يلج الطفل عالم المسرح متوسلا بميله الفطري إلى المحاكاة. تلك المهارة المتجذرة في طبيعته الإنسانية والتي تعتمد على الصوت والجسد في تقليد الآخرين، واكتساب المعارف الأولية، بالإضافة إلى التأثر بما يجري في محيطه. وهي في الوقت نفسه إحدى خواص الفن المسرحي، متى أحسن المدرس أو المنشط تحفيز أداء الطفل، وإعداده لتجربة متنوعة تعتمد الاستخدام الكامل لإمكاناته.

ليس الهدف بالضرورة خلق ممثل محترف، إذ يؤمن الطفل في النهاية بأن الأداء المسرحي هو لعبة للتنفيس عن توتره، وتنظيم انفعالاته، ومعالجة بعض مشاكله النفسية كالخجل وعيوب النطق. لكن ما الذي يمنع من الارتقاء بما يجري داخل الفصل الدراسي، أو في دور الشباب ومراكز الطفولة، إلى ممارسة واعية وممتدة، تتحرر من البساطة والتلقائية المعهودة لتربية الممثل الصغير؟

قدم المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي منهجا وطريقة في تدريب الممثل، تهتم بتفجير ملكات المخيلة والإبداع. وهو يؤمن بأن الممثل الذي يستشعر الموقف الوهمي، لن يجد صعوبة في التجسيد وإظهار العواطف والانفعالات الملائمة. وتعتمد طريقته على استرخاء الجسم والصوت، وتركيز الانتباه، وتحفيز الخيال دون فرض قواعد أو نماذج مسبقة.

يرتكز إذن تدريب الممثل وفق أسلوب ستانيسلافسكي على:

  • الاسترخاء: وذلك من خلال تمارين يتم تنفيذها مع كل جزء من أجزاء الجسم على حدة، وتهدف لتقليل التوتر، والسيطرة التامة على الصوت والجسد. ويمكن تشبيه الاسترخاء هنا بعملية ضبط الآلة الموسيقية قبل العزف.
  • التركيز: ويتضمن اختيار الممثل لموضوع أو مشكلة محددة للتدرب عليها. ويخدم التركيز هنا عدة جوانب من بينها: عزل الممثل عن التشويش الخارجي، وتحرير العقل ليتمكن من خلق المشهد المتخيل، ثم العيش في الجو التمثيلي كأنه حقيقة واقعية" مثلا التدريب على حمل كوب من الشاي، حيث يستعين الطفل بكوب حقيقي، ثم يحاول أن يستعيد تلك الخبرة مع كوب خيالي، مستحضرا وزنه وملمسه والسخونة التي يسببها".

تبدأ علاقة الطفل بالقصة والحكاية مستمعا ثم قارئا؛ لكن المسرح بإمكاناته الهائلة ينقله إلى عالم جديد قوامه التمثيل والفرجة، والمزج بين التعبيرات المتعددة على الخشبة. وهو انتقال يتطلب بالأساس اهتماما بالسمات النفسية التي تُمهّد لعلاقته بالمسرح؛ حيث إن الطفل يولد فنانا، يقول بابلو بيكاسو، لكن المشكل هي كيف نحتفظ بهذا الفنان بينما يكبر.

غير خفي إذن أن مسرح الطفل تتحكم في إنتاجه اعتبارات تربوية وفنية، متسقة بطبيعة الحال مع النمو النفسي والإدراكي والمعرفي للطفل. وهذا يعني أن إعداد عمل مسرحي ينطلق من استيعاب للخصائص السيكولوجية للطفل والمراهق؛ لأن عدم الاهتمام يؤدي في النهاية إلى تقديم عروض مسرحية ضعيفة أو مربكة لقدراته الذهنية. وبالنظر إلى عدد السنوات التي يقضيها الطفل في حضن المدرسة الابتدائية، يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين:

  • مرحلة الخيال الحر والمطلق، حيث يتطلع الطفل في الفترة ما بين 6 إلى 9 سنوات إلى عوالم خيالية، تستوعب رغبته في المتعة والانطلاق خارج حدود واقعه اليومي. لذا يُظهر ميلا شديدا لقصص الحوريات والعمالقة والأقزام، وللحكايات المستلهمة من التراث الشعبي.
  • مرحلة البطولة والمغامرة والخيال الواقعي، وهي الممتدة إلى سن 12 سنة، حيث يبدأ تحرر الطفل تدريجيا من عالم الخيال، ليصير تفكيره أكثر نضجا واستعدادا لإظهار الشجاعة والمسؤولية. وخلال هذه المرحلة تستهويه قصص المغامرة التي تعتمد التفكير والتوقع، وتجعل من شخصية البطل قالبا ملائما لتمرير القيم والمواقف، وتأكيد ارتباطه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية المختلفة.

تحدد تلك الخصائص وجهة المدرس أو المنشط في اختيار النص المسرحي الذي يتناسب مع إدراك الطفل واحتياجاته. نص ينبغي أن يتحقق فيه قدر من التبسيط، ووضوح العلاقات بين شخصياته، وبناء درامي تتنامى داخله الأحداث بشكل تسلسلي لا يعتمد القفزات المفاجئة.

بالنظر إلى الصعوبات التي تكتنف الكتابة المسرحية للطفل في العالم العربي، فإن المدرس أو المنشط يجد نفسه أمام خيارين: إما إيجاد نص ملائم، أو بذل جهد إضافي يتمثل في مسرحة نص أدبي " قصة، حكاية، شعر..." مع متطلبات البناء المسرحي. وفي كلتا الحالتين لابد من مراعاة بعض القواعد التي تجعل النص ملائما لنفسية الطفل وقدراته.

تشير البيداغوجيا التلقينية إلى تربية وتلقين المتعلمين مجموعة من المعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات في سياق ضبطهم إياها، حيث تجعل من ضبط محتوى ومضامين المعرفة الغاية الأسمى من كل تعليم، حيث يركز الأستاذ المدرس على الجانب/البعد المعرفي في المتعلم ويقصي الجوانب الأخرى، ومن هنا تنطلق البيداغوجيا التلقينية أو كما عرفت في الأدبيات التربوية ببيداغوجيا المضامين أو المحتوى، وهي بالمناسبة بيداغوجيا تقليدية تلقينية، لأنها تنطلق من مسلمة/فرضية أساسية وهي أن عقل التلميذ صفحة بيضاء ومن ثم وجب ملؤه وشحذه بكمية من المعارف والعلوم الجاهزة، بدون مراعاة لتمثلاته الشخصية التي يكتسيها من المحيط الإجتماعي الذي يندرج منه، ومن ثم فهي تؤكد على قيمة وأهمية التلقين على حساب الإبداع، وذلك من خلال محاكاة المتعلم لسلطة النموذج السلوكي والتشبع بالعديد من القيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة، بدون فحصها وتمحيصها لهذا يتم نعتها بالمقاربة التلقينية.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أنه توجد العديد من الممارسات المهنية لبعض المدرسين -في جميع المواد التعليمية- لازالت تركز لنا على الجانب المعرفي والفكري للمتعلم، ويتم التركيز بالخصوص على المضامين والمحتويات المعرفية، وكأن رهان تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي هو شحذ ذهن المتعلم بمنظومة من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات الفلسفية -التي أصبحت متجاوزة وتعرضت للكثير من النقود- فيركز الأستاذ /المدرس على سيرورتي إفهام تصور الفيلسوف وتذكير المتعلمين بحفظه وضبطه جيداً، من أجل استرجاعه أثناء المراقبة المستمرة أو الامتحان النهائي، وهكذا يتم ضمان نقطة كاملة في مادة الفلسفة وغيرها من المواد.

ما نلحظه هنا هو أن ما يميز المقاربة التلقينية هو أنها مقاربة تقليدية تركز على أسلوبي التلقين والاجترار والتكرار والاسترجاع، كما تركز على ملكة الذاكرة، بدل ملكة الفهم والإدراك والعقل، كما أن ما يميزها هو رفضها لكل إبداع وخلق وابتكار وتجديد وبحث ...

فماذا سننتظر من مادة الفلسفة في ضوء هذه البيداغوجيا التلقينية؟ سوى أن تتحول هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية والتساؤلية إلى منظومة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي يكررها المتعلمون كالببغاوات، فتجدهم يكررون قولة أو كوجيطو رونيه ديكارت الشهير:  "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، دون إدراك عمقها الفكري والفلسفي، بل وكيف أسست للفلسفة الحديثة، وركن الحداثة، وأن هذه المقولة ما هي سوى صَدَى وَرَدُّ فِعْلٍ للثّوْرَةِ الكُوبِّيرْنِيكِيّةِ الشهيرة لسنة 1543م.

وما يهمنا هنا في حقيقة الأمر هو سعي الأستاذ /المدرس الحثيث إلى تلقين المتعلمين المنظومة المعرفية المثقلة التي تنتمي لتاريخ الفلسفة الضخم، وهي معارف ترنسندنتالية بمعناها المتعالي والعاجي، لم يساهم المتعلم في تكوينها وتكونها نتيجة هذه البيداغوجيا التي تعتمد التلقين.

هكذا يعتمد تعريف التلقين على تلك العقيدة المرتبطة به، أو المذهب الذي يتمّ تعليمه. لهذا تهدف البيداغوجيا الحقيقية إلى تكوين أفراد مسؤولين وواعين يفكرون بأنفسهم لأنفسهم مهما حدث ويحترمون الآخرين. بالنسبة إلى أوليفيي روبول، " فإن أي تعليم ينحرف عن هذه الأهداف هو "تعليم مضاد". ويضيف أن المدرس يواجه دائمًا خطر التأثير على طلابه إما لأنه ينخرط في الدعاية أو، على العكس من ذلك، لأنه يُشْعِرُهُمْ بالمَلَلِ من تَعْلِيمِهِم. " [1].

ولهذا نلحظ العديد من المتعلمين الذين يخلق لديهم هذا الأسلوب التلقيني العقيم في التدريس، الملل والرتابة والضَّجَرِ، لهذا تجدهم يعبرون عن تذمرهم وسوء فهمهم للمعارف الفلسفية بل وكيفية تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع.

الدرجات الفخرية هي الاعتراف المرموق في التعليم العالي، مخصصة للأفراد البارزين ذوي السمعة الوطنية أو الدولية. عادةً ما يكون المتلقون هم كبار العلماء والمكتشفين والمخترعين والمؤلفين والفنانين والموسيقيين ورجال الأعمال والناشطين الاجتماعيين والقادة في السياسة أو الحكومة. في بعض الأحيان، يتم منح الدرجات الفخرية للأشخاص الذين قدموا خدمة مدى الحياة للجامعة من خلال عضوية مجلس الإدارة، أو العمل التطوعي، أو المساهمات المالية الكبيرة. وهي معروفة أيضاً بالعبارات اللاتينية Honoris Causa الدرجة عادة ما تكون درجة الدكتوراه، أو درجة الماجستير بصورة أقل شيوعاً.

إذن الدكتوراه الفخرية هي درجة اسمية تكريمية وتشريفية، وليست مرتبة علمية أو أكاديمية، ولا تحمل معها أي مؤهل أكاديمي رسمي. على هذا النحو، من المتوقع دائماً أن يتم إدراج هذه الدرجات العلمية في السيرة الذاتية للفرد كجائزة، وليس في قسم التعليم. وفيما يتعلق باستخدام هذا اللقب التشريفي، فإن سياسات مؤسسات التعليم العالي تطلب بشكل عام من الحاصلين عليه "الامتناع عن اعتماد اللقب المضلل" وأن الحاصل على الدكتوراه الفخرية يجب أن يقيد استخدام لقب "الدكتور" قبل اسمهم حصراً مع مؤسسة التعليم العالي المعنية وليس خارجها.

تسلط شهادات الدكتوراه الفخرية الضوء على أسئلة غير مريحة، ولكنها مهمة حول غرض الجامعة ودورها في تعزيز البحث العلمي، وفي المجتمع الأوسع. اتُهمت بعض الجامعات والكليات بمنح درجات فخرية مقابل تبرعات كبيرة. يتعرض الحاصلون على الدرجة الفخرية، وخاصة أولئك الذين ليس لديهم مؤهلات أكاديمية سابقة، للانتقاد في بعض الأحيان إذا أصروا على أن يطلق عليهم لقب "دكتور" نتيجة لمنحتهم، لأن التكريم قد يضلل عامة الناس بشأن مؤهلاتهم.

الأصل التاريخي

تعود هذه الممارسة إلى العصور الوسطى، عندما يتم إقناع الجامعة، لأسباب مختلفة ـ أو تراها الجامعة مناسبة ـ بمنح الإعفاء من بعض أو كل المتطلبات القانونية المعتادة لمنح الدرجة العلمية.

لقد تم استخدام الدكتوراه الفخرية منذ فترة طويلة لتعزيز العلاقات المفيدة مع الأفراد أو البلدان أو المنظمات. منحت جامعة أكسفورد أول دكتوراه فخرية مسجلة في حوالي عام 1478 إلى "ليونيل وودفيل" Lionel Woodville صهر ملك إنجلترا "إدوارد الرابع"  Edward IV في محاولة واضحة "للحصول على تأييد رجل يتمتع بنفوذ كبير، وأصبح فيما بعد أسقف "سالزبوري" Salisbury.

في أواخر القرن السادس عشر، أصبح منح الدرجات الفخرية أمراً شائعاً جداً، خاصة بمناسبة الزيارات الملكية إلى أكسفورد أو كامبريدج. في زيارة "جيمس الأول" James I إلى أكسفورد عام 1605، على سبيل المثال، حصل ثلاثة وأربعون عضواً من حاشيته (خمسة عشر منهم من الإيرل earls أو البارونات barons ) على درجة الماجستير في الآداب، وينص سجل الدعوة صراحة على أن هذه كانت درجات كاملة تحمل الامتيازات المعتادة (مثل حقوق التصويت في الدعوة والتجمع).

  • تلخيص الفصل الثاني من كتاب: علم النفس التربوي (جابر عبد الحميد جابر. 2010: ص 63-100).

يقع الفصل الثاني من كتاب: علم النفس التربوي، في حدود 39 صفحة. وهو مطبوع ورقي، يستحق الاكتشاف والتعرف على نظريات ومبادئ النمو النفسي. احتوى هذا الفصل على أربعة مراحل للنمو وهي: النمو النفسي، والنمو الاجتماعي، والنمو المعرفي، ثم أخيرا النمو الخلقي.

لقد تناول الكاتب في عنوانه الرئيسي: طريقة المستوى العمري وعيوبها، حيث أشار إلى أن هناك طريقتان لدراسة سيكولوجيا النمو: يتعلق الأمر الأول باختيار سلوك معين ويتم تحليل التغيرات السلوكية وفق سيرورة نمو الطفل، في حين يتعلق الأمر الثاني والذي ركز عليه الكاتب باستخدام سلسلة من المراحل العمرية.

تطرح المراحل العمرية إشكالية المعايير عند الطفل، بحيث يواجهها المدرسون باستمرار، نتيجة عدم مراعاتهم للفروق الفردية من حيث النضج وفي القدرة على التعلم وفي فهم الشخصية؛ مما يستوجب على الآباء والمدرسين فهمها، لما لها من ضرر كبير في جهلها. فالسمات الشخصية للطفل والقدرات العقلية وكذا المهارات الحركية لا يجب مقارنتها بالكبار؛ وهذا ما تحاول تفسيره العديد من نظريات علم النفس في مراحل النمو والنضج.

تنقسم الاتجاهات الأساسية في النمو إلى ثمانية فروع؛ يرتبط الأول بالاتجاه الرأسي ذيلي وهو يقوم على فكرة التآزر بين أطراف الجسم، بينما الاتجاه الثاني من الداخل إلى الخارج يلح على أسبقية بعض أعضاء الجسم الخارجية في الاستجابة وتأخر في الأعضاء الخارجية الأخرى، ويرى الاتجاه الثالث أن النمو يسير من العام إلى الخاص؛ أي من التعميم (حركات وعضلات غير منتظمة) إلى التخصص، وفي مقابل هذا، نجد اتجاه الذي يؤكد على تداخل جميع مظاهر النمو تداخلا وثيقا، وأيضا الاتجاه الذي يعتبر أن النمو عملية مستمرة ومنتظمة؛ إلا أنه رغم ذلك فهو لا يستبعد عملية التوجيه. أما الاتجاهين الأخيرين، فإن أحدهما يرى على أن النمو يتضمن تغييرا كميا وكيفيا، في حين أن الاتجاه الآخر فهو يرى أن معدلات النمو ومظاهره تتفاوت من طفل إلى آخر؛ بحيث ينمو كل طفل بطريقة فريدة ومتميزة خاصة.

إن كفاءة الطفل الفعلية مرتبطة بصحته، وقد يتحول الجوع أو النوم أو التعب إلى عامل مؤثر في تغيير السلوك، كما قد تكون نتيجة هذه الاضطرابات الانفعالية تأثير على النجاح أو الإخفاق الدراسي. فالطفل حسب الاتجاهات الأساسية للنمو هي تركز على سلوك الطفل ونموه النفسي؛ بحيث تدعو إلى كل استخدام كل أشكال التشجيع والتدريب الممكنة، في مقابل عدم تكليفه بمهمة أو نشاط قد يتجاوز قدراته الشخصية، وهذا ينسجم بشكل كبير مع مفهوم الاستعدادات الفطرية الذي تتزعمه النظرية الإنسانية في علم النفس، من خلال دعمها للحرية في التعلم تماشيا مع معدل الطفل وطريقته الخاصة في التعلم.

مِهَادٌ إِشْكَالِيٌّ:
يعتبر أوليفيي روبول (1925-1992)، من فلاسفة التربية الفرنسيين المعاصرين، والذي سيعمل على نقد البِيدَاغُوجِيَتَيْنِ التَّلْقِينِيَّةُ والوَظِيفِيَّةِ، هذه الأخيرة الجنيسة بمقاربة التدريس بواسطة الأهداف، كما أنه ينتقد بشدة جميع أنماط الخطاب البيداغوجي التي كانت سائدة، أقصد هنا الخطاب الرافض، والمجدد، والوظيفي، والرسمي، وذلك من خلال موقعه كَمُحَلِّلَ خطاب بيداغوجي، حيث يستعمل المنهج الفلسفي التحليلي في حقل التربية والتعليم، وكل هذا كان بغرض مجاوزة الخطب التربوية التي كانت سائدة، واقتراح خطاب تربوي حديث، قائم على الحرية، لهذا سينادي بالتعليم الحقيقي، بدل التعليم الذي كان سائدا آنذاك في فرنسا والذي يستند على المقاربتين التلقينية والوظيفية، أي تلك التي ترتكز على مقاربة التدريس بواسطة الأهداف. وهذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال.

نمر الآن لطرح مجموعة من الأسئلة المنظمة الموجهة للتحليل والمناقشة النقدية والتي تعبر عن إشكالات فلسفية كبرى عرضها أوليفيي روبول أثناء نقده التحليلي للخطابات البيداغوجية، وهي كالآتي:

  • ماذا يقصد روبول بالتربية ؟
  • ماهي النقود التي وجهها أوليفيي روبول للأنماط التعليمية ؟
  • ما الذي يقترحه روبول كتعليم حقيقي بديل عن التعليم السائد ؟
  • ما هي السلطة التي وجب فرضها على المتعلم إذا كان التعليم يفرض سلطة ؟

              عندما نتحدث عن التربية والتعليم لدى أوليفيي روبول، أول ما يجب علينا معرفته عنه، أنه يقدم تعريفات خاصة به للتربية، ذلك أن لكل فيلسوف تعريفه الخاص، واستعمالاته الخاصة به للمفاهيم، حيث لا نجد فيلسوفا عبر تاريخ الفلسفة اعتمد على تعريف من سبقوه خاصة عندما يرغب في التأسيس أو المساهمة في تشييد وبناء حقل فلسفي معين، والحقل الذي قصده روبول بهدف التشييد والبناء والنقد والهدم وإعادة المراجعة هو حقل التربية، فيقدم تعريفا خاصا به لها بقوله :

"ينبغي أن نفهم من التربية التكوين الشامل للإنسان، والذي لا يعتبر التكوين المختص والتعليم ذاته سوى أجزاء منه. فالتربية هي مجموع السيرورات والأساليب التي تسمح للطفل البشري بالوصول إلى حالة الثقافة، الثقافة بإعتبارها ما يميز الإنسان عن الحيوان" [1]، تجذر الإشارة هنا إلى أن هذا التعريف هو آخر تعريف توقفت عنده فلسفة التربية، وهو تعريف شهير جدا، يعتمد عليه حتى في الحقول المعرفية الأخرى، حيث أنه يجعل من التربية سيرورة إنسانية غرضها نقل الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، وما يميز هذا التعريف أيضًا هو جعله من التربية دو شأن إنساني، وهذا يؤكد قول كانط بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يجب تربيته، حيث لا يمكننا أن نعلم الحيوان اللغات والعلوم والأخلاق والقيم، فالإنسان هو من يجوز تربيته وفقط، ذلك أنه "يمكن بدون شك تعليم الحصان في السرك [مثلاً]، بأن إثنان زائد إثنان تساوي خمسة، لكن لا يمكن أبدا تعليمها لإنسان" [2]، كما أن روبول يؤكد كثيرا على مسألة الثقافة الإنسانية الكونية، أي المشتركة بين جميع البشر، من هنا تتضح نزعته الإنسانية، حيث أن تعليم المرء ثقافة إنسانية مشتركة بين جميع أنواع البشر تحميه من السقوط في المذهبة.

" كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو أشد ضياءً من الشمس ” أفلاطون .

مقدمة:

هو أفلاطون (427- 347) عنوان الفلسفة المثالية وملهمها، وهو من أكثر عقول الإنسانية في العصر القديم نبوغاً وإبداعاً وإشراقاً وعبقرية، ولا ريب أن نظريته تشكل منعطفا تاريخيا في الفلسفة الإنسانية، ولا غضاضة إذ يشار إليه إجماعاً بأنه المؤسس الأول للخط المثالي في الفلسفة، وقد قدّر للمثالية أن ترتفع على يديه إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل، فطرحت نفسها اتجاها معارضا للفلسفة المادية الممثلة بخط ديمقريطس وطاليس وهيرقليطس. وقد عرفت مدرسته الفلسفية التي أطلق عليها "الأكاديمية" بأنها أهم جامعة تنويرية في العصور القديمة، وهي التي استمرت تومض وتشعّ بأنوارها فلسفة وعلماً وعطاءً فكرياً في أثينا مدة تسعة قرون، وكانت لتبقى لو لم يصدر الإمبراطور جستنيان الروماني قرارا بإغلاقها وطرد فلاسفتها. وقد قيل في أفلاطون "إن الفلسفة نبتت على يديه واكتملت في حياته"([1]).

يتحدّر أفلاطون من أسرة أثينية عريقة في المجد، ولد في أثينا عام 427 ق. م وعاش حتى بلغ الثمانين من العمر، إذ توفي سنة 347 ([2]). كان أبوه يدعى أرستون وأمه فريقونية. ويقال بأن الاسم الأصلي لأفلاطون هو أرستوقلس، ولقب أفلاطون لسعة في جبهته واتساع في منكبيه، كان رجلاً وسيماً وشجاعاً فاز في حلقات السباق وفي حلبات والمصارعة. تتلمذ مدة ثماني سنوات على يد أستاذه سقراط، وكان يقول حباً فيه: "أحمد الله الذي خلقني يونانياً لا بربرياً، وحراً لا عبداً، ورجلاً لا امرأة، ولكن فوق ذلك كله أنني ولدت في عهد سقراط"([3]). وكان لعبقرية ذلك الرجل أن تتألق في كل العصور التاريخية، حتى قيل فيه "إن أفلاطون هو الفلسفة وإن الفلسفة أفلاطون".

 كان أفلاطون واعظاً وكاهناً وفيلسوفاً ، أسس "الأكاديمية" في 388 ق.م، وسميت هكذا لأنها أقيمت بالقرب من ضريح أكاديموس البطل الأسطوري اليوناني، وكتب على بوابتها "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا".

كان عصر أفلاطون عصر حروب ومؤامرات ودسائس سياسية، الحرب بين الفرس والإغريق، الحرب بين أثينا وإسبرطة، المؤامرات بين الأحزاب والأرستقراطية والديمقراطية. وتحت تأثير تلك الظروف وعلى أثر مقتل سقراط قرر أفلاطون الترحّل في بلدان واسعة كإيطاليا ومصر وصقلية، وكات للأنظمة السياسية في تلك البلدان تأثير واضح على نمط تفكيره السياسي. وكان لإعدام أستاذه سقراط أثر كبير في توجهه نحو العمل السياسي في عصره، إذ كان حاقداً على الديمقراطية الأثينية التي أدت إلى مقتل العقل.

تمهيد:
أصبحت ظاهرة العنف تكتسي أهمية كبرى في السنوات الأخيرة، بحيث صارت موضوعا محوريا ومركزيا في النقاشات السوسيولوجية والسيكولوجية والأنتروبولوجية وكذلك عند مختلف الفاعلين والمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو حتى عند عامة الناس بمختلف مستوياتهم، سواء أكان العنف الممارس عنفا أسريا أو مجتمعيا أو مدرسيا أو مؤسساتيا أو غير ذلك من انواع العنف، وكذلك بشتى أشكاله وتلاوينه سواء أكان العنف عنفا نفسيا أو جسديا أو رمزيا أو لفظيا أو جنسيا أو غير ذلك. ومن هنا نطرح التساؤل التالي، لماذا أصبح العنف موضوعا مهيمنا في جل النقاشات التربوية والتعليمية والبيداغوجية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية فالسنوات الاخيرة؟ أليست هناك مواضيع ومشاكل أخرى تعيشها المدرسة المغربية يتوجب علينا الإلتفات إليها من قبيل الاكتظاظ، وضعف التحصيل الدراسي، وعدم ملاءمة المناهج، وتغيير البرامج والمقررات في كل مرة، وقلة الموارد البشرية المؤهلة، إلى غير ذلك من الموضوعات العديدة والمتعددة، والتي لم تنل حظها من العناية والاهتمام بالدراسة والتحليل.

  إن ظاهرة العنف تكتسي أهمية خاصة، نظرا للعلاقة المباشرة التي تربط بين ممارسة العنف وبين طريقة تشكل شخصية الإنسان بصفة عامة والطفل بصفة خاصة، سواء تم ذلك داخل المدرسة أو المجتمع أو الأسرة. إن البحث في موضوع العنف يجيب عن أسئلة عميقة شغلت بال العديد من المفكرين والباحثين التربويين والمحللين النفسانيين حول مفهوم الشخصية وطبيعة تشكلها لدى الأطفال، وبالخصوص في السنوات المبكرة، وبالضبط في المجتمعات العربية ذات البنية الذكورية المحافظة أو ما يسمى بالمجتمعات البطريكية، والتي في الغالب ترسخ سلوكات خاطئة ومدمرة عند الأطفال ذكورا كانوا أو إناثا، هذه المجتمعات التي تعلي من سلطة الذكر على حساب الأنثى، ومن سلطة الكبير على حساب الصغير، ومن سلطة الشيخ على حساب الشاب، ومن سلطة الرجل على حساب المرأة، إلى غير ذلك من التراتبيات المجتمعية، مما يولد مع هذا النوع من السلط تجاوزات وخروقات تتجلى في ممارسة أشكال من العنف المادي والرمزي.

 وتعد هذه إحدى خصوصيات البيئة العربية، رغم ما تزخر به من قيم ومبادئ إسلامية تحث على تجنب ممارسة العنف بحق الأطفال وتؤكد على إعطاء قيمة كبرى لشخصية الطفل، لكي ينضج في بيئة سليمة، كما ورد ذلك في القران الكريم، يقول تعالى: (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون)[1]، بمعنى أن حق اللعب لدى الأطفال مهم للغاية، ومقرر بنص قرآني صريح، إذ يسهم اللعب في تطوير شخصياتهم، ويمنحهم الاتزان النفسي الضروري، وذلك بعكس من حرموا منه، وهذا ما يقره مضمون الآية القرآنية منذ آلاف السنين، قبل أن تظهر المواثق الدولية التي تحث على احترام حقوق الأطفال وبالخصوص حق اللعب، وفي المقابل لم يلتزم إخوة يوسف بهذا الإقرار الصريح منهم بحق اللعب، وقاموا بإلقاء أخيهم في البئر، وهو نوع خطير من العنف الجسدي والنفسي ارتكب بحق أخيهم الطفل يوسف وهو ما يزال صغير.

1.تأثيرات التربية العنيفة على الأطفال.

إن ممارسة العنف على الأطفال تؤدي لا محالة إلى عواقب وخيمة على نبوغهم وعلى مستقبلهم وعلى تشكل شخصياتهم، من هنا يتبين لنا مدى أهمية دراسة العنف وتحليل عواقبه على الفرد ، ومدى الخطورة التي قد تسببها ممارسته على الأطفال بالخصوص، فالحصول على أطفال معنفين من قبل أسرهم أو مجتمعهم أو في مدارسهم ، يعيق تطور ونمو شخصياتهم بشكل سلس، ويعيق كذلك تحصيلهم الدراسي وتطوير مستواهم التعليمي، فرغم كم الأبحاث والدراسات العديدة التي أنجزت حول موضوع العنف عند الأطفال، مازال البحث في الموضوع يغري الباحثين والدارسين والمختصين، لأن مقاربته تتيح لنا فهم أبعاد أخرى للشخصية الإنسانية بصفة عامة وشخصية الطفل بصفة خاصة، إن جل الأطفال المعنفين أو الذين سبق وتعرضوا للعنف بأنواعه وأشكاله لا يتمتعون في الغالب بشخصية قوية وسوية، ويفتقدون في الغالب لعامل الثقة بالنفس، وجلهم لا يتمتعون بروح معنوية عالية وثقة تامة بالذات، تمكنهم من الاندماج السريع في مجتمعاتهم وفي أوساطهم الأسرية عن طريق الانخراط في مجموعة من الأنشطة الحياتية والمجتمعية سواء العادية أو التي تتطلب استخدام ذكاء معين.

 إن ممارسة العنف بأنواعه المختلفة تقمع كيان الطفل و تحقر ذاتيته الخاصة وتشل تطوره الطبيعي والسلس في المجتمع وتكبح نبوغه، وتعيق تبلور وتشكل شخصية مبدعة ومنتجة ومنفتحة على المجتمع، فالطفل المعنف بهذا المعنى السالف الذكر يرفع من نسبة الحصول على أطفال مسالمين، اتكاليين ، خنوعين يتملكهم الخجل، وعدمي الثقة بأنفسهم، إنهم تجسيد لعلاقة القهر والرضوخ التي يعاني منها الانسان المقهور، الذي لا يجد له من مكانة في علاقة التسلط العنفي هذه، سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية لقدر مفروض[2]، فلا مناص إذن من إعادة النظر في طرق تفكيرنا وأساليبنا التربوية والبيداغوجية للحد من انتشار هذه الآفة المجتمعية، لأن معظم الأدبيات التربوية تتفق على أن كسب رهان الجودة داخل المنظومة التربوية مرتبط بتوفر شروط بيداغوجية ملائمة وتبني مقاربة نسقية تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعة المنظومة التربوية والرفع من أدائها[3]، والتي من بينها التخلي عن الممارسات الغير تربوية في تدريس الأطفال.

فلسفة التربية هي فرع من الفلسفة التطبيقية أو العملية التي تهتم بطبيعة التربية وأهدافها والمشكلات الفلسفية الناشئة عن النظرية والممارسة التربوية. ونظرا لأن هذه الممارسة منتشرة في كل مكان لدى المجتمعات البشرية وعبرها، ولأن مظاهرها الاجتماعية والفردية متنوعة جدا، وتأثيرها عميق للغاية، فإن الموضوع واسع النطاق، ويتضمن قضايا في الأخلاق والفلسفة الاجتماعية/السياسية، والإبيستيمولوجيا، والميتافيزيقا، وفلسفة العقل واللغة وغيرها من مجالات الفلسفة.

ونظرا لأنها تتطلع في الداخل إلى نظام الوالدية وفي الخارج إلى الممارسة التربوية والسياقات الاجتماعية والقانونية والمؤسسية التي تحدث فيها، فإن فلسفة التربية تهتم بكلا جانبي الفجوة التقليدية بين النظرية والممارسة. ويشمل موضوعها كلا من القضايا الفلسفية الأساسية (مثلا، طبيعة المعرفة التي تستحق التدريس، وطبيعة المساواة والعدالة التعليمية، إلخ..) والمشاكل المتعلقة بالسياسات والممارسات التربوية المحددة (مثلا، جاذبية المناهج والاختبارات الموحدة، الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية لترتيبات التمويل المحددة، وتبرير قرارات المناهج الدراسية، إلخ). في كل هذا، يقدّر فيلسوف التربية الوضوح المفاهيمي، والصرامة الجدلية، والنظر العادل لمصالح جميع المشاركين في الجهود والترتيبات التربوية أو المتأثرين بها، والتقييم المستنير والمدروس للأهداف والتدخلات التعليمية.

لفلسفة التربية تاريخ طويل ومتميز في التقليد الفلسفي الغربي، منذ معارك سقراط مع السفسطائيين حتى يومنا هذا. قام العديد من الشخصيات الأكثر تميزا في هذا التقليد بدمج الاهتمامات التربوية ضمن أجنداتهم الفلسفية الأوسع (Curren 2000, 2018 Rorty 1998). وإذل لم يكن التاريخ محور التركيز هنا، فمن الجدير بالذكر أن مُثُل البحث المنطقي التي دافع عنها سقراط وأحفاده قد أبلغت منذ فترة طويلة وجهة النظر القائلة بأن التربية يجب أن تعزز لدى جميع الطلاب، قدر الإمكان، الاستعداد للبحث عن الأسباب والتفكير المنطقي والقدرة على تقييمها بشكل مقنع، والاسترشاد بتقييماتهم في مسائل الاعتقاد، العمل والحكم. هذا الرأي القائل بأن التربية تتضمن بشكل مركزي تعزيز العقل أو العقلانية، قد تم تبنيه بعبارات ومؤهلات مختلفة من قبل معظم تلك الشخصيات التاريخية؛ ولا يزال فلاسفة التربية المعاصرون يدافعون عنها أيضا (Scheffler 1973 [1989] Siegel 1988, 1997, 2007, 2017).

تقديم عام :
   يولد الإنسان ضعيفا لا يفصله عن عالم البهيمية إلا خيط هزيل، لكن التربية تسمو به و ترفعه الى مراتب الإنسانية، فما كان الإنسان ليكون إنسانا لولا التربية، و لو جاز لنا أن نحده بحدود تسيج كيانه فلن نقول إنه كائن عاقل أو ناطق، بل سنقول أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يربي و يربى، و الدليل على ذلك هو استحالة تصوره خارج إطار التربية، بل قد نغالي و نشاكس الفلسفات التي مجدت الإنسان باسم العقل و اللغة و الأخلاق أن هذه الأشياء كلها لا تحصل إلا بالرعاية، و الرعاية ليست شيئا أكثر من التربية، فالعقل يحتاج الى تهذيب إذا ما كان فطريا، و يحتاج الى تشذيب إذا ما كان مكتسبا، و اللغة لن تتجاوز حدود المحاكاة الطبيعية إذا لم يتم تطويرها عبر التربية انطلاقا من تجسير علاقتها بالثقافة، و ستبقى مهلهلة مفككة مفتقرة للنظام و الانسجام ما إن لم تتخذ التربية طريقا لها لتغتني و تتقوى، و أمارة ذلك أن لغة الشعوب البدائية التي تعيش نمط حياة أقرب الى الحيوانية لا تتعدى أن تكون لغة عيش فقط، لا لغة ثقافة و حضارة، و ليس ذلك قدحا و احتقارا لهذه الشعوب بقدر ما هو تشخيص واقعي حي لما هو حال الشعوب التي لا تتبع سبلا في التربية تستهدف الإبداع الفردي و الارتقاء بالمجتمع الى مستوى من التلاحم و التناغم  . أما الأخلاق فحسبنا أن لا شيء يصنعها إلا التربية، حتى و لو استغرقنا في التفكير في الأخلاق المجردة فإننا نغرق في المثالية، وكما تصنع التربية الأخلاق المثيرة للاستحسان تصنع أخلاقا جالبة للاستهجان، فبقدر ما تستطيع أن ترسخ الأخلاق الإنسانية تستطيع أن توسخها، و بقدر ما تستطيع أن ترصن العقل تستطيع أن تذلل عمله و تقوض رجاحته، و بقدر ما تستطيع أن تثري اللغة و تنمي من قدرات التواصل تستطيع أن تضعفها و تبددها، لذلك، لا يجب أن ننساق مع التصورات التي تلمع من صورة التربية و تعتبرها أساس إبداع الفرد و ازدهار المجتمعات، اللهم إذا ارتبطت بمنظور معين يحدد ما يجب أن تكون عليه، أي الغايات التي نسترعيها منها، و غايات التربية لا تخرج عن نطاق فلسفة التربية، صحيح أن هذه الأخيرة تنتهج نمطا من التفكير ينصب على ما ينبغي أن يكون، إلا أنها لا تكتفي بمهمة التعيير ( وضع معايير ) و إنما تفحص و تشخص ما هو كائن في حقل التربية إن قصد النقد و إن قصد التدخل، و قد يقول قائل أن البحث في التربية انطلاقا من الفحص و التشخيص اعتمادا على الاستقراء هو من اختصاص علوم التربية، و بالأخص السوسيولوجيا و السيكولوجيا و أن الفلسفة هي مجال التنظير فقط و لا يسعها أن تقوم بفعل التدخل لأن ذلك لا يتناسب مع طبيعتها، و الحق أن هذا القول لا يخلو من الصواب، لكن في جزء منه فقط، فعلوم التربية تقتصر على معاينة الفعل التربوي و ما يحيق به من ظواهر بغية حياكة شبكة من البيانات و المعطيات التي تكمم الواقع من أجل تفسير الظواهر التي تتشابك داخله، لكنها لا تتدخل في تغييره، أما الفلسفة فحسبها أن تحمل مشعل التغيير عملا بالأمر الماركسي الذي يقول أن الفلسفة قد اكتفت بتأويل العالم و التفكير فيه و آن أوان تغييره "، إذن، تضطلع فلسفة التربية بثلاثة وظائف : الأولى فحصية تسعى الى تفسير و فهم الفعل التربوي، الثانية تغييرية همها تغيير هذا الفعل مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، و الثالثة نقدية بمعنيين : المعنى الأول هو  نقد الفعل التربوي و فضح العيوب التي تتستر خلف الانطباع المسبق عن التربية، المعنى الثاني هو نقد جينالوجي يستهدف إذابة المحددات الأخلاقية و الضوابط الاجتماعية و السياسية التي تضفي على التربية طابعا ثقافيا، أي نزع ثوب الأخلاقية منها و العودة الى أصولها قبل أن تختلط بالثقافة و المجتمع و تتحول الى مجموعة من المعايير . و الأسئلة التي تخامرنا هنا هي: هل تحتاج التربية الى علومها أم الى فلسفتها ؟ و كيف يمكن للفلسفة أن تبلور تصورا عاما للتربية ينفذ من ضيق المحلية الثقافية الى أفق الكونية الإنسانية؟ و هل ما ينبغي أن يكون في التربية قد ينقلب الى ما هو كائن بفضل الفلسفة أم أن ما ستقدمه الفلسفة للتربية لن يكون إلا نماذج مثالية بعيدة المنال و مخيبة للآمال ؟ و ما الذي جعل التربية موضوعا للفلسفة ؟ و هل يمكن أن نربي بدون فلسفة ؟ هل من الضروري أن نفلسف التربية أي نخرجها من طابعها المألوف الى طابعها غير المألوف ؟

هذا كتاب قرأناه فشدّنا وأجاب عمّا انتظرناه منه (..) ولا نُغالي في شيء إن ذهبنا إلى أنّ كتابا في مثل قيمة «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» يصحّ فيه قولان للأديب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي: «وإنّ هذا الكتابَ كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خَلجة الحياة.» و «وإنّ كلّ كيان لَجَهدٌ وكسبٌ منحوت».  د. [1]خير الدين زرّوق .

مقدّمة:

إنّ مسؤوليّة المثقّف الّذي يدعوه موقعُه والتزامُه إلى أن يطرح القضايا ويوقظ وعي النّاس ويسائل معهم الواقع ويبحث عن الحلول هي مسؤوليّة كبيرة جسيمة، إذ ينبغي عليه أن يرصد تحوّلاتِ المجتمع ويتفطّن إلى ما ينشأ من صيرورات وأطوار وما يستجدّ من أوضاع تنطوي على إشكالات وتحدّيات. وهو في نشاطه المعرفيّ ذاك يستند إلى روافد فكريّة نظريّة وإلى دراية واسعة بالميدان. يستحضر باستمرار السّياقَ الحاضرَ، ولا يُغفل الالتفات إلى الماضي، وتكون له القدرة - والجرأة - ليتطلّع إلى المستقبل.

ليس لزومُ الأبراج العاجيّة للتّأمّل المجرّد والجلوسُ على الرّبوة للتّفرّج ولترقّب الانهيار القادم موقفين يناسبين المفكّر الحقّ، وليس التّسليمُ بهذه الحتميّة العدميّة وبانتفاء القدرة على منعها حلاّ يَركن إليه ويرضى به، فالمنتظرُ منه أن يشارك في الخوض في مسائل عصره وأزماته، بل أن يكون في الطّليعة والمقدّمة، فيمثّل للنّاس مرجعيّة وسلطة اعتباريّة مأتاهما حملُه لرسالة ومهمّة تاريخيّتين في التّوعية والتّحفيز والإصلاح.

ويثقُل العبء وتعظُم المسؤوليّة في العصور الّتي يَعصف بها الشّكّ وتكثر فيها الاهتزازات. فعالمنا المليء بوعود التّقدّم والازدهار والمزهوّ بما أنتجته الحداثة من وسائل مادّيّة سهّلت العيش هو كذلك محفوف بالمخاطر وتنتشر فيه الآفات. وقيمة الإنسان وإنسانيّته في تراجع وانحدار يبعثان فينا الحيرة والفزع ويدفعاننا إلى إعمال العقل والتّدبّر.

ويواجه المجتمع العربيّ، ككلّ المجتمعات السّائرة في طريق النّموّ، عولمة لا يجد فيها مكانه ولا دوره وتقضي عليه بأن يرتدّ إلى الهامش وأن يكون تابعا. إنّه يتخبّط في الأزمات وينشدّ إلى القيود والجمود، وتدلّ كلّ مؤشّرات التّنمية - في شتّى مناحي الحياة - على أنّه في أدنى التّرتيب وأنّ مساهمته في المعرفة ضئيلة لا تكاد تُذكر. وهو في الغالب محكوم عليه بمجاراة الآخرين الّذين سبَقوه إلى التّقدّم، يتلقّى بانبهار ما ينتجونه ويعجز عن التّطوير والإضافة.

وإنّ ما عليه العالم من سمات التّعقّد والتّحوّل والتّموّج والاضطراب، وما يغلب على المجتمع العربيّ من سمات الرّكود والتّخلّف والتّبعيّة، يؤكّدان مكانة التّربية ويُبرزان الحاجة إلى تعميق التّفكير وتجديد المقاربات لإدراك هويّتها الاجتماعيّة والإمكانات المتاحة لتكون دعامة أساسيّة وعاملا إيجابيّا في تحقيق التّنمية والعدالة. ويكون ذلك بتطوير الدّراسات والبحوث واتّخاذ وجهة عقلانيّة موضوعيّة في تناول المواضيع التّربويّة وشرحها للنّاس وتوعيتهم بها.