" إننا نواجه اختيارا يتعين علينا أن نتخذه بشكل جماعي ، فإما أن ننفق المزيد الآن على التعليم في حالات الطوارئ والأزمات ، أو ندفع ثمن جيل مفقود من الأطفال غير المتعلمين بل المحطمين " .
( أنطونيو ليك – المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة الأطفال " اليونيسيف " 2020 )
استهلال : ( لذة النص Le plaisir du texte )[1]
" ما أتذوّقه في قصّة من القصص، ليس هو مضمونها مباشرة، ولا بنيتها، ولكنّي أتذوّق بالأحرى الخدوش التي أفرضها على الغلاف الجميل : إنّني أركض، وأقفز، وأرفع رأسي، وأعود للغوص ثانية ، وليس لهذا أيّة علاقة بالتمزّق العميق الذي يرسّخه نصّ المتعة في اللّغة نفسها و لا في قراءته الزمانيّة البسيطة "
( رولان بارت ، لذّة النصّ Roland Barthes, Le plaisir du texte )
قبل حوالي خمس وثلاثين سنة تقريبا وتحديدا سنة 1985 من القرن الماضي نشر الكاتب والأديب الكولومبي " غابريال غارسيا ماركيز" ( Gabriel García Márquez ) روايته الشهيرة ( الحب في زمن الكوليرا – El amor en los tiempos del colera )[2] والتي تناول فيها وقتئذ مفردات تعودنا تكرارها خلال أيامنا هذه من قبيل : الوباء والجائحة والحجر الصحي واليأس والأمل والهزيمة والانتصار والتحدي والصمود والمستحيل والممكن...
وبعيدا عن أجواء الرواية وأحداثها[3] وما اكتنفها من نبوغ في السرد القصصي وسعة الخيال وسلاسة التعبير التي عهدناها ممن حاز على جائزة نوبل للآداب ( 1982) ارتأينا استعارة عنوان الأثر الأدبي المشار إليه قصد اسقاطه على واقعنا التربوي الحالي.. لنجد أنفسنا في صميم الحقل الدلالي لتلك المفردات والمفاهيم التي غصت بها الرواية وإن كان ذلك في سياقات أخرى وعبر مداخل وأدوات ومنهجيات مغايرة ،هاجسها تقصي الإجابة عن سؤال الكيفيات ، الحدود والإمكانات في واقع يكتنفه الغموض ويدفع دفعا في اتجاه المجهول كما سبق ودفع من قبل أبطال رائعة " غارسيا ماركيز " : عامل التلغراف العاشق المهزوم " فلورنتينو أريثا " وحبيبته السبعينية الجميلة " فيرمينا دازا " ، في سفينة نهرية تعبر اليم ذهابا وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر وتأبى الرسو ، كي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ..
مقدمة : ( حيرة عالمية une perplexité mondiale )
شهد العالم منذ بداية السنة وحتى يومنا هذا تحولا دراماتيكيا بسبب جائحة الكوفيد-19 التي تسببت بشكل أو بآخر في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل / شاب عن التعليم في 161 بلدا، أي ما يقرب من 80 % من المقبلين على الدراسة في أنحاء العالم...
وحسب معطيات البنك الدولي فإن تلميذا من كل 10 تلاميذ قد شملته ظاهرة التسرب المدرسي (الانقطاع المبكر)..
وفي تونس تشير الأرقام ( أكتوبر 2020 ) إلى أن عدد المصابين بالكوفيد داخل المؤسسات التربوية بلغ 1390 حالة مؤكدة بينما قدر عدد الحالات المشتبه بها 3628 ..
ويبدو أن النسق التصاعدي لهذه الأرقام هو الذي حتم إيقاف الدروس أحيانا كما دفع بسلطة الاشراف إلى غلق جزئي لبعض المؤسسات وإقرار تقديم آجال عطلة نصف الثلاثي الأول مع التمديد فيها لأيام.
وما من شك في أن هذه السياقات -إن شئنا- تؤشر إلى أزمة[4] حقيقية يمر بها قطاع التربية والتعليم وهي أزمة تتجاوز في عمقها وارتداداتها ومآلاتها بقية الأزمات التي عرفتها المدرسة وأطنب في تفكيكها كل من " برنارد شارلوت " ( Bernard Charlot )[5] و" فيليب ماريو " (Philippe Meirieu) و" فرونسوا دوربار" (François Durpaire)[6] و" كريستيان لافال " (Christian Laval )[7]...
لماذا ؟ .. لأن هذه الأزمة محكومة إضافة إلى العوامل الداخلية المتعارف عليها في المستويين الهيكلي والوظيفي ( غياب مشروع سياسي وطني للمدرسة ، مشكل التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين ، نظام التقييم والامتحانات ، العنف المدرسي ...) بعوامل خارجية نجد في مقدمتها العامل الصحي الذي بات يمثل متغيرا رئيسيا وإكراها حقيقيا عطل مسار العملية التربوية وأربك نظام الدراسة وكشف حدود البيداغوجيا ومقارباتها التقليدية وهو ما يدفعنا إلى تطارح جملة من الإشكاليات يمكن اختزالها في أسئلة ثلاث :
1- ما الأثر الذي خلفة الكوفيد- 19 على أداء المدرسة عموما وعلى الفعل البيداغوجي خصوصا في علاقة بالتحصيل العلمي للتلميذ أولا وعلاقته بالمعرفة ثانيا في ظل واقع محفوف بالخوف والتوجس ومحكوم بالارتباك والارتجال ؟
2- ما مدى قدرة المقاربات البيداغوجية الحالية على مسايرة الأزمات بما في ذلك الأزمة الصحية التي عنوانها فيروس كورونا المستجد ؟
3- هل من ممكنات حقيقية لتحويل الأزمة إلى فرصة حقيقية لمراجعة المنظومة التربوية والتفكير في استراتيجيات ومقاربات ملائمة لواقع الأزمات وتحدياتها ؟