إذ كانت التربية كما يعرفها جان بياجيه" (j.Piage) بأنها مجموعة عمليات النمو والتكيف مع البيئة لحل المشكلات القائمة "فإن التربية المدنية بمفهومها الشامل لا تخرج عن إطار هذا التعريف. فقد كان علم التربية المدنية معنياً في الماضي بعلم الأخلاق وسياسة المدن ولكنه امتد في عصرنا الحالي إلى تناول موضوعات مستحدثة أوجدها التطور التقني والصناعي بما أحدثه من تغيرات في نسق الحياة بكل جوانبه، وما أدخله من عادات وأساليب تعامل لم تكن معروفة من قبل.
إن زيادة العبء التقني والفني في مواد الدراسة ومناهجها لم يغير الهدف الأسمى للتربية وهو إعداد المواطن الصالح. فالطبيب والمهندس والاختصاصي بأي مجال من المجالات قد يكون خطراً ووبالاً على المجتمع والدولة إذا لم يكن مواطناً صالحاً بالدرجة الأولى قبل أن يكون مهنياً، وهذا ما يجعل إعداد المواطن من أولى الأولويات في عملية التربية.
ولا شك في أن وسائل التربية والتعليم والتعامل مع المعطيات الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية المعاصرة تتطلب تطويراً في الأساليب والوسائل حتى يتمكن الإنسان في مواجهة كل هذه التغيرات بأن يفرض تعاملاً متوازناً معها، فلا يشعر بالعجز عن التكيف مع متطلبات الحياة الجديدة، وعدم القدرة على تحقيق أهدافه.
لذلك لا يمكن معالجة مسألة التربية المدنية إلا في الإطار الزمني والحضاري اللذين يتحكمان بالإنسان فيمليان عليه ما يجب تعلّمه وممارسته حتى يعيش بتوازن عاطفي وعقلي مع محيطه. هذا ما يدعونا إلى تسليط الضوء على موقع التربية المدنية في تاريخ الحضارة الإنسانية حتى نتمكن من تحديد مضمونها في عصرنا الحالي في ضوء متطلبات الإنسان المعاصر. فالتربية المدنية ترمي إلى تكيف الإنسان مع متطلبات عصره، ومحيطه الاجتماعي. هذه المتطلبات لا يحددها الفرد من منطلق نظري بل يجد نفسه بمواجهتها، فهي متطلبات الواقع التي أفرزتها عوامل مختلفة ومتداخلة تفاعلت فيما بينها، فأوجدت الوضع الاجتماعي الذي يتهيأ الإنسان لدخولـه والتعامل معه، وعلى الفرد التكيف معه هذا الوضع حتى يدخل محيطه الاجتماعي ويمارس دوره فيه(1).
ويمكن للإنسان أن يمارس تأثيره في مجتمعه بوساطة الدور الذي يؤديه، فيحدث التغيرات الإيجابية أو السلبية وفقاً لطبيعة هذا الدور. فكما أن الإنسان يتأثر بمحيطه فإنه يؤثر فيه أيضاً لذا فإن بناء حضارة عالمية إنسانية، يستلزم إعادة بناء الإنسان بناءً تمثل القيم الخلقية صلبه وجوهره. وإعادة بناء الإنسان هذه هي في صلب مهمة التربية بل هي أصلها وجوهرها"(2). حيث تقع على التربية مسؤولية إعداد الإنسان للحياة الاجتماعية الناجحة كعضو في مجتمع معين، ثم كعضو في المجتمع الإنساني، فالتربية تشكل عقول الأجيال وتنمي لديهم قيم العمل والخير والسلوك الاجتماعي والعدل والديمقراطية والحرية وجميع القيم الفاضلة التي تحول الكائن البشري إلى كائن اجتماعي ومواطن صالح.