أنفاسيعيش المتعلمون ظروفا لا تربوية قاسية ، فور إحساسهم بانعدام العدل داخل الفصول الدراسية ، مما يسبب لهم الكآبة ، ويؤدي بهم إلى النفور والثورة ، وأحيانا إلى العنف كتعبير سلبي عن الرفض وعدم الرضا .
إن العدل داخل الفصل شكل من أشكال احترام حقوق المتعلم ، فمتى أحسن هذا الأخير بأن حقه في التعلم محفوظ ، ومساواته مع غيره مضمونة ، تقل أسباب الثورة لديه وتنتفي دوافع العنف المضاد .
والعدل التربوي –إن صح هذا التعبير – يتخذ أشكالا عدة ، فيمكن تلمسه مثلا في تبادل الأفكار والمعلومات بين المدرس والمتعلمين بشكل عادل ونزيه ، في نطاق من الاحترام المتبادل لحق الغير في التعبير والمساواة. كما يمكن أن يتمظهر في حالة العقاب أو الزجر ، والعدل يكمن هنا في تفادي التحيز والتمييز أثناء معاقبة المتعلمين، إما لدواع اجتماعية أو عنصرية. فالمتعلمون الصغار أكثر ملاحظة لنوعية ردود أفعال المدرسين عند  الزجر أو العقاب ، خاصة عند تشابه مخالفاتهم .
ما قلناه عن عدالة العقاب ، يمكن تعميمه على عدالة الجزاء والثواب ، فالمتعلم يحس بالحرمان والظلم عند انتفاء عدالة التوزيع لدى المدرسين ، توزيع التعزيزات والحوافز والعلامات وما يرتبط بها . فالمتعارف عليه  والعادي جدا ، أن تكون العلامة الكبرى للمتفوقين والدنيا للمتعثرين ، والمساواة بينهما ظلم سافر لكليهما لوجود فروقات واقعية بينهما ، في الذكاء، والقدرات العقلية، والسلوك، ودرجات التركيز والانتباه ، إضافة إلى اختلاف الميولات والدوافع والرغبات .
على أنه يجب على المدرس في هذه الحالة أن يراعي هذه الفروقات أثناء بناء تعلماته ، محاولا تقليص الهوة بينها باختيار التقنيات البيداغوجية المناسبة والبرامج الأنجع في التنفيذ ، مع فتح المجال أمام الجميع لإبراز المكنونات وتطوير القدرات ، بعيدا عن نظام الامتيازات ، الذي يرمي المحرومين داخل الفصول في دوامة من البؤس والشقاء ، ويكدسهم في فئات متمردة ترفع صوتها ، عندما يبلغ السيل الزبى ، مطالبة بحقها في المساواة ، ويكون رد فعلها في البداية بالنقد الصامت الخفي ،الذي يتحول إلى اعتراض علني ، ثم تظاهر عفوي ، فإضراب سلمي محدود،  يكون مثلا برفض المشاركة في الأنشطة والتفاعلات الصفية ، وقد ينتهي بالعنف حسب نوعية العلاج وكذا نوعية المتضررين، وبيئة تواجدهم، ودوافع ثورتهم .

أنفاسهناك ظواهر اجتماعية خفية ، في كثير من المؤسسات التعليمية ، لم تولها الدراسات التربوية والبيداغوجية، والسيكولوجية اهتماما بالغا ، حتى يتأتى لها أن  تبرز إلى سطح الوجود ، وتصبح بالتالي قابلة للرصد والدراسة ..  بل بقيت هذه الظواهر، حبيسة جدران المنظومة التربوية . يتحدث عنها المعنيون بها، والمكتوون بنارها في صمت ، أو من  وراء حجاب ... هدَه الظواهر في شموليتها لاتنتظمها  في الأغلب الأعم ، القوانين والتشريعات ، بل تخضع للأعراف المتعامل بها ، والتقاليد المتوارثة ،  والنظرة السائدة بين جميع الفاعلين التربويين ..والتي يطبعها أحيانا  المزاج الشخصي ، والانفعال ، والذاتية ..  دون تحكيم المنطق .. والاحتكام إلى القوانين والتشريعات المنصوص عليها..
ومن بين هدَه الظواهر : العلاقات السائدة داخل الحياة المدرسية ــ بين جميع الأطراف ــ و التي لاتتسم في غالب الأحيان  بالشفافية ،والديموقراطية ، ونكران الذات ..   وعدم تغليب الجانب الإنساني ... وبالتالي فقنوات التواصل ، والحوار، والتفاهم البناء ، ضيقة إلى أبعد الحدود....
 ونتحدث هنا عن العلاقات داخل الفصول الدراسية ــ أي بين المدرسين وتلامذتهم  ــ أوخارج الفصول الدراسية ــ أي بين الإدارة التربوية ، وبين الأعوان ، وبينها ، وبين التلاميذ ، والمدرسين ، وبين هؤلاء جميعا  وبين آباء وأمهات التلاميدَ  ــ أو خارج أسوارالمؤسسة ــ أي بين الإدارة التربوية، وبين مجموع أطراف المجتمع المدني ومكوناته . فهدَه العلاقات كلها تتسم بشيء من الحيطة والريبة والحذر . فهل هدَه الأشياء كلها لها علاقة بالمنظومة التربوية ..  هل تلعب دورا إيجابيا في تطويرها والسير بها إلى الأمام ؟؟ أم هي شي ء ثانوي لا يجب الالتفات إليه . ولايمس بنية التعليم في شيء ..
لعل الثقافة السائدة في مجتمعنا، والتي تتسم بتقليديتها، وتغليب الجانب التسلطي ، والباتريريكي / الأبوي .. هي التي تحدد السلوكات البشرية ،  وتنعكس على الممارسات الحياتية واليومية ،  في جميع القطاعات الخدماتية والوظيفية  بما فيها التعليم ..
 هذه التسلطية وأسلوب التحكم ، وإبراز النرجسية المفرطة ، أو ممارسة السادية أحيانا أمام الآخر، تجد لها صدى في أسلوب التعامل بين فئات متساكنة متجاورة ، أو تعيش بين جدران واحدة ، كما هو الشأن في المؤسسات التعليمية .

أنفاس ما أحوج منظومتنا التربوية إلى الفعل المقاوم ، إذ تكالبت عليها معاول الهدم من كل جانب ، ونخرتها العديد من الأمراض ، وعلى رأسها الاستخفاف وانعدام الرغبة الحقيقية في الإصلاح . وما عاد بالإمكان أن يدعي أحد الجهل بحقيقة تردي أوضاعنا التعليمية .
 إننا نعيش فترة تربوية حالكة تستدعي وقفة شجاعة للمحاسبة ، ووضع القاطرة على السكة الصحيحة . فتعليمنا يواجه إقصاء فعليا من المجتمع والحكومات المتعاقبة ،باسم انعدام المردودية واللا جدوى .
لقد أصبحت الأمور واضحة لدى المواطن العادي ، فمنذ أن غدت سياساتنا التعليمية أسيرة املاءات غربية يتحكم خلالها صندوق النقد الدولي في نسب النجاح والاكتظاظ ، ونوعية البرامج وطرق التدريس ، وعدد المدرسين ونمط تكوينهم ،تراجع التعليم العمومي خطوات كثيرة إلى الوراء ، ليفسح المجال للوبيات التعليم الخصوصي ،التي غزت سوق التربية كالفطر، ليعمل الجميع من أجل الإجهاز على آخر معقل للمجانية ، باعتبارها أكبر معرقل للتقدم وأوضح مسبب للتخلف .
لقد سنت البرامج الوافدة أسلوبا ماكرا هدفه الظاهر تحديث منظومتنا التعليمية لتواكب تحديات العولمة التي لا ترحم ، أما الهدف الباطن فلا يكاد يخفى عن المتبصر الغيور ، فهذه البرامج تسعى إلى إفراغ تعليمنا من مضمونه، وإفقاده لهويته ودوره الحضاري ، فهي تكرس نوعا من التبعية في شتى المجالات ، مما يخنق الإبداع وروح الابتكار الضروريين لكل تقدم ونماء .
لقد عمل أعداء التعليم في الداخل والخارج على جعل المجال التربوي حقل تجارب دائم ، بطريقة منسقة محبوكة ، فما إن نضع الأصبع على مكمن الخلل ، ونشمر جادين عن سواعدنا لمعالجته ، حتى تتغير الأمور ، فنعود إلى نقطة الصفر ، ليصيبنا الإحباط من جديد فتركزت في ذواتنا عقدة النقص وآمنا بالعجز يغزو الهمم والقلوب .
وكيف لا يتسرب الريب إلى  قدرتنا على الخروج من هذا النفق المسدود ، حين نرى اليوم ما أصاب مستوى متعلمينا من ضعف بين، غدا موضوعا للتندر والتفكه في المجالس ، ناهيك عن التشويه الممنهج الذي يطال صورة الفاعلين التربويين عبر منابر إعلامية يفترض فيها الحياد والعقلانية .

أنفاسمن الظواهر السلبية التي لازمت مجتمعنا ولا زالت ، غياب ثقافة الحوار ، وهكذا نجد سطوة الكبير هي العليا داخل أغلب أسرنا ، وان كان على ضلال ، فالأب يسكت الأم ، والأخ الكبير يسكت الصبيان والبنات ، فيسود الصمت ويعلو صوت الإكراه ويعم الهدوء ، ولعمري هو ذاك الذي يسبق العاصفة .
ولتفادي الإرهاصات الكارثية الناجمة عن إسكات الغير وهضم حقه في التعبير ، من تعانف بين وخفي ، وانتشار للحقد والكراهية والبغضاء ، أضحى الحوار مطلبا أساسيا يجب استخدامه من قبل الأسر والمدارس في تربية النشء ، بل يفترض فيه أن يكون منهج حياتنا الحالية وأسلوبها القويم ، ما دامت العولمة توسع شيئا فشيئا من مدى الحريات الشخصية للأفراد .
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه : أي حوار نريد ..؟
لا شك أن الحوار يتم بشكل من الأشكال في معظم بيوتنا ومدارسنا ، لكن الإشكال يكمن في نوعيته وجدواه . وعليه ، فلكي يكون حوارنا بناء وجديا ، يجب أن يسبقه اتفاق بين المتحاورين على مبادئ كبرى يخضع لها الحوار ، وحبذا لو كانت ذات طابع أخلاقي . وفي إطارها يتم السماح لكل طرف ، بالتعبير عن أفكاره وقناعاته بكل حرية دون قمع أو تحقير .
ومتى اقتنع طرفا الحوار بان الحقيقة نسبية لا يمكن لأي واحد أن يدعي امتلاكها ، مهما بلغت درجة ذكائه أو منزلته العلمية ، نكون قد أسسنا لحوار هادف يمكن أن يصير مع الزمن أسلوب حياة .
إن الحوار لا يساهم فقط في تحقيق النجاحات التربوية لدى الأطفال والمتعلمين ، بل ينمي لديهم الحس النقدي ،وهذا ما فتئت تتغنى به المقاربات الحديثة في علوم التربية هذه الأيام . فالطفل عندما يتحاور ، يتمكن من الوقوف عند مجموعة من الآراء المتباينة ، منها ما يوافق تفكيره ، ومنها ما يتناقض معه ، وهنا يستفيد شيئا جديدا ، ونعني به المقارنة ، .هذه الأخيرة تجعله يوسع أفق تفكيره فيصبح أرحب وأكثر قبولا للجدل والحجاج.
إن اقتناع الطفل بأن أفضل وسيلة للاتصال والتعلم ،والنمو العقلي والوجداني ، مرتبطة بشكل وثيق بالحوار ، تمكنه من قبول الآخرين الذين لا يشكلون عرقلة أمام الوصول إلى أهدافه ، وهذا ما يجعل منه كائنا اجتماعيا ، يؤمن بأن هناك رأيا ثانيا وثالثا ، وربما أكثر من ذلك ، ويقينه أن أحد هذه الآراء هو الأقرب إلى الصواب .

أنفاسثمة من يتساءل : هل لدينا أزمة تعليمية ؟هل من مشكلة نعانيها في تعليمنا ، أطرافها المدعى عليهم على الدوام رجال ونساء التربية ؟
من البديهي أن قضية التربية والتعليم هي الشغل الشاغل للجميع في شتى البقاع ،وسائر الأزمان . شغل الحاكم والفيلسوف، والعالم والشاعر، والمصلح والثائر، وصاحب الرأي ورجل الشارع .وسبب ذلك طبعا موقع التعليم البارز في المجتمع ومخططات التنمية ، ونصيب الأسد الذي يستنزفه من حصص الإنفاق العام .
ولعل جزءا كبيرا من تردي أمور التعليم ببلادنا ، وسائر بلدان العالم العربي ، يعود إلى الاختلاف الواضح والاضطراب السافر في طريقة تدبير الأزمة بين صناع القرار وأهل الدار .
والجلي أن معظم محاولات الإصلاح التربوي تأتي من القمة أو من خارجها ( املاءات البنك الدولي )، ولا تمثل في الغالب الأعم برامج قابلة للتنفيذ ، فكيف لا تتناثر في السماء وهي أشبه بالهباء ، تذروه الرياح ما إن يلامس تضاريس الواقع التربوي الصلبة المستعصية .
إن مشكلتنا الأساس مع أزماتنا ، تكمن في عدم تحلينا بالصراحة والوضوح ، فمتى أقنعنا نفوسنا بنقاء القصد وصفاء السريرة ، سهل علينا تدبير مشاكلنا .
ولعل أنانية بعض مسؤولينا ، وسلبية مفكرينا وأكادميينا المتخصصين ، من أهم العوامل التي جعلت كل من هب ودب  يكيل الاتهامات لرجال التعليم دون تبصر. فتفشت بذلك ظاهرة نقد التعليم ، وأصبح أكثر المتفائلين يقر،  بل ويعلن جهارا فشل المدرسة ، ويحملها وحدها مسؤولية الخراب التام للمجتمع والبيئة وأشياء أخرى ....
ولم يقف أي واحد ليتساءل :
كيف يمكن الخروج من الأزمة في ظل الظروف القائمة والإمكانيات الكائنة ؟
كيف يمكن استغلال مواردنا البشرية للتكيف مع مشاكل التعليم ،التي لا تحتاج إلى سرد أو توضيح ؟
من يا ترى يتفاءل بتجاوز أزمة التعليم ، ونحن شعب لا يرضى أن يقف على مكمن الداء بل ولا يستطيع الإشارة إليه؟
إن  ربط  أزمة التعليم بالتحولات المجتمعية ، والكف عن إلباسه لبوسا اقتصاديا دون توفير شروط ذلك ، واحترام خصوصياتنا الفكرية ، بعيدا عن الاستعارة العمياء من الغرب ، والاهتمام بالتنظير التربوي المهتم بالمحتويات وإيجاد الحلول لا عرض الإحصاءات والجداول ، من أبرز السبل الكفيلة بحل لغزنا المحير .

أنفاسمن الأمور التي يكاد يجمع عليها الكل ، كون القراءة من الأنشطة المحورية والمهارات اللغوية ،التي تمكن المتعلم من التزود من حياض المعرفة، ناهيك عن تطوير قدراته العقلية والوجدانية مما يمكنه من استيعاب محيطه وفهم بيئته بشكل يسمح له بالتكيف السريع والاندماج السليم.
وكثيرة هي الدراسات التي تناولت مفهوم القراءة ، وعديدة هي المناهج التي قاربتها ، ولكن الأمر المتفق عليه ، أن القراءة ما عادت ذلك الإدراك البصري للرموز المكتوبة ،  وتحويل شفرة المكتوب إلى شفرة المقول ، بل هي عملية مركبة ، تستدعي جميع العمليات العقلية الإنسانية ، وينسجم فيها ما هو فكري ونفسي وبيولوجي ، من أجل فهم المقروء وتبين محتواه وترجمة دلالته .
ولعل الأمر الجوهري الذي يطمح إليه كل مدرس للمهارات القرائية ، تمكن المتعلم القارئ من التفاعل مع المقروء، وبالتالي انتقاله إلى مرحلة الوظيفية، حيث يستطيع توظيف ما تلقاه من خلال القراءة في مواجهة المشكلات التي يمكن أن تعترضه في حياته العملية . لكن  العائق الأكبر أمام هذا الطموح المشروع ،غياب الاهتمام بالقراءة لدى المتعلمين ، في ظل الغزو الفاحش لتكنولوجيا الإعلام  والاتصال ، حيث أصبح المجتمع برمته مجتمع صورة بامتياز ، وأضحى مدرس اليوم – دون كيشوت - زمانه  ، حيث النية صادقة ، لكن الزمن يأبى إلا أن يقف أمام مقاصده النبيلة ، وبات داخل فصله كمن يرقص للعمياء .
ومن أجل العودة إلى زمن القراءة الجميل ، أصبح من اللازم اللازب تنشيط رغبات المتعلمين واستثارة ميولا تهم القرائية ،وتحويل القراءة لديهم من مجرد مهارة آلية إلى وسيلة للمتعة ،يحقق فيها الفرد حاجاته النفسية .
إن إيمان المتعلم بجدوى القراءة ومساهمتها في تنمية الذات ، وتحقيق الإشباع النفسي ، ودورها في تشكيل الفكر ،وتربية الخيال والوجدان ، كفيل بتذليل المعوقات الكثيرة التي تقف حائلا أمام تعلمه المهارات القرائية . وكم سيكون الأمر أروع  لو تحملت الأسرة مسؤوليتها التربوية الحقيقية بغرس حب القراءة في نفوس الناشئة ،فرغم كوننا أمة  عادة ما تفخر بأن أول كلمة في دستورها المقدس هي ( اقرأ ) إلا أن التقارير المخجلة التي تأتينا من هنا وهناك ، تثبت بالإحصائيات والأرقام أننا أمة لا تقرأ ، وأصبحنا- ويا للأسف - أمة ضحكت من جهلها الأمم.
وحتى لا نبقى كذلك ، علينا البحث بجدية عن مسببات تدني المستوى المعرفي والقرائي للمتعلمين ، بالاستماع إليهم من أجل التعرف على ميولاتهم القرائية واستنباط العراقيل التي تحول دون استمتاعهم بما يودون قراءته .

أنفاسمرت اللقاءات التفسيرية المحلية الخاصة بتقرير المجلس الأعلى للتعليم كسابقاتها (منتديات الإصلاح) بسرعة ماراطونية وبطريقة استعجالية وفي مدة قياسية، لم تسمح لكثير من نساء ورجال التعليم من الإطلاع على تفاصيل ما جاء في التقرير، وتعرف أهم محاوره، حتى يتأتى لهم تقييم اقتراحاتهم العملية الملموسة (أما ملاحظاتهم حول التقرير فقد حسم فيها بالدعوة إلى تجنب إثارتها)، فترتب عن ذلك عزوف جل المشاركين في هذه اللقاءات عن المساهمة في نقاش أمور يجهلون أهم محاورها وخطوطها العريضة وبالأحرى تفاصيلها.
إن الكثير من أسرة التعليم ترى أن استشارتهم بهذا الشكل وبهذه الطريقة ما هي إلا عملية تزكية للتقرير وليس لمناقشته وإبداء الملاحظات والاقتراحات هذا من جهة، ولتناقص الثقة لدى أغلبيتهم من كثرة ما جمعوا وسئلوا ومن قلة ما أخذ برأيهم واقتراحاتهم من جهة أخرى، بل ذهب البعض إلى اعتبار هذه اللقاءات مجرد ديكور يتفنن المسؤولون في إخراجه مفاده أن الجميع يساهم في مسلسل إصلاح الإصلاح الذي لم ينته بعد، سيما وقد ظهر جليا نية الوزارة الوصية على القطاع تطبيق ما جاء في (مشروع البرنامج الاستعجالي دجنبر 2007) والذي هو سابق لتقرير المجلس الأعلى للتعليم، وهو ما تضمنته المذكرة 60 ودليل تحضير الدخول المدرسي 2008/2009 من إجراءات لتفعيل هذا البرنامج (قبل عقد هذه اللقاءات) مما يعطى انطباعا على أن هذه اللقاءات مجرد مسكنات وحبوب مطمئنة ولكن بجرعات وتواقيت غير مدروسة.
ومما آثار حفيظة واستغراب كل الحاضرين لهذه اللقاءات غياب كل الفاعلين التربويين بدون استثناء مرورا بهيئة التأطير والمراقبة التربوية إلى النقابات التعليمية إلى جمعيات المجتمع المدني إلى الجماعات المحلية، وكأن موضوع الإصلاح لا يهم إلا هيئة التدريس.
وهنا لابد من إبداء مجموعة من الملاحظات التالية:
-  إقرار التقرير في الإختلالات المسجلة دور البنيات التحتية المتدهورة للمؤسسات التعليمية، وعدم توفر التجهيزات والوسائل التعليمية والمعدات الديداكتيكية، وهذا الأمر لا يهم مؤسسات العالم القروي وحدها بل حتى الكثير من المؤسسات بالوسط الحضري، وهي ملاحظات ما فتئت هيئة التدريس تنبه لخطورتها على السير العادي للعملية التعليمية التعلمية في كل المنتديات السابقة.
-  فصل التقرير إختلالات المنظومة التربوية عن باقي الإختلالات في مختلف القطاعات الحكومية وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكأن قطاع التربية والتعليم يعيش وسط جزيرة معزولة عن محيطها.

أنفاسمقدمة:‏
إذ كانت التربية كما يعرفها جان بياجيه" (j.Piage) بأنها مجموعة عمليات النمو والتكيف مع البيئة لحل المشكلات القائمة "فإن التربية المدنية بمفهومها الشامل لا تخرج عن إطار هذا التعريف. فقد كان علم التربية المدنية معنياً في الماضي بعلم الأخلاق وسياسة المدن ولكنه امتد في عصرنا الحالي إلى تناول موضوعات مستحدثة أوجدها التطور التقني والصناعي بما أحدثه من تغيرات في نسق الحياة بكل جوانبه، وما أدخله من عادات وأساليب تعامل لم تكن معروفة من قبل.‏
إن زيادة العبء التقني والفني في مواد الدراسة ومناهجها لم يغير الهدف الأسمى للتربية وهو إعداد المواطن الصالح. فالطبيب والمهندس والاختصاصي بأي مجال من المجالات قد يكون خطراً ووبالاً على المجتمع والدولة إذا لم يكن مواطناً صالحاً بالدرجة الأولى قبل أن يكون مهنياً، وهذا ما يجعل إعداد المواطن من أولى الأولويات في عملية التربية.‏
ولا شك في أن وسائل التربية والتعليم والتعامل مع المعطيات الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية المعاصرة تتطلب تطويراً في الأساليب والوسائل حتى يتمكن الإنسان في مواجهة كل هذه التغيرات بأن يفرض تعاملاً متوازناً معها، فلا يشعر بالعجز عن التكيف مع متطلبات الحياة الجديدة، وعدم القدرة على تحقيق أهدافه.‏
لذلك لا يمكن معالجة مسألة التربية المدنية إلا في الإطار الزمني والحضاري اللذين يتحكمان بالإنسان فيمليان عليه ما يجب تعلّمه وممارسته حتى يعيش بتوازن عاطفي وعقلي مع محيطه. هذا ما يدعونا إلى تسليط الضوء على موقع التربية المدنية في تاريخ الحضارة الإنسانية حتى نتمكن من تحديد مضمونها في عصرنا الحالي في ضوء متطلبات الإنسان المعاصر. فالتربية المدنية ترمي إلى تكيف الإنسان مع متطلبات عصره، ومحيطه الاجتماعي. هذه المتطلبات لا يحددها الفرد من منطلق نظري بل يجد نفسه بمواجهتها، فهي متطلبات الواقع التي أفرزتها عوامل مختلفة ومتداخلة تفاعلت فيما بينها، فأوجدت الوضع الاجتماعي الذي يتهيأ الإنسان لدخولـه والتعامل معه، وعلى الفرد التكيف معه هذا الوضع حتى يدخل محيطه الاجتماعي ويمارس دوره فيه(1).‏
ويمكن للإنسان أن يمارس تأثيره في مجتمعه بوساطة الدور الذي يؤديه، فيحدث التغيرات الإيجابية أو السلبية وفقاً لطبيعة هذا الدور. فكما أن الإنسان يتأثر بمحيطه فإنه يؤثر فيه أيضاً لذا فإن بناء حضارة عالمية إنسانية، يستلزم إعادة بناء الإنسان بناءً تمثل القيم الخلقية صلبه وجوهره. وإعادة بناء الإنسان هذه هي في صلب مهمة التربية بل هي أصلها وجوهرها"(2). حيث تقع على التربية مسؤولية إعداد الإنسان للحياة الاجتماعية الناجحة كعضو في مجتمع معين، ثم كعضو في المجتمع الإنساني، فالتربية تشكل عقول الأجيال وتنمي لديهم قيم العمل والخير والسلوك الاجتماعي والعدل والديمقراطية والحرية وجميع القيم الفاضلة التي تحول الكائن البشري إلى كائن اجتماعي ومواطن صالح.‏

أنفاسيرى جورج جورفيتش G.Gurvitch سوسيولوجيا القرن التاسع عشر، إذا كانت، ربما تتميز بأحادية البعد فإن سوسيولوجيا القرن العشرين وقبل كل شيء متعددة الأبعاد، إنها سوسيولوجيا، العمق(1). وليس مصادفةً أن تتعدد ميادين السوسيولوجيا، لتعدد الظواهر الاجتماعية وتعقد المشاكل المعاصرة، التي صاحبت التطور الحضاري والصناعي للمجتمع البشري، وأضحت السوسيولوجيا علماً متعدد الاختصاصات ومن بين هذه الاختصاصات تحتل سوسيولوجيا التربية مكاناً مهماً لدورها الكبير في إعداد مستقبل المجتمعات الإنسانية. قال البروفيسو Jean Fourastié سنة: 1958 «Un pays sous développé est un pays sous-enseigné» معلناً بذلك الرباط القوي بين التربية والتقدم الحضاري، ويضيف أن البحث في التربية هو رأس مال مصير الإنسانية، والأطفال الذين يعتبرون حالياً الساكنة التعليمية يتم تحضيرهم لأعمال المستقبل من خلال التربية إلا أن أهميتها الاقتصادية تظهر للبعض الآن كميدان غير مربح، وتقدم التعليم لا يتوقف فقط على العوامل الديمغرافية، بل أيضاً على الظروف الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية والتي تعتبر فعلاً موضوع تحليل سوسيولوجيا التربية.‏
من هذا المنطلق أصبح ضرورياً الاحتفاظ لسوسيولوجيا التربية بدراسة مختصة ومحددة كسوسيولوجيا الاقتصاد، السياسية والدين وغيرها... وقد عرف بعض المتخصصين الأمريكيين هذا الميدان بكونه يبحث في تحديد طبيعة المجال الاجتماعي والسيكولوجي المكون من طرف المدرسة وقياس مدى تأثير هذا المجال على التلاميذ في كل مراحل تكوينهم: التحصيل المعرفي، تحسين السلوك أو تحضيرهم قيميا، وتقوم أيضاً بدراسة منظمة للعوامل المؤثرة خارجياً على المدرسة نفسها، آخذة منابعها سواء من خلال متطلبات مختلف المهن أو المتطلبات الحالية للمجتمع(2). كما أن هذه التربية المأمولة والتي تهدف إلى تعليم الطفل كيفية العيش والحياة والاندماج في المجتمع أكثر من تعليمه كيفية العمل الملقن داخل المدرسة، تظهر الآن، غير قادرة على أداء هذا الدور المنوط بها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المضمون الثقافي والاجتماعي الذي من خلاله يمكن أن يكون البناء فعالاً، وكل بحث علمي يجب أن يحدد موضوعه بدقة، رغم أن الخطاب العلمي المعاصر لم يعد أكثر صرامة حين يتعلق الأمر بالقطيعة الإبستمولوجية بين الفعل والمعرفة، وسوسيولوجيا التربية هي الميدان الأكثر ملائمة لدراسة ما نحن بصدده، وتتضمن مستويين: الأول: يحلل وظيفة المدرسة في إطار المجتمع والعلاقات التي توجد بين المدرسة والمجتمع، والثاني: يحلل المؤسسة التعليمية بصفتها مجتمعاً مصغراً، ويحاول إيجاد روابط العلاقات بين هذا المجتمع المصغر والمجتمع الكلي انطلاقاً من مشاكل مجسدة في المؤسسة المدرسية.‏

أنفاستعد النزعة الإنسانية من أهم الحركات الفكرية التي توّجت عصر النهضة وفجرت ينابيعه الفكرية والأدبية، وقد قدّر لها أن تجسد بأنساقها الفكرية رؤية ثورية في طبيعة الإنسان قوامها التأكيد على الجوهر الإنساني بما ينطوي عليه من معاني الحرية والإرادة والعقلنة والقدرة على تحديد المصير، واستطاعت أن تعبّر عن رؤية فلسفية جديدة تنطلق من الإنسان تستلهمه وتسعى إليه، فكان لها أن تشكل في عصرها ثورة فكرية شاملة أدت إلى تصدع كبير في بنية المنظومات الفكرية التقليدية وتكويناتها السائدة في العصر الوسيط.‏
بدأت النزعة الإنسانية بداية أدبية تجلت في إبداعات فكرية وفنية وأدبية غايتها النهوض بالروح الجمالية والفنية عند الإنسان، فأطلق المؤرخون على هذه الحركة تسمية "الهيومانيزم Humanisme" أي النزعة الإنسانية، ثم أطلقوا على روادها تسمية "الهيومانيست Les Humanistes" أي رواد النزعة الإنسانية. وقد أطلقت هذه التسمية لأن أصحاب هذه النزعة، وقد وجدوا في الآداب والفنون المثال الأعلى للإنسانية، فآمنوا بأهمية إعادة بناء الإنسان في عصرهم وفقاً لهذه الروح الأدبية الإنسانية الجديدة.‏
فالأدب القديم يبحث في ماهية الإنسان، ويحاول أن يرسم قضاياه واهتماماته ويبلوهما، وأن يرتفع به ويسمو روحياً ونفسياً وأخلاقياً. وكان ذلك حال الآداب القديمة التي كانت تبعث في النفس هذه الطاقة الإنسانية الملهمة فتحركها في اتجاه تجسيد قيم الحق والخير والجمال والفضيلة. فالفن والأدب كما يذهب أنصار هذا الاتجاه يسموان بالإنسان، وبالتالي فإن النزعة الإنسانية تسعى إلى تحقيق هذا السمو الجمالي والروحي بحثاً في ماهية الإنسان واستجواباً لمعانيه الإنسانية، وسعياً إلى تحريره، وإعادة الاعتبار لإنسانيته المقهورة آخذة به إلى مراتب الكمال.‏
وكانت إيطاليا في بداية النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مهد النهضة الفنية والأدبية لأصحاب النزعة الإنسانية في أوربا. ومن أبرز رواد هذا الإبداع الإنساني يشار إلى ليناردو دافنتشي ومايكل أنجلو ورافاييل وهم من أبرز رواد النهضة الفنية في إيطاليا.‏
ويعد الأديب المشهور دانتي آليغايري (1265-1321م) رائد حركة النهضة الإنسانية الأصيلة في إيطاليا. وهو مبدع الكوميديا التي أطلق عليها المعجبون بها "الكوميديا الإلهية". وتتضمن هذه الكوميديا وصفاً أدبياً رائعاً لأحوال العصر الذي عاش فيه. كان دانتي هذا شغوفاً بآداب الأقدمين وكان تقديره وحبه للثقافة اليونانية يفوق الحدود والوصف. وكانت أعمال دانتي تقع في دائرة ما يسمى بالنزعة الإنسانية الحقّة المبكرة التي كانت منطلقاً جديداً للعناية بالإنسان كجوهر إنساني وإعادة النظر نقدياً في التصورات السيكولائية الصرف التي حرمت الإنسان من معانيه الخلاقة وجوانبه الإنسانية المشرقة.‏

أنفاسإزاء مظاهر العنف المرعب، والكوارث الدموية، التي تشهدها المدرسة في مختلف أنحاء العالم المعاصر تطرح المسألة التربوية نفسها موضوعاً للبحث والمناقشة في خضم التحديات الكبرى التي يواجهها العصر الذي نعيش فيه. فمما لاشك فيه أن ظاهرة العنف التربوي تستحق مزيداً من المحاولات العلمية والبحثية التي يمكنها أن تحدد لنا طبيعة هذه الظاهرة وخلفياتها الفكرية والمجتمعية. وفي إطار البحث عن خلفيات هذه الظاهرة يجري التركيز اليوم على مسألة اللا مساواة الاجتماعية دورها الكبير في إحداث الخلل وتغييب الأمن المدرسي بصورته المعنية.‏
ومن أجل أن نضع إشكالية العنف التربوي في سياقها المجتمعي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الخيارات التربوية لا تأخذ طابعاً حيادياً، لأن الخيارات القائمة في التربية هي خيارات سياسية في أغلبها. وبالتالي فإن هذه الخيارات تتحدد وترتسم هويتها في طبيعة التجاوب التربوي مع الغاية الإنسانية للتعليم والتربية. فالسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة عبر تاريخ التربية هو: ماذا ننتظر من التعليم وما غايته؟ وبالطبع فإن الإجابة عن هذا السؤال الوجودي للتربية تتحدد بمتغيرات عديدة، وتتنوع بتنوع الوضعيات الاجتماعية والفكرية. فالإجابة التي تُعطى لهذا السؤال ترتسم بمنظومة من العوامل الذاتية التي تتعلق بالدور والموقع الذي يشغله الفرد في دائرة الحياة الاجتماعية، وتتحدد في ضوء التجارب التي يعايشها وتتأثر بالانطباعات الشخصية التي ترتسم في وجدانه، وبالحاجات الأساسية التي يمكن للتعليم أن يفي بها عبر دورته التربوية. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً العوامل المجتمعية التي تتعلق بالانتماء الاجتماعي والجنس والعرق والقومية والطبقة الاجتماعية واللغة ومكان الإقامة والسكن. وغالباً ما يركز الباحثون، في مجال العلوم الإنسانية، على أهمية العامل الطبقي بين مختلف العوامل المجتمعية الأخرى، وذلك لأن الطبقة الاجتماعية، كما يجري الاعتقاد، تلعب دوراً محورياً في عملية الخيار التربوي، وفي ترسيم الإجابة عن السؤال المركزي الذي يُطرح حول وظيفة التربية وغاياتها الكبرى.‏
فالطبقات التي تهيمن وتسود في الساحة الاجتماعية تنظر إلى الغايات التربوية من منظورها الطبقي وفقاً لمصالحها الاجتماعية، حيث ترى أن التربية يجب أن توظف في المحافظة على الأوضاع القائمة للحياة الاجتماعية، لأن هذه الأوضاع تجسد الأبعاد الاجتماعية لحياة الطبقات السائدة في المجتمع، وهكذا فإن التعليم يوجه توجيهاً طبقياً لخدمة مصالح هذه الطبقة التي تهيمن أو تلك التي تسود(1). فالتعليم الإلزامي على سبيل المثال يشكل أداة هذه الطبقة في عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج الثقافي والاجتماعي، وتأسيساً على هذا المنظور الطبقي يمكن تحديد أسباب أربعة لأهمية هذا التعليم في منظور الطبقة البرجوازية.‏
-إنه يشكل أداة تنشئة اجتماعية حيوية في المجتمع حيث يتعلم الناس كيف يعيشون ويتمثلون القيم الاجتماعية الضرورية للحياة والاستمرار في مجتمع محدد(2).‏