anfasseلا تلبث حجج و دفوعات المناوئين للخطاب التربوي الاسلامي ان تتهاوى امام توافر شروط التناول الهادئ و المتجرد لاسهامات المفكرين المسلمين في الحقل التربوي و التعليمي ..وفي مقدمة هذه الشروط : التغلب على الحوائل النفسية المتولدة عن حالة التبعية و الانبهار بثقافة " الغالب" , وتجاوز القصور المنهجي لعدد من الدراسات و الابحاث ..و الذي جعل هذه الاسهامات لا تعدو كونها آراء و مواعظ و اجتهادات متفرقة , بدل ان يتم تقديمها كنظرية تربوية متكاملة تؤطرها رؤية فكرية او خلفية فلسفية !
لن ننكر غلبة الصيغ الوعظية –الأخلاقية على بواكير النتاج التربوي الاسلامي بالنظر الى نشأته في وسط فقهي " ابن سحنون , الغزالي , القابسي.." , وقصر المحتوى التعليمي على العلوم الشرعية , لكن من الاجحاف تعميم هذا الحكم خصوصا بعد انفتاح المسلمين على الثقافات المجاورة , واشتداد الحاجة للعلوم "الدنيوية" الخادمة لحركة النهضة الاسلامية .
و تأتي الاسهامات التربوية للمؤرخ و المفكر العربي عبد الرحمن بن خلدون لتشكل تحولا مهما في مسار الفكر التربوي الاسلامي , وتُثبت قدم الانشغال بقضايا تربوية يدعي "المتغربون" حداثتها و جدتها !
 
                                                          *       *        *
تبنى ابن خلدون نهجا مغايرا لمسلك الفقهاء في رصد الظاهرة التربوية , فاقراره بالعلاقة الجدلية بين "صناعة التعليم" و الناتج الحضاري لمجتمع ما دفعه الى الاعتناء الشديد بالبناء المتكامل لشخصية الفرد من خلال ارساء منهجية تربوية سليمة تضع الطفل في قلب العملية التعليمية , وتنسجم في الآن نفسه مع فلسفته العامة للعمران !
و نستعرض فيما يلي أهم مباديء هذه المنهجية :

ecolemar.jpgمقدمـة : عن الإصلاح
انطلق المغرب منذ فجر الإستقلال في مسلسل بناء نظام تعليمي يروم امتلاك المعارف الأساسية و دمقرطة التربية الوطنية. و قد كان هذا المسلسل مرآة التطور الاجتماعي و الثقافي و السياسي لبلادنا. و من شأن التحليل الموضوعي و الدقيق لذلك المسلسل أن يوضح المسار الطويل لإصلاحات تأرجحت بين الرغبة في بناء نظام تعليمي يستجيب للحاجة الوطنية للتنمية من جهة ، و الترددات المرتبطة بالرؤى السياسية المتضاربة لتلك الحقب من جهة أخرى . إن فكرة الإصلاح في المغرب تحتاج إلى بحوث خاصة ليس فقط من منظور الدولة ، و لكن أيضا من منظور التمثلات التي ولدتها لنا أفعال الإصلاح الطويلة من القرن 19 إلى الآن . والمتجلية في الخوف الذي أصبح يرتادنا قبل هذا الوقت من فكرة الإصلاح. والحقيقة أنه لم يترجم بالمغرب إصلاح إلى حدوده الكاملة. لذلك كانت صيرورات الإصلاح دائما تنتج مفعولا ضديا ، و هي أنها تهدم بنى دون أن تعوضها ببنى جديدة ، فالإصلاح يتخذ صبغة دائرية و كأن المجتمع لا يراكم. فلا إصلاح في المغرب له ذاكرة ولا إصلاح في المغرب يستمر ليبني زمنه المستقبلي.
اختلالات الميثاق الوطني للتربية والتكوين:
ورغم أن الميثاق الوطني للتربية و التكوين جاء لتجاوز خطاب الأزمة و الذي قيل عنه أنه نتاج توافق إرادي بين القوى الحية للأمة و يحتفظ براهنيته و نجاعته كإطار مرجعي لإصلاح المنظومة التربوية فإن تطبيقه في السنوات الماضية خلف اختلالات نجملها فيما يلي :
- فقدان المدرسة العمومية لجاذبيتها ، إذ ساهمت في تحطيم صورة المتعلم المثقف المناضل ، وتحطمت صورتنا عن المدرسة باعتبارها خلية ليست فقط لاكتساب الأبجدية و لكن خلية لبناء القيم فهي صانعة الإنسان المتحرر ليس بالضرورة المتحرر بالمعنى السياسي و لكن المتحرر من الجهل و المتحرر من الاندماج السهل . و تحولت المدرسة بالتالي إلى مجال لتحقيق السلم الاجتماعي . إن مدرسة اليوم لن توطن العقل حاليا ، لن تؤهل المتعلم ، لن تؤهل المدرس و لن تؤهل إداريين لإنجاز التغيير والذي من دونه لن يمكن للمجتمع المغربي المساهمة في بناء عالم أفضل ، وبالتالي تدهورت القيمة الاجتماعية والاقتصادية للمدرسة و يتجلى ذلك في تبخيس قيم العلم و المعرفة و حتى إذا افترضنا أن المدرسة العمومية لن تؤدي إلى الشغل ، فالفقر أن يقول الفقراء و المستضعفون و أشباههم " لا جدوى من المعرفة " فليس بسيطا أن يحرم الإنسان نفسه من متعة الفهم و الذكاء بحجة أولويات الحاجات البيولوجية ، و من مظاهر إفلاس المدرسة انتحار المنظومة القيمية المغربية بعد تعدد ضرائر المدرسة و انكسار المسار الحضاري للشعب المغربي .

education-maroc.jpgمعرفتنا بالواقع التعليمي المتخبط في التيه في المغرب نابع من مصادر شتى واضحة للعيان، أولها : استمرارية العقلية الإدارية البيروقراطية في مختلف الإدارات التربوية والتعليمية وممارساتها غير الشفافة تجاه قضايا هامة. وثانيا: يمكننا أن نوجز المشاكل التي يعانيها القطاع والفاعلين التربويين فيه على جميع الأصعدة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وماديا، وثالثا: التباطؤ الواضح في تفعيل مشاريع القوانين والمساطر المتخذة والمصادق عليها من الجميع، وتطبيق المذكرات الواردة والتي امتلأت بها الساحة دون تفعيل فملأت رفوف الأرشيفات داخل الإدارات، ووقفت سدا منيعا أمام اتخاذ قرارات مستجدة تهم الفئة التعليمية وتحرير المؤسسة المدرسية من التحرك نحو التغيير والانطلاق إلى الأمام.

استمرار البيروقراطية داخل الإدارة :

من الواضح، وانطلاقا من مشاكل يقع فيها رجال التعليم يوميا، ومن ظهور أشكال جديدة للتظاهر والاعتصام ضد الإدارة التعليمية والتربوية في الآونة الأخيرة، يظهر أن البيروقراطية مازالت متفشية في مجتمعنا، تتوغل بطريقة جديدة حداثية وديمقراطية. وهذا أمر قد أدى إلى بروز العديد من الاحتجاجات من طرف فئات مظلومة لم تستفد أبدا من أبسط حقوقها، ألا وهو الاستقرار وجمع الشمل الأسري. فالحركة الانتقالية التي تعلن عنها الإدارة التربوية والتعليمية بين سنة وأخرى، لا تذهب بعيدا إلى حل مشاكل فئات قد أجحف القانون بتعقيداته وتفرعاته في حقها، فجعلها في آخر الصف من حيث الاستفادة من حق الانتقال وتغيير الأمكنة ومقرات العمل، ولم تنظر بعين الرحمة تجاه أسر مازالت مشتتة، ونحو أطفال أبرياء بعيدين عن جو الأسرة. وهذا الإجحاف كان وبالا على العملية التعليمية التعلمية مما يجره عليها من ضعف في المردودية ووقوفا مانعا في طريق تقدم المسيرة التعليمية المنشودة، ومن هنا، ألا يمكن للإدارة التربوية وبشيء من المرونة أن تحل مثل هذه المشاكل حتى لا تزيد الطين بلة، وتقضي على البقية الباقية من الأمل في شق طريق الإصلاح من جديد؟ .

إن الحديث عن التعليمي بلادنا أصبح لا يعني فقط، كما يتبادر إلى أذهان البعض عملية بمثابة التقليل من شأنه أو التنقيص من ضرورته، أو حتى نفي إصلاحه وتغيير المسار الضائع الذي يمشي فيه باعتباره قاطرة التقدم والرقي إلى الأمام لمسايرة التغيرات العالمية والتحولات الاقتصادية والسياسية التي يعرفها العالم، والتي تؤثر تأثيرا واضحا على كل القطاعات بما فيها قطاع التعليم، ولو كان الحديث الذي اتخذناه منطلقا لإبداء آرائنا مقصورا على نفي "سلطة التعليم" ووجوده وضرورة الحفاظ على الحد الأدنى من تأثيره على المجتمع، لكان من البداية إيضاح البعد النقدي الذي نتخذه. وبدلا من الحديث عن إرجاع سلطة شايعة للقطاع التعليمي ببلادنا التي فقدت عبر الزمن، إن بصفة مباشرة أو غير مباشرة كما يفعل البعض من كتابنا والبيداغوجيين، كان يجب الدفاع عن توجهات أخرى يحاول البعض إلصاقها بالقطاع التعليمي، لكننا في حقيقة الأمر أردنا أن نستغل مساحة ولو ضئيلة تمتد على قدر أنفسنا للدفاع عن الرمق الأخير الذي لازال تعليمنا يحافظ فيه على صحته وعافيته .
"سلطة التعليم" التي نطالب بإرجاعها إليه إذن في حديثنا هذا ليس هو تجريد القطاع من قدرته على التأثير والتأثر وعلى تحقيق أهداف سامية، بل نفي كل سلوكات الترقيع والتشتيت في النظريات المعرفية والتربوية والأفكار الواردة جاهزة من الغرب بلباس التقديس سواء كان ذلك النفي بقبرها نهائيا أو بتنقيحها تنقيحا يلبس لباس القيم المغربية والوطنية كما فعلت العديد من البلدان التي خطت خطوات عظيمة نحو الرقي والازدهار وأصبح يضرب بها المثل في كل حين .

anfasseمنذ أن تحدث آبل جونز سنة 1926 عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا، وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارت(Roland Barthes) في مقالته المشهورة "بلاغة الصورة" في مجلة "تواصلات" عدد 4 سنة 1964 بأننا نعيش "حضارة الصورة"، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارت بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا(Système sémiotique) لا يمكن، كما يرى بارت، أن يدل أو يخلق  تدلالا(Sémiosis) تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني، فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في غياب العلامات(Signe linguistique) اللسانية، لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من السديم، ومن العماء.
تعد الصورة بذلك من المفاهيم التي لا يمكن أن نجد لها تعريفا جامعا مانعا، لأنها موضوعة مرتبطة بجميع مجالات الحياة، بدءا من نواة المجتمع(الأسرة) مرورا بالمدرسة، وكل ما يرتبط بالتنشئة الاجتماعية(Socialisation) عموما؛ ولعل هذا ما جعل منها لا تستقر على حال.
 ففي ثقافتنا العربية نجد الصورة يتجاذبها المقدس والمدنس، إلى حد أنها وصلت مستوى التحريم لارتباطها بإعادة الإنتاج استنادا إلى المخيلة والمصورة. وفي ذلك يرى ابن منظور أن الصورة ترتبط بالتخيل والتوهم، فتصورت الشيء توهمت صورته، والتصاوير التماثيل، ولعل هذا المعنى الأخير للصورة جعلها مزدراة لأنها متعلقة بالأوثان.
أما في الثقافة الغربية فتمتد كلمة صورة إلى الكلمة اليونانية (Icon)  التي تشير إلى التشابه والتماثل، والتي ترجمت إلى  (Imago) في اللغة اللاتينية و (Image) في اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية مع اختلاف في النطق. ويتفق معجما لاروس(Larousse) وروبير(Robert) في أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما، كما يشيرا إلى الصورة الذهنية(Image mentale) المرتبطة بالتمثل(Représentation).

anfasseيتساءل المربون المجددون عن مدى قدرة المؤسسة التعليمية على أداء رسالتها إذا ظلت معزولة عن المحيط الذي يكتنفها، كما يعبر علماء الاجتماع عن انشغالهم العميق بموضوع انفتاح هذه المؤسسة الاجتماعية الفرعية على المجتمع الذي خرجت من رحمه، وهذا الانشغال وجيه وقلق يستحق الوقوف المتأني والتأمل العميق في أسباب هذه الأزمة.
  ويستطيع أي واحد منا، وبسهولة، أن يرصد المخاوف التي تكتنف العاملين بقطاع التعليم، والمحافظين منهم على وجه الخصوص، من نتائج انفتاح المؤسسة التعليمية على المجتمع وإشراك المجتمع المحلي وهيئاته في تسيير المؤسسة التعليمية وتدبير الشأن التربوي، ومن نتائج وانعكاسات التدخل والإشراف على التعليم المدرسي، بدعوى عدم أهلية المجتمع للنظر في التعليم المدرسي، لذلك يزيدون في اقتراحهم على أن تظل وظيفة الفاعلين وأعضاء مجلس تدبير المؤسسة التعليمية استشارية، ويقتصر دورهم على تمويل أنشطة المؤسسة وتغطية النفقات المالية التي تتطلبها الحياة التعليمية المدرسية، كما تلقى فكرة تمثيلية التلاميذ في مجالس المؤسسة معارضة ورفضا بدعوى قصور التلاميذ وعدم أهليتهم.
  إن المضمون الواضح والبارز للخطاب الإصلاحي في وقتنا الراهن يولي أهمية كبرى لقضية انفتاح المؤسسة التعليمية على مجتمعها المحلي، وهذا ليس بدعة جديدة تدعو للتوجس والخوف، وإنما هي تصحيح لوضع خاطئ ساد نظامنا التربوي. فالتعليم كان يتم في الماضي عن طريق المشاركة الفعلية للمجتمع في شؤون الحياة المدرسية، إلا أنه مع تعقد الحياة والتطور واتساع المعارف الإنسانية وتدوينها وظهور الحاجة إلى التخصص والكفاءة، نشأ التعليم النظامي ونشأت المدرسة وقد أخذت على عاتقها وظائف عدة منها تجزئة المعارف وتبسيطها ووضعها بنظام متدرج بحسب سنين الدراسة ومراحلها المتعددة وملاءمتها للعمل العقلي والعمر الزمني، وكان المعلم الساهر على تعليم الأطفال يخضع في وظيفته لمراقبة الجماعة وإشرافها، فهي التي تتعاقد معه عن طريق الشرط، كما كان المنهاج المدرسي ترجمة عملية لأهداف التربية واتجاهاتها في المجتمع ومنبثقا عن حاجات البيئة التي يعيش فيها الأفراد ومن متطلبات تنميتهم، بل كان العرف جاريا على أن يضع الأب الخطوط العامة في طريق تعليم ولده وتهذيبه، بتحديد المواد التي ينبغي دراستها وتحديد طرق ووسائل تأديب الصبي. وقد ظل هذا الوضع قائما حتى نشأت المدارس النظامية، وعم انتشارها البلاد العربية، وأصبح المعلمون يعينون من قبل السلطة التي لها حق الإشراف على التعليم والتحكم في المناهج والعلوم الملقنة للناشئة، وتقلصت فرص إشراف المجتمع المحلي على التعليم المدرسي النظامي، ورغم ما قيل حول الموضوع، فإنه لا يمكن أن ننكر الدور الذي قامت به هذه المدارس في تشييد صرح المدنية العربية الإسلامية وفي النهضة العلمية والارتقاء بأحوال المجتمع المسلم، بنشر العلم والمعرفة وبث الثقافات البانية في النسيج الاجتماعي، إذ كانت هذه المؤسسات مفتوحة في وجه العموم، لا تضع قيودا ولا شروطا أما الراغبين في التعلم، كما كانت كثير من العلوم تدرس تلبية لطلب اجتماعي أو نزولا عند رغبة أبداها المتعلمون.

anfasse.org"إنه عصر الصورة ! "
هكذا أعلن آبل جانس عام1926 مبشرا بتحول كبير في أنماط التخاطب الاجتماعي ,وانتقال تاريخي من اللفظي إلى البصري . فمع ظهور السينما وتزايد الإقبال على المشاهدة الفيلمية ساد الاعتقاد بفعالية الصورة كأداة للمعرفة و الابداع و التواصل , بل انبرى المتحمسون الى الاعلان مبكرا عن تراجع سلطة القراءة والثقافة المكتوبة امام جاذبية الصورة المتحركة !
ومع انتشار التليفزيون منذ أربعينيات القرن الماضي تأكدت هذه الهيمنة الايقونية إذ تحول الفضاء السوسيوثقافي إلى فضاء بصري بامتياز , وأضحت الصورة فاعلا اساسيا في تشكيل وعي الانسان المعاصر .
إلا أن إدراك الاوساط الاقتصادية و السياسية  للدور الخطير الذي تلعبه الصورة في الهيمنةعلى النشاط العقلي , وتوجيه السلوك وإكساب عادات جديدة سيحول هذا الفضاء إلى ساحة معركة ومضمار للتسابق نحو استباحة العقول وتدجين الوعي , وحصر النشاط الانساني في الاستهلاك و التقليد وعبادة الصورة ! 
فتنامت المخاوف من مخاطر الادمان على مشاهدة الصور المتحركة وما يترتب على ذلك من هدر للوقت و الجهد و الطاقة الانسانية ,وبث عوالم خيالية تفصل المرء عن معيشه وواقعه ,وتمنحه إشباعا وهميا لرغباته وطموحاته , كما تسهم بشكل واضح في تسطيح الفكر وحصر الاهتمام بالمؤقت و الهامشي على حساب الثابت و الضروري ! , لذا ارتفعت الأصوات مطالبة  بتفعيل البعد التربوي و الانساني للصورة المتحركة .. وداعية إلى الحد من ثقافة الاستهلاك التي أضحت سمة لازمة للمنتوج البصري .

anfasse.orgيعرف المشهد التربوي بالمغرب حراكا ملفتا يروم تحديث المنظومة التعليمية ,وتغذية مكوناتها بصيغ ومشاريع جديدة لمسايرة التحولات الوطنية و الكونية ,وتمكين المدرسة من مواصلة دورها  " حراسة القيم , تحصين الهوية , التنشئة الاجتماعية..." في ظل قسوة المتغير السياسي و الثقافي و الاجتماعي .
ومن بين الأوراش المستعجلة التي حظيت باهتمام ملفت تلك المتعلقة بإرساء منظومة قيمية -أخلاقية تؤهل الطفل لتبني سلوكيات محددة سواء في علاقته مع الآخر أو مع مؤسسات الدولة و المجتمع ,كما تحصنه ضد نزوع العولمة نحو اقتلاع الخصوصيات بدعوى توحيد القيم ,وتكريس مفهوم المواطنة العالمية !
فعمدت وزارة التربية إلى إدراج مادة تعليمية جديدة تحمل اسم " التربية على حقوق الانسان" ,وتم الترويج لمصطلحات و مفاهيم جديدة في الوسط المدرسي كالكرامة , و الحرية , و التسامح , و الديموقراطية ,و تكافؤ الفرص .. إلا أن هذه المبادرة ظلت متعثرة بسبب غياب التكامل بين مكونات المقرر الدراسي , فتحولت إلى مادة  تلقينية تكتفي بتمرير المباديء و المفاهيم دون القدرة على بلورتها في السلوك اليومي للمتعلم . مما استدعى التفكير في مقاربة عملية تتخطى حاجز اللفظية والتلقين نحو بلورة قابلة للرصد فظهر في أدبيات وزارة التربية مفهوم "السلوك المدني ".
يحيل هذا المفهوم على مرجعيات متعددة ومتداخلة ( قانونية , سياسية , فلسفية ) تثير شيئا من اللبس حول دلالته التربوية , كما تحد من القدرة على تمثله ,وبالتالي أجرأته من لدن الفاعل التربوي .
فهل يتعلق الأمر بمعيار أخلاقي يتم من خلاله تعويد الطفل على التحلي بقيم و فضائل معينة تؤهله للاندماج الأمثل في مجتمعه ,وتبني سلوكات واعية و مثمرة في علاقته مع الآخر ؟ أم الغاية هي حمله على الانصياع لمجموعة من الضوابط القيمية و القانونية التي يتحكم في انتقائها الهاجس السياسي في المقام الأول ,وتعويده على الانقياد و الإذعان لسلطة الواجب والخيار الجماعي ؟
تحيل التعريفات اليسيرة لهذا المفهوم على طابعه التركيبي , فهو اولا سلوك : أي ممارسة فردية داخل إطار اجتماعي معين , وهو ثانيا مدني : أي مستوعب للواجبات التي يفرضها الانتماء لمجتمع إنساني تم تحديث بنياته وفق تصورات فلسفية وسياسية و اقتصادية محددة .

anfasse.orgأدى الانفجار المعرفي الذي صاحب الثورة التكنولوجية عقب الحرب العالمية الثانية الى انكماش السلطة المعرفية للمدرسة .بل ذهب بعض الباحثين ك "ايفان ايليتش" الى اعتبارها فائضا لا لزوم له أمام بدائل تعليمية أقل كلفة وأكثر جاذبية !
فتنامى الوعي بضرورة تنويع مصادر التعلم , وتحديث المناهج الدراسية بما يلائم حاجيات و اهتمامات الطفل , واحتواء الوسائط المعرفية الجديدة بشكل يمكن المدرسة من مواصلة دورها في تحقيق تنشئة اجتماعية سليمة . لذا توالت المبادرات الرامية الى احداث و تفعيل المرافق التربوية و الأوعية التعليمية الموازية للفصل الدراسي و مراعاة استجابتها لميول و اهتمامات المتعلمين !
وقد حظيت المكتبة المدرسية باهتمام لافت في جل مبادرات الاصلاح التربوي , غير أن غياب رؤية استراتيجيةمتكاملة لدور المكتبة في خدمة المسار التعلمي , وحصر الاهتمام في الشق المادي " تجهيز المرفق , وتوفير المطبوعات وحوامل المعلومات "  أفرز إكراهات ومعيقات جمة تحد من فعالية المكتبة في إحداث نقلة نوعية في المجال التعليمي , لعل أبرزها :
 - عدم تخصص المشرفين على المكتبات المدرسية , فجلهم معلمون متفرغون لم يحظوا بأية دورة  تكوينية في مجال الخدمة المكتبية .
 - ضعف الأساليب الفنية في عرض مواد التعلم بالمكتبة "كالفهرسة والتصنيف و الاعلان عن المحتويات" بل انعدامها في حالات كثيرة مما يحد من الإقبال على المكتبة.
 - غياب إدماج فعال للمكتبة المدرسية في المناهج الدراسية  وضعف الاهتمام بالمهارات ذات الصلة " كالمهارة البحثية مثلا" .
 - قصور الوعي بأهمية التعلم الذاتي في عصر تكاثرت فيه وسائط المعلومات بشكل غير مسبوق , ومواصلة تبني أساليب تعليمية تعتمد المقرر الدراسي كمصدر وحيد للمعرفة !  

حدث في العشرين سنة الأخيرة تحول في المشهد التربوي , تمثل أساسا في تغيير الباحثين لمجالات اهتمامهم و ابتعادهم عن الخوض في العديد من المواضيع من مثل  الأهداف التربوية , و النقاش الساخن حول موضوع السلطة و النظام داخل المؤسسات التعليمية... فاتجهت البحوث للانشغال ببعض القضايا الجديدة- القديمة, من مثل قضية التمركز حول المتعلم وموضوع  طبيعة التعلم و آلياته, والعودة للاهتمام مجددا بالمعرفة و  بمحتويات التدريس و بالتنظيمات المنهاجية لمضامينه  وغيرها. مما ساهم في ظهور نماذج لمناهج جديدة ، سنعمل على التعريف بها في هذه المداخلة .
كما أن  تطور التربية حاليا ، يتميز بعودة الاهتمام بالعنصر البشري وبروز دوره بشكل جديد . إن ما يميز المخطط و الإداري و المرشد  و الموجه و المعلم في وقتنا الحاضر ، هو المواجهة المستمرة للمستجدات و للمواقف غير المتوقعة و اتخاذ القرار . كما أصبح عملهم يتميز بالسعي الحثيث نحو تعديل السلوك  والتكيف مع تحولات الواقع وضغوطات العمل اليومي  ومسايرة في نفس الآن ، ما يصيب المناهج التعليمية من تجديد و تطوير .

 فإلى أي حد يتمكن هؤلاء المهنيون  ، من التفوق في  هذه المواجهة و ينجحون في استيعاب المستجدات و مسايرة مقتضيات تطوير المناهج و تحديث  أساليب التخطيط و العمل ؟ وما هي السبل الملائمة لجعلهم  يندمجون في العمل بفعالية و يؤدون دورهم التربوي داخل مؤسساتهم بنجاح ؟

كما ظهرت عناية كبيرة بالمدرسة كمؤسسة و نشطت البحوث التي تهتم بشروط تحويل المدارس إلى مؤسسات ، لها نوع من الاستقلال في اتخاذ القرار على مستوى التجديد التربوي و المساهمة الفعلية في إرساء دعائمه  و المبادرة في تنظيم مشروع المؤسسة و المنهاج المندمج للمؤسسة ، وعقد  اتفاقيات التعاون و الشراكة مع فعاليات المجتمع المحلي وإشراك أولياء التلاميذ و المهنيين من حرفيين وتجار وفلاحين و غيرهم ، في الرفع  من مستوى الأداء التربوي- التعليمي  والمساهمة في تنمية المحيط الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي .

و نشطت و بموازاة التقدم التكنولوجي ، دراسات تتناول مختلف أوجه الاستفادة من التكنولوجيا  في مجال التربية وتوظيفها لتحسين أداء المدرسة والمدرسين.فاكتسحت تكنولوجيا الاتصال و المعلوميات مجال التعليم ليس كوسائل فحسب بل كأسلوب في التفكير وتنظيم العمل ، فظهر المنهاج التكنولوجي .

anfasse.orgأضحى من نافلة القول الحديث عن ازمة بنيوية تنخر المنظومة التربوية لسائر البلدان العربية.فرغم السعي الحثيث لمراجعة المناهج و البرامج الدراسية , وملاءمتها للمستجدات و المتغيرات ,ورغم الاهتمام الواضح بإدماج الوسائط الحديثة في المسار التعليمي/التعلمي,وإرساء مقاربة تواصلية بين المؤسسة المدرسية ومحيطها بغية خلق مناخ تعلمي أفضل إلا أن الوضع لا زال يراوح مكانه !
إن مبادرات الإصلاح ومشاريع التحديث التي طالت السياسات التربوية حرصت على تطوير المناهج و المقررات الدراسية وتجريب الأساليب و الطرائق الحديثة بيد أنها أغفلت مطلبا جوهريا يتمثل في إعادة النظر في ادوار المدرس باعتباره حجر الزاوية في كل إصلاح !
وإذا كان الانفجار المعرفي الذي أحدثته الثورة التكنولوجية قد الغى السلطة المعرفية للمعلم,فإنه بالمقابل ألقى على عاتقه مسؤولية جسيمة تتمثل في " حراسة " منظومة القيم و السعي إلى ترسيخها بشكل يحفظ الهوية و الخصوصية و يحسن مؤشر الانتماء !
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو مدى أهلية المدرس للقيام بهذا الدور الحيوي و الخطير في ظل معيقات و إكراهات عدة نوردها كالآتي :
 * تسارع وتيرة التحولات الاجتماعية و الاقتصادية التي يشهدها العالم وما يصاحبها من تسليع       للقيم , واستهداف للخصوصيات المحلية وللهويات ونظم الأخلاق و المعتقدات.
 
 * خضوع السياسة التربوية في كل بلد عربي للإملاءات الخارجية " توصيات البنك الدولي نموذجا"
    و التي تستهدف بالأساس إعدام الهوية  وضرب مقومات الشخصية العربية و الاسلامية .
 
 * ضعف الإعداد التربوي للمدرس حيث يتم التركيز على البعدين القانوني والديداكتيكي في صياغة    برامج التكوين على حساب البعد الأخلاقي و الإنساني الذي يشكل ملمحا أساسيا من ملامح الفعل   التعليمي .