من المؤكد أن ظهور العولمة لا يعود بالضبط إلى سقوط جدار برلين، وبداية ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، بل إنها تعود إلى مرحلة أبعد، قد تصل إلى قرون خلت. غير أن الشكل الذي ظهرت به العولمة في العقد الأخير، وإيقاعها السريع في الانتشار وفي غزو كل الآفاق، بفضل اعتمادها على تقانة اتصالية جد متطورة، يعبر عن تحول نوعي في نظام العولمة وفي استراتيجيتها. ونظرا لأن العولمة كمشروع تاريخي هي عملية لم تنته بعد، فإنه يصعب الإلمام حاليا بكل خباياها، أو فهم القوانين المتحكمة فيها بدقة. لذلك فإنه من غير الممكن حاليا تقديم إطار مفهومي شامل للعولمة، بل يمكن فقط الاكتفاء برصد البعض من آثارها الدالة عليها ومنها:
ـ اقتصاد تتحكم فيه الشركات متعددة الجنسية، وتبادل تجاري غير متكافئ، في المجالين المادي والرمزي؛
ـ تقليص أدوار الدولة القومية، والسير في اتجاه إلغاء الحدود بين الدول؛
ـ ثورة عارمة في مجال الإعلام والتربية والاتصال، والتقانة المرتبطة بها؛
ـ شيوع ثقافة الاختراق التي تسعى لفرض قيم وفكر واتجاهات وأذواق استهلاكية منمطة؛
إن تشريح الظواهر السابقة ومساءلتها، سيؤدي بنا إلى تسجيل الملاحظات الأولية التالية:
1 ـ إن العولمة لا تعني بأي حال من الأحوال العالمية Universalité، وذلك رغم كل المظاهر الخادعة التي تحاول ارتداءها تمويها للحقائق. ففي الوقت الذي تطمح فيه العالمية للتفتح على ما هو عالمي وكوني، نجد أن العولمة تبقى سجينة نزوعها نحو إحتواء العالم. إن إرادة فرض نظام اقتصادي واجتماعي وثقافي وتربوي وحيد، لا يمكن أن يدخل إلا في باب إرادة الهيمنة واختراق الخصوصيات الوطنية. فما يميز العولمة عن الاستعمار هو اختلاف في أسلوب الهيمنة ووسائل فرضها. إن العولمة تلتجئ لخلق شروط تنطوي أحيانا على إغراءات لا تقاوم، تجعل الآخر يتقبل بسهولة ضغوط العولمة أو يطالب من تلقاء نفسه بإحدى منافعها الظاهرة.