" إننا نواجه اختيارا يتعين علينا أن نتخذه بشكل جماعي ، فإما أن ننفق المزيد الآن على التعليم في حالات الطوارئ والأزمات ، أو ندفع ثمن جيل مفقود من الأطفال غير المتعلمين بل المحطمين " .
( أنطونيو ليك – المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة الأطفال " اليونيسيف " 2020 )

استهلال : ( لذة النص Le plaisir du texte  )[1]

" ما أتذوّقه في قصّة من القصص، ليس هو مضمونها مباشرة، ولا بنيتها، ولكنّي أتذوّق بالأحرى الخدوش التي أفرضها على الغلاف الجميل : إنّني أركض، وأقفز، وأرفع رأسي، وأعود للغوص ثانية ، وليس لهذا أيّة علاقة بالتمزّق العميق الذي يرسّخه نصّ المتعة في اللّغة نفسها و لا في قراءته الزمانيّة البسيطة "
( رولان بارت ، لذّة النصّ Roland Barthes, Le plaisir du texte )

قبل حوالي خمس وثلاثين سنة تقريبا وتحديدا سنة 1985 من القرن الماضي نشر الكاتب والأديب الكولومبي " غابريال غارسيا ماركيز" ( Gabriel García Márquez ) روايته الشهيرة ( الحب في زمن الكوليرا – El amor en los tiempos del colera )[2] والتي تناول فيها وقتئذ مفردات تعودنا تكرارها خلال أيامنا هذه من قبيل : الوباء والجائحة والحجر الصحي واليأس والأمل والهزيمة والانتصار والتحدي والصمود والمستحيل والممكن...

وبعيدا عن أجواء الرواية وأحداثها[3] وما اكتنفها من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال وسلاسة التعبير التي عهدناها ممن حاز على جائزة نوبل للآداب ( 1982) ارتأينا استعارة عنوان الأثر الأدبي المشار إليه قصد اسقاطه على واقعنا التربوي الحالي.. لنجد أنفسنا في صميم الحقل الدلالي لتلك المفردات والمفاهيم التي غصت بها الرواية وإن كان ذلك في  سياقات أخرى وعبر مداخل وأدوات ومنهجيات مغايرة ،هاجسها تقصي الإجابة عن سؤال الكيفيات ، الحدود والإمكانات في واقع يكتنفه الغموض ويدفع دفعا في اتجاه المجهول كما سبق ودفع من قبل أبطال رائعة  " غارسيا ماركيز " : عامل التلغراف العاشق المهزوم " فلورنتينو أريثا " وحبيبته السبعينية الجميلة " فيرمينا دازا  " ، في سفينة نهرية تعبر اليم ذهابا وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر وتأبى الرسو ، كي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ..

مقدمة : ( حيرة عالمية une perplexité mondiale )

شهد العالم منذ بداية السنة وحتى يومنا هذا تحولا دراماتيكيا بسبب جائحة الكوفيد-19 التي تسببت بشكل أو بآخر في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل / شاب عن التعليم في 161 بلدا، أي ما يقرب من 80 % من المقبلين على الدراسة في أنحاء العالم...

وحسب معطيات البنك الدولي فإن تلميذا من كل 10 تلاميذ قد شملته ظاهرة التسرب المدرسي (الانقطاع المبكر)..

وفي تونس تشير الأرقام ( أكتوبر 2020 ) إلى أن عدد المصابين بالكوفيد داخل المؤسسات التربوية بلغ 1390 حالة مؤكدة بينما قدر عدد الحالات المشتبه بها 3628 ..

ويبدو أن النسق التصاعدي لهذه الأرقام هو الذي حتم إيقاف الدروس أحيانا كما دفع بسلطة الاشراف إلى غلق جزئي لبعض المؤسسات وإقرار تقديم آجال عطلة نصف الثلاثي الأول مع التمديد فيها لأيام.

وما من شك في أن هذه السياقات -إن شئنا- تؤشر إلى أزمة[4] حقيقية يمر بها قطاع التربية والتعليم وهي أزمة تتجاوز في عمقها وارتداداتها ومآلاتها بقية الأزمات التي عرفتها المدرسة وأطنب في تفكيكها كل من " برنارد شارلوت " ( Bernard Charlot )[5] و" فيليب ماريو " (Philippe Meirieu)   و" فرونسوا دوربار" (François Durpaire)[6] و" كريستيان لافال " (Christian Laval )[7]...

لماذا ؟ ..  لأن هذه الأزمة محكومة إضافة إلى العوامل الداخلية المتعارف عليها في المستويين الهيكلي والوظيفي ( غياب مشروع سياسي وطني للمدرسة ، مشكل التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين ، نظام التقييم والامتحانات ، العنف المدرسي ...) بعوامل خارجية نجد في مقدمتها العامل الصحي الذي بات يمثل متغيرا رئيسيا وإكراها حقيقيا عطل مسار العملية التربوية وأربك نظام الدراسة وكشف حدود البيداغوجيا ومقارباتها التقليدية وهو ما يدفعنا إلى تطارح جملة من الإشكاليات يمكن اختزالها في أسئلة ثلاث :

1- ما الأثر الذي خلفة الكوفيد- 19 على أداء المدرسة عموما وعلى الفعل البيداغوجي خصوصا في علاقة بالتحصيل العلمي للتلميذ أولا وعلاقته بالمعرفة ثانيا في ظل واقع محفوف بالخوف والتوجس ومحكوم بالارتباك والارتجال ؟

2- ما مدى قدرة المقاربات البيداغوجية الحالية على مسايرة الأزمات بما في ذلك الأزمة الصحية التي عنوانها فيروس كورونا المستجد ؟

3- هل من ممكنات حقيقية لتحويل الأزمة إلى فرصة حقيقية لمراجعة المنظومة التربوية والتفكير في استراتيجيات ومقاربات ملائمة لواقع الأزمات وتحدياتها ؟

ملخص:
إن الواقع اليوم يؤكد حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد مؤشر على درجة الرفاه الذي وصلت إليه البشرية في هذه الألفية بقدر ما أضحى جزءا لا يتجزأ من حياة الناس وهذه الحقيقة ستنعكس بكل تأكيد على كل القطاعات تقريبا بما فيها قطاع التربية والتعليم الذي لن يكون بمعزل عما يجري حوله من طفرة تقنية وتكنولوجية هائلة وسريعة، وهو ما يستدعي منا ضرورة إعادة النظر في المنظومة التعليمية وفي المناهج الدراسية بل وفي الفلسفة التربوية نفسها بغاية الاستفادة قدر الإمكان من الفتوحات التي يبشر بها الذكاء الاصطناعي في سياق ما بات يعرف اليوم بالاستثمار في التعليم والمراهنة على العقل البشري.

غير أن التعويل على أدوات الذكاء الاصطناعي وما تتيحه من سهولة ودقة في الوصول إلى المعلومة ومعالجتها وما توفره من بيئة تفاعلية تساعد على تنمية البعد العرفاني والانتقال من باراديغم التعليم إلى باراديغم التعلم لا يجب أن يحجب عنا حجم التحديات التي ستنتج عنها وما ستنطوي عليه من سلبيات ومخاطر على وجودنا وعلى مستقبلنا كبشر.

وهو ما يدفعنا إلى طرح الإشكاليات التالية:

-  ما الذكاء الاصطناعي وما هي خصائصه ومزاياه مقارنة بما توصل إليه الانسان من اكتشافات أخرى؟

-  ما مجالات الاستفادة من أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته لتطوير منظومة التعليم وجعلها أكثر جودة وذكاء؟

- ما أهم سلبيات الذكاء الاصطناعي في مجال التربية والتعليم وما خطورتها على المتعلمين وعلى الأنظمة التربوية ككل؟

الكلمات المفتاحية: الذكاء الاصطناعي، مجتمع المعرفة، التعلم الآلي، الثورة الرقمية، التربية المستقبلية، التعلم الإفرادي الذكاء المعزز.

استهلال:

في 17 أكتوبر 2014 وقع الإعلان عن صدور أحد أفلام الخيال العلمي المثيرة بشراكة إسبانية بلغارية وبميزانية فاقت الخمسة عشرة مليون دولار أمريكي.

عنوان الفيلم لم يخل بدوره من الإثارة إذ حمل اسم " الآلي" أو " الأوتوماتيكي" (Automata) وهو من اخراج " جابي إيبانيز" (Gabe Ibanez) الذي شارك " خافيير سانشيز دوناتي" ( Javier Sanchez Donate) في كتابة السيناريو.

بطولة الفيلم كانت من نصيب المنتج والممثل الاسباني الشهير" أنطونيو بانديراس " (Antonio Banderas) والأمريكية" ميلاني جريفيث "( Melanie Griffith) والدنماركية " بريجيت هيورت " ( Birgitte Hjort Sorensen) والممثل والموسيقي الأمريكي المعروف" روبرت فورستر"( Robert Forster) ،إضافة إلى " ديلان ماكديرموت" ( Dylan McDermott) وغيرهم من نجوم الفن في هوليود.

زمنيا، تدور أحداث الفيلم في المستقبل البعيد وتحديدا في عام 2044حيث أدى التوهج الشمسي الضخم لسنة 2030 إلى حدوث انفجارات في محطات الطاقة النووية وانتشار الاشعاعات في جميع أنحاء العالم وتحويل كوكب الأرض إلى صحراء قاحلة تنعدم فيها سبل الاتصال بين بني البشر.

 

" إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره ، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" ([1]).

1- مقدمة

تشكّل "التفاعليّة الرمزيّة" (symbolic-interactionist)  أحد التيّارات السوسيولوجيّة الّتي فرضت نفسها نقيضاً مناظراً للاتّجاهات الكبرى في علم الاجتماع، مثل: البنيويّة والماركسيّة. وينظر معظم النقّاد اليوم إلى التفاعليّة الرمزيّة بوصفها نظريّة سوسيولوجيّة متكاملة الأركان رغم حداثتها نسبيّاً. وقد عكف روّاد هذه النظريّة على تحليل الظواهر الاجتماعيّة الصغرى (الميكروسوسيولوجيّ) سعياً إلى فهم العلاقات التفاعليّة الرمزيّة القائمة بين الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة، ومحاولة لإدراك معانيها ودلالاتها ومغازيها. وقد ركّزوا على دراسة معطيات الحياة اليوميّة للأفراد وفعاليّاتهم السوسيولوجيّة القائمة في مدارات اتّصالهم، ومسارات تفاعلهم، واعتمدوا منهجيّاً على تحليل الرموز والمعاني والدلالات الّتي تعطي معنى للتجارب الاجتماعيّة في الحياة اليوميّة.

ويرى علماء الاجتماع أنّ نظريّة التفاعل الرمزيّ تشكّل إطاراً عامّاً للنظريّات الّتي تبحث في المجتمع بوصفه نتاجاً للتفاعلات الاجتماعيّة اليوميّة، وتدرس الكيفيّات الّتي تتمّ فيها التفاعلات الاجتماعيّة بين الأفراد الّذين يضفون المعاني والدلالات على الأشياء المحيطة بهم في مسار تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. ويعتمد هذا المنظور على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التواصل والتفاعل الاجتماعيّين، أي عبر تبادل المعنى من خلال الرموز واللغة. ويرى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعنى الّذي ننسبه إلى العالم من حولنا يعتمد على تفاعلاتنا مع الناس والأفكار والأحداث، وأنّ فهمنا للعالم وكيفيّة تفاعلنا مع مجتمعاتنا يعتمد على ما نتعلّمه من تفاعلاتنا مع الآخرين بدلاً من الحقيقة الموضوعيّة. وعلى هذا الأساس يعتقد التفاعليّون الرمزيّون أنّ مجتمعاتنا مبنيّة على المعاني الّتي نضفيها على التفاعلات والأحداث الاجتماعيّة.

 وتشكّل التفاعليّة الرمزيّة أحد أهمّ الاتّجاهات الرئيسيّة الكبرى في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ على حدّ سواء، ويشغل هذا الاتّجاه مكانة مهمّة في الفضاء الواسع للعلوم الإنسانيّة بحثاً في إشكاليّات الحياة الإنسانيّة وقضاياها الوجوديّة. ويشكل البحث في المستتر والغامض والكامن والخفيّ الرمزيّ المجال الرئيس للتفاعليّة الرمزيّة، كما أن التفاعليين الرمزيين يركزون في أبحاثهم على دراسة العلاقة الجدليّة القائمة بين المجتمع والفرد وفق معطيات الرمز والتفاعل الرمزيّ. ويتبنى أصحاب هذا الاتجاه توليفة متبلورة فكرية من العلوم الإنسانيّة في المجتمع والأدب واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن ثم يعتمدونها كأدوات للتحليل من أجل التوغّل في أعماق الحقيقة الاجتماعيّة وفق منهجيّات الاستقصاء الرمزيّ للوجود الاجتماعيّ، وهم في كل ذلك يركزون أهمية استكشاف الغامض والمبهم والخفيّ الرمزيّ الضارب في عمق الحياة الإنسانيّة. ويأخذ مفهوم "التفاعل الرمزيّ" صورة تواصل اجتماعيّ يقوم على التبادل التفاعليّ للرموز والدلالات والمعاني بالطريقة الّتي يتأثّر فيها الفرد، ويؤثّر في عقول الآخرين وتصوّراتهم ورغباتهم ووسائلهم في تحقيق أهدافهم، وفي ممارسة تكيّفاتهم الحيويّة داخل المجتمع([2]).

" إنّ ثقتي وانتظاراتي هي مثل الشمس التي تُنضجُ ثمار هذا الإنسان" آلان "خواطر"
" الطفل إنسان أكثر من الإنسان ...كلّ إنسان غنيّ جدّا...الجميع أذكياء متى أرادوا...و كلّ فكر هو على وشك أن يفهم" ( آلان- أقوال في اتلربية)
" إن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته" ( آلان)
"لا يهمّك إلا شيء واحد أيّها الطفل الصغير، هو ما تفعل. فإذا أحسنت العمل أو أسأته، فهذا ما ستعرفه لاحقا؛ لكن أفعل ما أنت فاعله".( آلان)

     لم يزعم آلان يوما أنه "صاحب فلسفة للتربية " ولا أنه يملك حتى " نظرية في التربية" وهو "الفيلسوف- المعلّم" و" المربّي" الذي تتطابق لديه التربية والفلسفة تطابقا شديدا حتى لكأنّ " الفلسفة لديه قول في التربية بالأساس، بل ربّما " فنّ للتربية"، يمارس، وهو الذي قد مارسه طويلا بوصفه معلّما- لا على صعيد القول فحسب بل على صعيد " الحياة" أيضا، " فنّا"  يقصد "الإنسان" " طفلا كان أو كهلا..". ذلك أن الفلسفة لديه، ( على معنى كانطي) تردّ في نهاية المطاف إلى الإنسان لتكون " انتروبولوجيا" ، بناء للإنسان لا على صعيد التصوّر فحسب ، بل بناء تربويا أيضا. وحيث كان الإنسان " إنشاء تربويا " كما يقول كانط بالذات، وكان مدار اهتمام الفلسفة، كانت " التربية" في صميم القول الفلسفي. وبالفعل، فإنّ فلسفة آلان غالبا ما توصف بكونها " فلسفة نقدية للتربية" طالما كان الإنسان مدار اهتمامها وغايتها القصوى " الحكم على القيم". إنّ فلسفة آلان، والحال هذه، تولي " الطفل" اهتماما كبيرا، لا بوصفه موضوعا للتربية، بل بوصفه أولا وبالذات " إنسانا" كامل الإنسانية، بل إنّه " إنسان أكثر من الإنسان" كما يقول آلان( أقوال في التربية). لتتميز هذه الفلسفة بالذات في مسار تاريخ  الفلسفة- الكلاسيكية خاصّة- التي لم تول " الطفولة" ما تستحقه من عناية واهتمام بالرغم من زعمها الاهتمام بالإنسان . كأنما الطفل لديها" ليس إنسانا" أو هو كائن " ناقص الإنسانية" في حين كان الإنسان بداهة، أيّ إنسان، والفيلسوف ذاته، في البداية "طفلا". وبالفعل فقد كان الطفل ولوقت طويل في منظور الفلسفة " عبئا" ( بمنزلة " العبد والمرأة والمجانين والمسنّين في أزمان غابرة...)"  قبل أن يصبح " مواطنا" في الفلسفة المعاصرة . إنّ فلسفة آلان ، وإن لم تتضمّن " فلسفة للطفولة" ( وهي فلسفة "غائبة" على أيّ حال في تاريخ الفلسفة إلا من تصوّرات ليس لها قيمة في ذاتها ولا تأخذ معناها إلاّ في صلتها بالنظر إلى الفلسفة: الفلسفة خروج من حالة "القصور" ( ونموذجها الطفولة)إلى حالة " الرشد ( كانط ، أو أن الفلسفة تدرّب على" التوليد " ، توليد الأفكار الكامنة في النفس مثل توليد " الأطفال " ( سقراط)، أو اعتبار الطفولة أصلا " للأحكام المسبقة والآراء الخاطئة والتسرّع الخ ( ديكارت... )، بيد أنها ( أي فلسفة آلان) بربطها الفعل الفلسفي بالفعل التربوي تنحاز بوضوح إلى " الطفولة" وتخرجها من الإهمال إلى الاهتمام. ولهذا نجد أن أغلب مؤلفات آلان الفلسفية ، لا تخلو من ذكر " الطفولة" موضوع اهتمام في سياقات مختلفة ( تربوية وأخلاقية وانتروبولوجية ...) أو يكون ذكره حتى على سبيل المثال . وبالفعل فكتاب " أقوال في التربية " على سبيل المثال ، يحتل فيه الطفل مركز الاهتمام على نحو يشهد "بفلسفة للطفولة " ثاوية، عليها يقوم تصوّره للتربية والتعلّم والتعليم ، بل وللحياة حتى. من أجل هذا سنتقصّى معالم هذه الفلسفة " للطفولة" من خلال هذا الكتاب بالأساس، فنطرح على القارئ نصوصا منه نراهن على قراءته لها مباشرة ، نصوصا ( في ترجمة شخصية) تشهد على هذه " الفلسفة للطفولة".  

الترجمة
"تكمن الصعوبة الحقيقية في التعليم الحديث في حقيقة أنه على الرغم من كل الثرثرة العصرية حول النزعة المحافظة الجديدة، فإنه من الصعب للغاية اليوم الالتزام بهذا الحد الأدنى من الحفظ وذلك الموقف المحافظ الذي بدونه يكون التعليم مستحيلاً. هناك أسباب وجيهة لذلك. ترتبط أزمة السلطة في التعليم ارتباطا وثيقا بأزمة التقليد، أي بأزمة موقفنا من كل ما يتعلق بالماضي. بالنسبة للمعلم، هذا الجانب من الأزمة يصعب تحمله بشكل خاص، لأنه يقع على عاتقه مهمة الربط بين القديم والجديد: فمهنته تتطلب منه احترامًا كبيرًا للماضي. فطوال قرون، أي طوال فترة الحضارة الرومانية المسيحية، لم يكن عليه أن يدرك أنه يمتلك هذه الصفة، لأن احترام الماضي كان سمة أساسية من سمات الروح الرومانية، ولم تغير المسيحية ذلك ولم تزيله، ولكن ببساطة أسسها على أساس جديد. كان جوهر هذه الروح الرومانية (على الرغم من أنه لا يمكن تطبيق ذلك على كل الحضارات، ولا حتى على التقاليد الغربية بأكملها) هو اعتبار الماضي نموذجًا، وفي جميع الحالات يعتبر الأسلاف أمثلة حية لأحفادهم. . بل إنه كان يعتقد أن كل العظمة تكمن في ما كان، وأن الشيخوخة هي بالتالي ذروة حياة الإنسان، وأن الرجل العجوز، كونه بالفعل سلفًا تقريبًا، يجب أن يكون بمثابة نموذج للأحياء. كل هذا يتناقض ليس فقط مع عصرنا وعصرنا الحديث منذ عصر النهضة، ولكن أيضًا، على سبيل المثال، مع الموقف اليوناني تجاه الحياة. عندما يقول غوته إن التقدم في السن يعني "الانسحاب تدريجيًا من عالم المظاهر"، فإنه يدلي بتعليق بنفس روح اليونانيين الذين يعتبرون الوجود والظهور شيئًا واحدًا. المفهوم اللاتيني هو أنه بالتحديد، عن طريق الشيخوخة والاختفاء التدريجي من مجتمع البشر، يصل الإنسان إلى الطريقة الأكثر تميزًا للوجود، حتى لو كان، فيما يتعلق بعالم المظاهر، في طور الاختفاء. لأنه عندها فقط يستطيع أن يصل إلى هذا الوضع من الوجود حيث سيكون مرجعًا للآخرين. مع الخلفية السليمة لهذا التقليد حيث لعب التعليم دورًا سياسيًا (وكانت هذه حالة فريدة)، فمن السهل نسبيًا فعل الشيء الصحيح في التعليم، دون الحاجة إلى التفكير في ما نقوم به: الأخلاقيات الخاصة بالمجتمع. تتوافق مبادئ التعليم تمامًا مع المبادئ الأخلاقية والمعنوية للمجتمع بشكل عام.

  • مقدمة عامة :
    لم تعد مسألة التربية و أثرها في السلوك المستقبلي للإنسان مسألة عملية أو علمية غامضة ، فهي من أوضح القضايا في منطق العلم ، فالعناصر التربوية في الحياة المدرسية لها أكبر ألأثر في تكوين الشخصية و تشكيل هويتها ، فالطفل في عالمنا المعاصر يقضي الشطر الهام كن حياته في أجواء المدرسة ، فهو يبدأ حياته في أحضانها فهو يقضي حياة الطفولة و المراهقة و الشباب في نظام حياتي مخطط و مصمم وفق أسس و أهداف و منهج محدد ، لذا فهو ينشأ و ينمو و تتكون شخصيته وفق فلسفة التربية و النظرية الحياتية التي تتبناها المدرسة، فالمدرسة التي تتبنى الفكر المادي من خلال منهجها و الاجواء التربوية فيها و طريقة الممارسات السلوكية المختلفة و تربي الفردية و الاباحية و لا تعتني بقيم الأخلاق و الإيمان بالله فإنها تنتج شخصية إباحية تبحث على مستوى السلوك الفردي عن المتعة و اللذة و إتباع الشهوات و الغرائز ، و هي على الصعيد المادي ، الاجتماعي و السياسي تنتج عقلية مادية رأسمالية ، لذا فإن الاصلاح و التغيير العام يبدأ بشكل أساس من المدرسة في فلسفتها التربوية و مناهجها و طرق الحياة فيها ، كما تقوم المدرسة التي تبني الحياة التربوية فيها على اسس فلسفة محددة بغربلة الاوضاع الاجتماعية و انتخاب ما يوافق فلسفتها ، و رفض ما لا ينسجم و أهدافها ، لذا فهي نموذج مصغر لمجتمع الدولة ، و الاكثر من ذلك تشكل المدرسة بالنسبة للطالب الوسيلة الاساسية التي يحقق من خلالها أهدافه الحياتية و طموحاته المستقبلية ، لكن هذا الامر تغير مع تغير الزمن و تطور العلم و تعقد الحياة ، حيث لم يعد معلموا الامس قادرين على تعليم المحتاجين للمعرفة ، لأنهم في الأصل يعلمون ما يعرفون و ما يعرفونه في الغالب قليل ، و اليوم تنطلق الرؤى التربوية من جديد للعودة إلى المجتمع اللامدرسي ، فهل يستطيع هذا المجتمع الحديث إذا خلا من المدارس أن يقدم مالم يستطع تقديمه المجتمع القديم ( مجتمع بلا مدارس)

    يعتبر التحفيز عاملا من عوامل الإقبال على التعلم والتوجيه، كونه يحض التلميذ(ة) على تعبئة نفسه بنفسه ومن تلقاء ذاته لمواجهة التحديات التي تعترضه وقيادة سيرورة توجيهه. وتعتبر التعبئة دافعا لتحديد أهدافه وتحسين إدارة سلوكه والرفع من استعداده للتجاوب ، إذ لن يكون للنشاط التعلمي والتوجيهي معنى وفعالية إلا إذا كان هناك تجاوب من طرف التلميذ(ة) . إن الفكرة الكامنة وراء التعبئة إذن هي إثارة موقف محفز ، موقف يضع التلميذ(ة) في حالة مشروع وميل للعمل ويعزز الاستعداد لديه لرفع التحديات والسعي وراء تحقيق الأهداف سواء تلك المتعلقة بالتعلم أو تلك المتعلقة بالتوجيه، باعتبار أن الموقف المحفز  هو بمثابة شعلة تجعل الدراسة ممتعة وتوقظ الرغبة في النجاح وتحرك الميول المهنية والاهتمامات وترفع من تطلعات التلميذ(ة) في التوجيه.

     غير أن الموقف المحفز لا يتحقق إلا حينما تتوفر الكفاءة والقدرة. هذا الافتراض يرتكز على القول ‹‹من يقدر يريد›› ، بمعنى أن الشعور الداخلي بالقدرة هو الذي يحشد مقدرات التلميذ(ة) لمواجهة التحديات. عندما يتفوق التلميذ(ة) وينجح في مهمة تتأكد قدرته ، فتتحفز ديناميكية الطموح لديه وتتولد الرغبة والإرادة من جديد، و تطفو  الحاجة إلى النجاح مرة أخرى. ويبدو أن مساهمة الأستاذ وبراعته قد تتجسد في بناء هذه القدرة ، حيث يستطيع أن يوفر الظروف لظهور الشعور بالكفاءة وتوطيده وذلك من خلال خلق وضعيات اختبار مندمجة في تعلمه.

الإعلام والتربية جناحا طائر لا تحلّق أمّة من الأمم إلّا بهما
"بفضل القوة الهائلة للتكنولوجيا الرقمية سقطت الحواجز الصمّاء التي كانت تفصل بين البشر، كالبعد الجغرافي واختلاف اللغات والافتقار المزمن للمعلومات، وتحررت القدرات الإبداعية الكامنة لبني البشر على شكل موجة هادرة جديدة تزداد قوّة من دون انقطاع. وأصبحت هذه القدرات الضخمة تحت تصرف كل البشر، وباتوا قادرين على تحريرها بلمسات أصابعهم "
تشارلز كيترينج

1- مقدّمة:

يكاد يكون هناك إجماع بين المفكّرين والباحثين على أنّ الإعلام بلغ ذروته في مجال التّحكّم والهيمنة على مختلف مظاهر الوجود الاجتماعيّ والثقافيّ للبشر في الحياة الإنسانيّة المعاصرة. لقد أصبحت وسائل الإعلام منظومة من الأدوات الّتي يتحقّق بها وجود الناس في أدقّ تفاصيل حياتهم وممارساتهم اليوميّة، إذ لا يمكن اليوم أن نتصوّر استقامة الحياة من غير وسائل الإعلام الإلكترونيّة الّتي نعتمد عليها في تواصلنا وتفاعلنا مع مختلف أوجه الوجود. ومن الواضح أيضاً أنّ هذه الوسائل تفرض نفسها بقوّة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش فصلاً واحداً من فصول حياته دون الاعتماد على وسائل الإعلام، بدءاً من المنزل ومروراً بالشارع ووصولاً إلى مكان العمل. ويمكن أن نسرد عدداً هائلاً من البرامج والوسائل الاتّصالية الّتي يستخدمها الفرد في حياته اليوميّة مثل: جهاز تحديد الاتّجاهات (GPS)، برامج المعلومات عن الطقس، الحسابات والعمليّات البنكيّة، شراء البطاقات، كلّ أشكال التسوّق، ومنها أيضا استخدام البرامج المكتبيّة، في المجالات كلّها من ألف الوجود العلميّ والوظيفيّ إلى يائه. ويمتدّ هذا ليشمل عدداً كبيراً من القضايا والحاجات مثل: استخدام مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ، الشّراء في الأسواق، واستخدام الأجهزة الإلكترونيّة في المطاعم والبارات والصالات. وهذا غيض من فيض الحضور الإعلاميّ في مجال الحياة. ومع هذه الصورة يبدو أنّ الفرد الّذي لا يتمكّن من استخدام هذه الوسائل وتوظيفها سيفقد القدرة الوظيفيّة على الحياة في العصر الحديث، وقد يكون قاصراً عن التكيّف، بل قد يحتاج إلى إعادة تأهيل ثقافيّ إعلاميّ لفترات زمنيّة تقصر أو تطول. فالميديا أصبحت أشبه بالأوكسجين الّذي يمنحنا القدرة على الاستمرار في الحياة([1]).

ومن البداهة بمكان القول إنّ التكنولوجيا الرقميّة أصبحت ضروريّة لأنّها تمكّننا من جعل الأشياء سهلة وممكنة بأقصى درجة من السرعة والفعاليّة. وهي تختصر الوقت وتكسر إرادة الزمان وتحتوي المكان، كي تجعل حياتنا أكثر جمالاً ومتعة واستقراراً وسهولة، وهي فوق ذلك كلّه تصنع ما كان يعتقد أنّه من ضروب المستحيل.

ومع أهمّيّة ما حقّقته وسائل الإعلام والاتّصال الرقميّة من تقدّم، أطلق عليه اسم الثورة التكنولوجيّة تارة وثورة المعلومات طوراً وثورة الميديا والرقميّة طوراً آخر،  فإنّ هذه الميديا ما زالت تسحقنا بنوع من الثورة المتمرّدة المستمرّة في إحداث المعجزات الرقميّة والإلكترونيّة. لقد شهدت الإنسانيّة تطوّراً إعلاميّاً بدأ مع الكتاب والصحافة مروراً بالراديو والتلفزيون والحاسوب ثمّ الإنترنت فالثورة الرقميّة الّتي فرضت نفسها في مختلف وجوه الحياة في بداية القرن الحادي والعشرين.

ملاحظات أولية وخاطفة حول كتاب"المقاربة بالكفايات،من الخطاب البيداغوجي إلى منهاج التاريخ بالتعليم الثانوي بالمغرب" (2023) للأستاذ بكلية علوم التربية محمد صهود :
أولا، الكتاب إضافة نوعية ستغني لا محالة رفوف مكتبات الباحثين والمهتمين بقضايا التربية والتعليم وبشكل عام : محاور و موضوعات المقاربات البيداغوجية
والمنشغلين بتدريس التاريخ بشكل خاص : محاور في براديغمات تدريس التاريخ وتقويمه معطيات من السياق المغربي وترصيد مفاهيمي يتهيكل حول مفهوم الكفاية من داخل الخطاب البيداغوجي العام إلى الخاص المتعلق بمنهاج التاريخ.
ثانيا المؤلف يستعيد براديغمات التعقيد والوظائف التعددية للمناهج التربوية في التحديد العام والخاص المرتبط بتعلم التاريخ مع أمثلة غنية من النماذج التطبيقية للكفايات في مجال الدراسات الاجتماعية، وأخرى تذكر وبتوضيحات معززة بالمكونات المنهجية للتحقيب التاريخي.
ثالثا يعرض المؤلف لائحة أهداف تدريس التاريخ في المنهاج المغربي، والمداخل الممكنة لتقويم الكفاية (تصورات وأنماط) ويستعيد المبادئ والموجهات العامة لتنظيم المراقبة المستمرة والامتحانات الاشهادية بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي وتأكيد حقيقة لطالما كانت موضوع مناقشات ما بين مدرسي المادة والباحثين في تدرسيتها عنوانها : استبعاد تقويم القيم والمواقف والاتجاهات المرتبطة بالتاريخ .

يقول نيتشة: "إنّ التربية آلة للتلاعب والتناوب، تعمل على تشويه وعي الإنسان، وإلغاء ذاته، ومن ثمّ إخضاعه للسلطة المطلقة للدولة". ويقول الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو" إنّ الإنسان المتمدّن يولد ويعيش ويموت في حالة عبوديّة، إذ يوضع في قماط عندما يولد، ويزجّ في كفن عندما يموت، ويقيّد بأغلال الحياة الاجتماعيّة أثناء حياته ([1]).

1- مقدمة:

يعد مفهوم الاغتراب (Aliénation ) من أكثر المفاهيم الإنسانية استخداماً في مجال العلوم الإنسانية، ومن أكثرها قدرةً على وصف مظاهر البؤس الإنساني والقهر الاجتماعي، ويشكل في الوقت نفسه مدخلا منهجيا تعتمده العلوم الإنسانية في تحليل الظواهر الاستلابية القائمة في واقع الحياة الاجتماعية ([2]). وإذا كان مفهوم الاغتراب يُعتمد كأداة تحليل منهجية في دراسة القهر الذي تفرضه الأوضاع الاجتماعية الصعبة على الأفراد، فإنه يشكل في الوقت نفسه منطلقا منهجيا لدراسة الأوضاع السيكولوجية الاغترابية للفرد في سياق تفاعله مع معطيات وجوده الاجتماعي، وهو وفقا لهذا التصور يأخذ بأهمية التفاعل الجدلي بين الاجتماعي والنفسي في دراسة ظواهر الضياع والاستلاب عند الإنسان المعاصر.

ويشهد مفهوم الاغتراب تطوّراً كبيراً في ذاته يتجاوب فيه مع الطابع المتجدّد للفكر الإنسانيّ في ضوء التحوّلات الإنسانيّة الجديدة المعاصرة في مختلف ميادين الحياة وتجلّياتها. وفي دائرة هذا التجدّد الفكريّ للمفهوم تطالعنا مفاهيم فرعيّة جديدة كالاغتراب الذاتيّ، والاستلاب الاجتماعيّ، والاغتراب السيكولوجيّ. ويلاحظ اليوم أنّ التيّارات الفكريّة الجديدة المعنيّة بالمفهوم تحاول أن توازن اليوم بين الرؤى الماركسيّة لهذا المفهوم وبين التصوّرات الّتي يقدّمها التحليل النفسيّ في دراسة ورصد أبعاد الحياة الاغترابيّة عند الإنسان.

وإذا كانت نظرية ماركس الاغترابية تشكل منطلق التحليل الكلاسيكي في ميدان الضياع والاستلاب والاغتراب، فإن الأبحاث السوسيولوجية والسيكولوجية الحديثة استطاعت أن تقدم إضافات جديدة في هذا الميدان لا تقل أهمية وخطورة. لقد ألحّ كارل ماركس وأكد أهمية الجوانب الاقتصادية في مفهوم الاغتراب، وقد أدى هذا التشديد الاقتصادي في كثير من المراحل الزمنية إلى تهميش الجوانب السيكولوجية والإنسانية لهذا المفهوم ([3]). ورغم ذلك استطاعت البحوث السيكولوجية أن تحقق تقدمها، وأن تؤكد في الوقت نفسه حضورها المظفر في تناول هذا المفهوم وتحليله من زاوية سيكولوجية صرفة. ويلاحظ في هذا السياق أن التيارات الفكرية الحديثة عملت بصورة مستمرة على تحقيق المصالحة بين مفهوم الاغتراب الماركسي ومفهوم الاغتراب في التحليل النفسي. 

"الحكومات لا تريد شعبا يملك روحا ناقده، انها تريد عمالا مطيعين، تريد اشخاصا اذكياء فقط بما يكفي لتحريك الآلات، واغبياء بما يكفي لقبول الوضع الذي يعيشونه."
جورج كارلين
ــــــــــــــ

1- مقدّمة:

ينطوي الفعل التربويّ في تكويناته على فيض من الوظائف الخفيّة والأسرار المغلقة الّتي تأخذ طابعاً اجتماعيّاً وسياسيّاً مركّباً في تكويناته معقّداً في آليّات اشتغاله. فما نعرفه عن المدرسة ووظائفها يرتهن لرؤية مبسّطة قوامها أنّ المدرسة كيان تربويّ يجتمع فيه الأطفال والناشئة من أجل التحصيل والتكوين والإعداد للحياة. ويتضمّن هذا التصوّر البسيط بأنّ المدرسة مؤسّسة تربويّة تكرّس قيم العدالة والتكافؤ والمساواة بين الأطفال دونما تمييز مهما تكن عناصر هذا التمييز الاجتماعيّ الممكن. تلك هي صورة المدرسة في ظاهر الأمر، وتلك هي حقيقيّة من حقائقها. ولكنّ الدراسات السوسيولوجيّة تكشف اليوم عن حقائق خفيّة ومعقّدة في بنية الفعل المدرسيّ، وهذه الحقائق تتناقض مع الصورة المشرقة لمفهوم المدرسة ووظائفها.

فالمدرسة في وظيفتها الاصطفائيّة تترجم آليّة النظام الحياتيّ لمجتمع قائم على الاصطفاء والانتخاب، وهي بموجب هذه الوظيفة الاصطفائيّة تتبنّى نسقاً من القيم والمعايير الاجتماعيّة الّتي تتّصل بعمليّة تقويم التحصيل المعرفيّ والعلميّ والمهنيّ. ويتمّ هذا التقويم على أساس مناهج يفترض أنّها موضوعيّة، ومثل هذه العمليّة تقود إلى اصطفاء المتعلمين وتصنيفهم في طبقات وفئات مختلفة. فالمدرسة وكالة اجتماعيّة ترتهن وظيفتها بالأنظمة الاجتماعيّة الّتي تهيمن وتسود التي تقوم بتحديد وظائف المدرسة على مقاييس النظام الاجتماعيّ القائم. وهذا يعني أنّ المدرسة لا يمكنها أن تنفصل عن السياق الاجتماعيّ الّذي يحتضنها، ومن ثمّ فإنّ وظائفها لا يمكن في نهاية الأمر أن تتناقض مع الضرورات الوظيفيّة والاجتماعيّة للمجتمع الّتي توجد فيه. وهي غالباً ما تكون على صورة المجتمع الّذي يحتضنها. وتأسيساً على ذلك تلعب المدرسة دوراً اصطفائيّاً في مجتمع يقوم على الاصطفاء، وهي تمارس دوراً طبقيّاً في مجتمع تحرّكه نوازع الصراع الطبقيّ.

2- الإقصاء المدرسي والاصطفاء:

شكّلت الدور الاصطفائي للمدرسة موضوعا مركزيا في مجال علم الاجتماع التربوي الذي استطاع أن يستكشف الجوانب الخفيّة في وظائف المدرسة التي تقوم على تأكيد القيم والممارسات الطبقيّة في المجتمعات الإنسانيّة. فالمستقبل الّذي تعدّه المؤسّسة المدرسيّة لأطفال العمّال يختلف ويتعارض مع المستقبل الّذي تعدّه لأطفال الصناعيّين والتجّار في المجتمعات الرأسماليّة. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وغيرها من المجتمعات الرأسماليّة، تضع المؤسّسات التربويّة شروطا مجحفة ومنظّمة ضدّ أطفال الفئات الاجتماعيّة الفقيرة: فمدارس الأحياء الفقيرة تفتقر إلى مختلف شروط الحياة المدرسيّة الّتي نجدها في مدارس الأحياء البرجوازيّة. ويتجلّى هذا التباين في مستوى التجهيزات المدرسيّة، وفي مستوى المعلّمين بين الأحياء العمّاليّة والأحياء البرجوازيّة. ومثل هذه المدرسة، لا يمكنها أن تجسّد مبدأ المدرسة الواحدة للجميع، المدرسة الّتي تقدّم تعليماً متكافئاً إلى جميع التلاميذ والطلّاب.