " : عامل التلغراف العاشق المهزوم " فلورنتينو أريثا " وحبيبته السبعينية الجميلة " فيرمينا دازا  " ، في سفينة نهرية تعبر اليم ذهابا وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر وتأبى الرسو ، كي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ..

مقدمة : ( حيرة عالمية une perplexité mondiale )

شهد العالم منذ بداية السنة وحتى يومنا هذا تحولا دراماتيكيا بسبب جائحة الكوفيد-19 التي تسببت بشكل أو بآخر في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل / شاب عن التعليم في 161 بلدا، أي ما يقرب من 80 % من المقبلين على الدراسة في أنحاء العالم...

وحسب معطيات البنك الدولي فإن تلميذا من كل 10 تلاميذ قد شملته ظاهرة التسرب المدرسي (الانقطاع المبكر)..

وفي تونس تشير الأرقام ( أكتوبر 2020 ) إلى أن عدد المصابين بالكوفيد داخل المؤسسات التربوية بلغ 1390 حالة مؤكدة بينما قدر عدد الحالات المشتبه بها 3628 ..

ويبدو أن النسق التصاعدي لهذه الأرقام هو الذي حتم إيقاف الدروس أحيانا كما دفع بسلطة الاشراف إلى غلق جزئي لبعض المؤسسات وإقرار تقديم آجال عطلة نصف الثلاثي الأول مع التمديد فيها لأيام.

وما من شك في أن هذه السياقات -إن شئنا- تؤشر إلى أزمة[4] حقيقية يمر بها قطاع التربية والتعليم وهي أزمة تتجاوز في عمقها وارتداداتها ومآلاتها بقية الأزمات التي عرفتها المدرسة وأطنب في تفكيكها كل من " برنارد شارلوت " ( Bernard Charlot )[5] و" فيليب ماريو " (Philippe Meirieu)   و" فرونسوا دوربار" (François Durpaire)[6] و" كريستيان لافال " (Christian Laval )[7]...

لماذا ؟ ..  لأن هذه الأزمة محكومة إضافة إلى العوامل الداخلية المتعارف عليها في المستويين الهيكلي والوظيفي ( غياب مشروع سياسي وطني للمدرسة ، مشكل التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين ، نظام التقييم والامتحانات ، العنف المدرسي ...) بعوامل خارجية نجد في مقدمتها العامل الصحي الذي بات يمثل متغيرا رئيسيا وإكراها حقيقيا عطل مسار العملية التربوية وأربك نظام الدراسة وكشف حدود البيداغوجيا ومقارباتها التقليدية وهو ما يدفعنا إلى تطارح جملة من الإشكاليات يمكن اختزالها في أسئلة ثلاث :

1- ما الأثر الذي خلفة الكوفيد- 19 على أداء المدرسة عموما وعلى الفعل البيداغوجي خصوصا في علاقة بالتحصيل العلمي للتلميذ أولا وعلاقته بالمعرفة ثانيا في ظل واقع محفوف بالخوف والتوجس ومحكوم بالارتباك والارتجال ؟

2- ما مدى قدرة المقاربات البيداغوجية الحالية على مسايرة الأزمات بما في ذلك الأزمة الصحية التي عنوانها فيروس كورونا المستجد ؟

3- هل من ممكنات حقيقية لتحويل الأزمة إلى فرصة حقيقية لمراجعة المنظومة التربوية والتفكير في استراتيجيات ومقاربات ملائمة لواقع الأزمات وتحدياتها ؟

ملخص:
إن الواقع اليوم يؤكد حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد مؤشر على درجة الرفاه الذي وصلت إليه البشرية في هذه الألفية بقدر ما أضحى جزءا لا يتجزأ من حياة الناس وهذه الحقيقة ستنعكس بكل تأكيد على كل القطاعات تقريبا بما فيها قطاع التربية والتعليم الذي لن يكون بمعزل عما يجري حوله من طفرة تقنية وتكنولوجية هائلة وسريعة، وهو ما يستدعي منا ضرورة إعادة النظر في المنظومة التعليمية وفي المناهج الدراسية بل وفي الفلسفة التربوية نفسها بغاية الاستفادة قدر الإمكان من الفتوحات التي يبشر بها الذكاء الاصطناعي في سياق ما بات يعرف اليوم بالاستثمار في التعليم والمراهنة على العقل البشري.

غير أن التعويل على أدوات الذكاء الاصطناعي وما تتيحه من سهولة ودقة في الوصول إلى المعلومة ومعالجتها وما توفره من بيئة تفاعلية تساعد على تنمية البعد العرفاني والانتقال من باراديغم التعليم إلى باراديغم التعلم لا يجب أن يحجب عنا حجم التحديات التي ستنتج عنها وما ستنطوي عليه من سلبيات ومخاطر على وجودنا وعلى مستقبلنا كبشر.

وهو ما يدفعنا إلى طرح الإشكاليات التالية:

-  ما الذكاء الاصطناعي وما هي خصائصه ومزاياه مقارنة بما توصل إليه الانسان من اكتشافات أخرى؟

-  ما مجالات الاستفادة من أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته لتطوير منظومة التعليم وجعلها أكثر جودة وذكاء؟

- ما أهم سلبيات الذكاء الاصطناعي في مجال التربية والتعليم وما خطورتها على المتعلمين وعلى الأنظمة التربوية ككل؟

الكلمات المفتاحية: الذكاء الاصطناعي، مجتمع المعرفة، التعلم الآلي، الثورة الرقمية، التربية المستقبلية، التعلم الإفرادي الذكاء المعزز.

استهلال:

في 17 أكتوبر 2014 وقع الإعلان عن صدور أحد أفلام الخيال العلمي المثيرة بشراكة إسبانية بلغارية وبميزانية فاقت الخمسة عشرة مليون دولار أمريكي.

عنوان الفيلم لم يخل بدوره من الإثارة إذ حمل اسم " الآلي" أو " الأوتوماتيكي" (Automata) وهو من اخراج " جابي إيبانيز" (Gabe Ibanez) الذي شارك " خافيير سانشيز دوناتي" ( Javier Sanchez Donate) في كتابة السيناريو.

بطولة الفيلم كانت من نصيب المنتج والممثل الاسباني الشهير" أنطونيو بانديراس " (Antonio Banderas) والأمريكية" ميلاني جريفيث "( Melanie Griffith) والدنماركية " بريجيت هيورت " ( Birgitte Hjort Sorensen) والممثل والموسيقي الأمريكي المعروف" روبرت فورستر"( Robert Forster) ،إضافة إلى " ديلان ماكديرموت" ( Dylan McDermott) وغيرهم من نجوم الفن في هوليود.

زمنيا، تدور أحداث الفيلم في المستقبل البعيد وتحديدا في عام 2044حيث أدى التوهج الشمسي الضخم لسنة 2030 إلى حدوث انفجارات في محطات الطاقة النووية وانتشار الاشعاعات في جميع أنحاء العالم وتحويل كوكب الأرض إلى صحراء قاحلة تنعدم فيها سبل الاتصال بين بني البشر.

 

" إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره ، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" ([1]).

1- مقدمة

تشكّل "التفاعليّة الرمزيّة" (symbolic-interactionist)  أحد التيّارات السوسيولوجيّة الّتي فرضت نفسها نقيضاً مناظراً للاتّجاهات الكبرى في علم الاجتماع، مثل: البنيويّة والماركسيّة. وينظر معظم النقّاد اليوم إلى التفاعليّة الرمزيّة بوصفها نظريّة سوسيولوجيّة متكاملة الأركان رغم حداثتها نسبيّاً. وقد عكف روّاد هذه النظريّة على تحليل الظواهر الاجتماعيّة الصغرى (الميكروسوسيولوجيّ) سعياً إلى فهم العلاقات التفاعليّة الرمزيّة القائمة بين الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة، ومحاولة لإدراك معانيها ودلالاتها ومغازيها. وقد ركّزوا على دراسة معطيات الحياة اليوميّة للأفراد وفعاليّاتهم السوسيولوجيّة القائمة في مدارات اتّصالهم، ومسارات تفاعلهم، واعتمدوا منهجيّاً على تحليل الرموز والمعاني والدلالات الّتي تعطي معنى للتجارب الاجتماعيّة في الحياة اليوميّة.

ويرى علماء الاجتماع أنّ نظريّة التفاعل الرمزيّ تشكّل إطاراً عامّاً للنظريّات الّتي تبحث في المجتمع بوصفه نتاجاً للتفاعلات الاجتماعيّة اليوميّة، وتدرس الكيفيّات الّتي تتمّ فيها التفاعلات الاجتماعيّة بين الأفراد الّذين يضفون المعاني والدلالات على الأشياء المحيطة بهم في مسار تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. ويعتمد هذا المنظور على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التواصل والتفاعل الاجتماعيّين، أي عبر تبادل المعنى من خلال الرموز واللغة. ويرى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعنى الّذي ننسبه إلى العالم من حولنا يعتمد على تفاعلاتنا مع الناس والأفكار والأحداث، وأنّ فهمنا للعالم وكيفيّة تفاعلنا مع مجتمعاتنا يعتمد على ما نتعلّمه من تفاعلاتنا مع الآخرين بدلاً من الحقيقة الموضوعيّة. وعلى هذا الأساس يعتقد التفاعليّون الرمزيّون أنّ مجتمعاتنا مبنيّة على المعاني الّتي نضفيها على التفاعلات والأحداث الاجتماعيّة.

 وتشكّل التفاعليّة الرمزيّة أحد أهمّ الاتّجاهات الرئيسيّة الكبرى في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ على حدّ سواء، ويشغل هذا الاتّجاه مكانة مهمّة في الفضاء الواسع للعلوم الإنسانيّة بحثاً في إشكاليّات الحياة الإنسانيّة وقضاياها الوجوديّة. ويشكل البحث في المستتر والغامض والكامن والخفيّ الرمزيّ المجال الرئيس للتفاعليّة الرمزيّة، كما أن التفاعليين الرمزيين يركزون في أبحاثهم على دراسة العلاقة الجدليّة القائمة بين المجتمع والفرد وفق معطيات الرمز والتفاعل الرمزيّ. ويتبنى أصحاب هذا الاتجاه توليفة متبلورة فكرية من العلوم الإنسانيّة في المجتمع والأدب واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن ثم يعتمدونها كأدوات للتحليل من أجل التوغّل في أعماق الحقيقة الاجتماعيّة وفق منهجيّات الاستقصاء الرمزيّ للوجود الاجتماعيّ، وهم في كل ذلك يركزون أهمية استكشاف الغامض والمبهم والخفيّ الرمزيّ الضارب في عمق الحياة الإنسانيّة. ويأخذ مفهوم "التفاعل الرمزيّ" صورة تواصل اجتماعيّ يقوم على التبادل التفاعليّ للرموز والدلالات والمعاني بالطريقة الّتي يتأثّر فيها الفرد، ويؤثّر في عقول الآخرين وتصوّراتهم ورغباتهم ووسائلهم في تحقيق أهدافهم، وفي ممارسة تكيّفاتهم الحيويّة داخل المجتمع([2]).

" إنّ ثقتي وانتظاراتي هي مثل الشمس التي تُنضجُ ثمار هذا الإنسان" آلان "خواطر"
" الطفل إنسان أكثر من الإنسان ...كلّ إنسان غنيّ جدّا...الجميع أذكياء متى أرادوا...و كلّ فكر هو على وشك أن يفهم" ( آلان- أقوال في اتلربية)
" إن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته" ( آلان)
"لا يهمّك إلا شيء واحد أيّها الطفل الصغير، هو ما تفعل. فإذا أحسنت العمل أو أسأته، فهذا ما ستعرفه لاحقا؛ لكن أفعل ما أنت فاعله".( آلان)

     لم يزعم آلان يوما أنه "صاحب فلسفة للتربية " ولا أنه يملك حتى " نظرية في التربية" وهو "الفيلسوف- المعلّم" و" المربّي" الذي تتطابق لديه التربية والفلسفة تطابقا شديدا حتى لكأنّ " الفلسفة لديه قول في التربية بالأساس، بل ربّما " فنّ للتربية"، يمارس، وهو الذي قد مارسه طويلا بوصفه معلّما- لا على صعيد القول فحسب بل على صعيد " الحياة" أيضا، " فنّا"  يقصد "الإنسان" " طفلا كان أو كهلا..". ذلك أن الفلسفة لديه، ( على معنى كانطي) تردّ في نهاية المطاف إلى الإنسان لتكون " انتروبولوجيا" ، بناء للإنسان لا على صعيد التصوّر فحسب ، بل بناء تربويا أيضا. وحيث كان الإنسان " إنشاء تربويا " كما يقول كانط بالذات، وكان مدار اهتمام الفلسفة، كانت " التربية" في صميم القول الفلسفي. وبالفعل، فإنّ فلسفة آلان غالبا ما توصف بكونها " فلسفة نقدية للتربية" طالما كان الإنسان مدار اهتمامها وغايتها القصوى " الحكم على القيم". إنّ فلسفة آلان، والحال هذه، تولي " الطفل" اهتماما كبيرا، لا بوصفه موضوعا للتربية، بل بوصفه أولا وبالذات " إنسانا" كامل الإنسانية، بل إنّه " إنسان أكثر من الإنسان" كما يقول آلان( أقوال في التربية). لتتميز هذه الفلسفة بالذات في مسار تاريخ  الفلسفة- الكلاسيكية خاصّة- التي لم تول " الطفولة" ما تستحقه من عناية واهتمام بالرغم من زعمها الاهتمام بالإنسان . كأنما الطفل لديها" ليس إنسانا" أو هو كائن " ناقص الإنسانية" في حين كان الإنسان بداهة، أيّ إنسان، والفيلسوف ذاته، في البداية "طفلا". وبالفعل فقد كان الطفل ولوقت طويل في منظور الفلسفة " عبئا" ( بمنزلة " العبد والمرأة والمجانين والمسنّين في أزمان غابرة...)"  قبل أن يصبح " مواطنا" في الفلسفة المعاصرة . إنّ فلسفة آلان ، وإن لم تتضمّن " فلسفة للطفولة" ( وهي فلسفة "غائبة" على أيّ حال في تاريخ الفلسفة إلا من تصوّرات ليس لها قيمة في ذاتها ولا تأخذ معناها إلاّ في صلتها بالنظر إلى الفلسفة: الفلسفة خروج من حالة "القصور" ( ونموذجها الطفولة)إلى حالة " الرشد ( كانط ، أو أن الفلسفة تدرّب على" التوليد " ، توليد الأفكار الكامنة في النفس مثل توليد " الأطفال " ( سقراط)، أو اعتبار الطفولة أصلا " للأحكام المسبقة والآراء الخاطئة والتسرّع الخ ( ديكارت... )، بيد أنها ( أي فلسفة آلان) بربطها الفعل الفلسفي بالفعل التربوي تنحاز بوضوح إلى " الطفولة" وتخرجها من الإهمال إلى الاهتمام. ولهذا نجد أن أغلب مؤلفات آلان الفلسفية ، لا تخلو من ذكر " الطفولة" موضوع اهتمام في سياقات مختلفة ( تربوية وأخلاقية وانتروبولوجية ...) أو يكون ذكره حتى على سبيل المثال . وبالفعل فكتاب " أقوال في التربية " على سبيل المثال ، يحتل فيه الطفل مركز الاهتمام على نحو يشهد "بفلسفة للطفولة " ثاوية، عليها يقوم تصوّره للتربية والتعلّم والتعليم ، بل وللحياة حتى. من أجل هذا سنتقصّى معالم هذه الفلسفة " للطفولة" من خلال هذا الكتاب بالأساس، فنطرح على القارئ نصوصا منه نراهن على قراءته لها مباشرة ، نصوصا ( في ترجمة شخصية) تشهد على هذه " الفلسفة للطفولة".  

الترجمة
"تكمن الصعوبة الحقيقية في التعليم الحديث في حقيقة أنه على الرغم من كل الثرثرة العصرية حول النزعة المحافظة الجديدة، فإنه من الصعب للغاية اليوم الالتزام بهذا الحد الأدنى من الحفظ وذلك الموقف المحافظ الذي بدونه يكون التعليم مستحيلاً. هناك أسباب وجيهة لذلك. ترتبط أزمة السلطة في التعليم ارتباطا وثيقا بأزمة التقليد، أي بأزمة موقفنا من كل ما يتعلق بالماضي. بالنسبة للمعلم، هذا الجانب من الأزمة يصعب تحمله بشكل خاص، لأنه يقع على عاتقه مهمة الربط بين القديم والجديد: فمهنته تتطلب منه احترامًا كبيرًا للماضي. فطوال قرون، أي طوال فترة الحضارة الرومانية المسيحية، لم يكن عليه أن يدرك أنه يمتلك هذه الصفة، لأن احترام الماضي كان سمة أساسية من سمات الروح الرومانية، ولم تغير المسيحية ذلك ولم تزيله، ولكن ببساطة أسسها على أساس جديد. كان جوهر هذه الروح الرومانية (على الرغم من أنه لا يمكن تطبيق ذلك على كل الحضارات، ولا حتى على التقاليد الغربية بأكملها) هو اعتبار الماضي نموذجًا، وفي جميع الحالات يعتبر الأسلاف أمثلة حية لأحفادهم. . بل إنه كان يعتقد أن كل العظمة تكمن في ما كان، وأن الشيخوخة هي بالتالي ذروة حياة الإنسان، وأن الرجل العجوز، كونه بالفعل سلفًا تقريبًا، يجب أن يكون بمثابة نموذج للأحياء. كل هذا يتناقض ليس فقط مع عصرنا وعصرنا الحديث منذ عصر النهضة، ولكن أيضًا، على سبيل المثال، مع الموقف اليوناني تجاه الحياة. عندما يقول غوته إن التقدم في السن يعني "الانسحاب تدريجيًا من عالم المظاهر"، فإنه يدلي بتعليق بنفس روح اليونانيين الذين يعتبرون الوجود والظهور شيئًا واحدًا. المفهوم اللاتيني هو أنه بالتحديد، عن طريق الشيخوخة والاختفاء التدريجي من مجتمع البشر، يصل الإنسان إلى الطريقة الأكثر تميزًا للوجود، حتى لو كان، فيما يتعلق بعالم المظاهر، في طور الاختفاء. لأنه عندها فقط يستطيع أن يصل إلى هذا الوضع من الوجود حيث سيكون مرجعًا للآخرين. مع الخلفية السليمة لهذا التقليد حيث لعب التعليم دورًا سياسيًا (وكانت هذه حالة فريدة)، فمن السهل نسبيًا فعل الشيء الصحيح في التعليم، دون الحاجة إلى التفكير في ما نقوم به: الأخلاقيات الخاصة بالمجتمع. تتوافق مبادئ التعليم تمامًا مع المبادئ الأخلاقية والمعنوية للمجتمع بشكل عام.

  • مقدمة عامة :
    لم تعد مسألة التربية و أثرها في السلوك المستقبلي للإنسان مسألة عملية أو علمية غامضة ، فهي من أوضح القضايا في منطق العلم ، فالعناصر التربوية في الحياة المدرسية لها أكبر ألأثر في تكوين الشخصية و تشكيل هويتها ، فالطفل في عالمنا المعاصر يقضي الشطر الهام كن حياته في أجواء المدرسة ، فهو يبدأ حياته في أحضانها فهو يقضي حياة الطفولة و المراهقة و الشباب في نظام حياتي مخطط و مصمم وفق أسس و أهداف و منهج محدد ، لذا فهو ينشأ و ينمو و تتكون شخصيته وفق فلسفة التربية و النظرية الحياتية التي تتبناها المدرسة، فالمدرسة التي تتبنى الفكر المادي من خلال منهجها و الاجواء التربوية فيها و طريقة الممارسات السلوكية المختلفة و تربي الفردية و الاباحية و لا تعتني بقيم الأخلاق و الإيمان بالله فإنها تنتج شخصية إباحية تبحث على مستوى السلوك الفردي عن المتعة و اللذة و إتباع الشهوات و الغرائز ، و هي على الصعيد المادي ، الاجتماعي و السياسي تنتج عقلية مادية رأسمالية ، لذا فإن الاصلاح و التغيير العام يبدأ بشكل أساس من المدرسة في فلسفتها التربوية و مناهجها و طرق الحياة فيها ، كما تقوم المدرسة التي تبني الحياة التربوية فيها على اسس فلسفة محددة بغربلة الاوضاع الاجتماعية و انتخاب ما يوافق فلسفتها ، و رفض ما لا ينسجم و أهدافها ، لذا فهي نموذج مصغر لمجتمع الدولة ، و الاكثر من ذلك تشكل المدرسة بالنسبة للطالب الوسيلة الاساسية التي يحقق من خلالها أهدافه الحياتية و طموحاته المستقبلية ، لكن هذا الامر تغير مع تغير الزمن و تطور العلم و تعقد الحياة ، حيث لم يعد معلموا الامس قادرين على تعليم المحتاجين للمعرفة ، لأنهم في الأصل يعلمون ما يعرفون و ما يعرفونه في الغالب قليل ، و اليوم تنطلق الرؤى التربوية من جديد للعودة إلى المجتمع اللامدرسي ، فهل يستطيع هذا المجتمع الحديث إذا خلا من المدارس أن يقدم مالم يستطع تقديمه المجتمع القديم ( مجتمع بلا مدارس)

    يعتبر التحفيز عاملا من عوامل الإقبال على التعلم والتوجيه، كونه يحض التلميذ(ة) على تعبئة نفسه بنفسه ومن تلقاء ذاته لمواجهة التحديات التي تعترضه وقيادة سيرورة توجيهه. وتعتبر التعبئة دافعا لتحديد أهدافه وتحسين إدارة سلوكه والرفع من استعداده للتجاوب ، إذ لن يكون للنشاط التعلمي والتوجيهي معنى وفعالية إلا إذا كان هناك تجاوب من طرف التلميذ(ة) . إن الفكرة الكامنة وراء التعبئة إذن هي إثارة موقف محفز ، موقف يضع التلميذ(ة) في حالة مشروع وميل للعمل ويعزز الاستعداد لديه لرفع التحديات والسعي وراء تحقيق الأهداف سواء تلك المتعلقة بالتعلم أو تلك المتعلقة بالتوجيه، باعتبار أن الموقف المحفز  هو بمثابة شعلة تجعل الدراسة ممتعة وتوقظ الرغبة في النجاح وتحرك الميول المهنية والاهتمامات وترفع من تطلعات التلميذ(ة) في التوجيه.

     غير أن الموقف المحفز لا يتحقق إلا حينما تتوفر الكفاءة والقدرة. هذا الافتراض يرتكز على القول ‹‹من يقدر يريد›› ، بمعنى أن الشعور الداخلي بالقدرة هو الذي يحشد مقدرات التلميذ(ة) لمواجهة التحديات. عندما يتفوق التلميذ(ة) وينجح في مهمة تتأكد قدرته ، فتتحفز ديناميكية الطموح لديه وتتولد الرغبة والإرادة من جديد، و تطفو  الحاجة إلى النجاح مرة أخرى. ويبدو أن مساهمة الأستاذ وبراعته قد تتجسد في بناء هذه القدرة ، حيث يستطيع أن يوفر الظروف لظهور الشعور بالكفاءة وتوطيده وذلك من خلال خلق وضعيات اختبار مندمجة في تعلمه.