" لقد نأت مابعد الفلسفةméta philosophie   بنفسها بمرور الوقت ، وتكونت كاختصاص مستقل مكرس لكل أشكال تحليل الخطاب الفلسفي وبما في ذلك مقولات النظريات" -جورج ليرو-
لكي يفهم المرء التحولات التي تجري في الفلسفة المعاصرة أثناء متابعتها للمشهد الراهن الحري به أن يدرس نقاط الافتراق بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية ومواطن الالتقاء  والاستفادة المتبادلة بينهما.
تُعَدُّ الفلسفة التحليلية صورة متقدمة عن الفلسفة القارية وشكل من أشكال الانتشار الجغرافي والتناسل الطبيعي لها وتعتبر الفلسفة القارية بمثابة المصدر الذي انحدرت منه الفلسفة القارية وتفتحت في الخارج.
بيد أن المؤرخين أقاموا بينهما العديد من التمييزات المنهجية والمضمونية وأكدوا على الفروق في الاهتمام والتخصص والأساليب المتبعة خدمة لأغراض بيداغوجية توضيحية أو تأكيد لخصوصية فكرية حضارية.

إنه ليس أمرا غريبا أن يكون المرء قد سمع ولو مرة واحدة  في حياته عن فريدريش نيتشه صاحب كتاب "هكذا تكلم زرادشت"؛وغيره من الكتب الفلسفية الأخرى التي كان المراد منها أن تحل محل الكتاب المقدس، وفي هذا المقال بالذات لن ندخل في أشعار زرادشت، وانما سنقف عند كتاب أخر اختلف حوله الدارسون، فالبعض يرى فيه كتابا ثانويا ولا يستحق كل هذا الاهتمام، بينما يرى فيه البعض الاخر كتابا رئيسيا الى جانب كتابه الشهير"هكذا تكلم زرادشت" ص5، إنه كتاب "نقيض المسيح"الذي ترجمه الى العربية التونسي علي مصباح.
               لعل ما يثير انتباهنا أثناء القراءة ولا نستطيع ان نتجاوزه، إنما هو عنوان الكتاب الذي هو نقيض المسيح.وهنا نجد مترجم الكتاب يوضح بعض الالتباسات التي دفعته الى ترجمة العنوان بنقيض المسيح وليس بعدو المسيح، كما ذهب الى ذلك بعض المترجمين العرب الذين انخدعو بالترجمة الفرنسية التي تفتقر الى الدقة هذا ناهيك عن الأمانةص12، فنيتشه حسب مترجم الكتاب هو الانتيكريست الذي هو نقيض للمسيح.يقول نيتشه:

" يكفي أن نحسن الحكم لكي نحسن الفعل "1
لقد علمنا رونيه ديكارت1596-1650  الكيفية التي نتخطى بها حدودنا ونكتسب قدرات جديدة عن طريق المنهج عندما نواجه المشاكل المستعصية بجد، ولذلك اعتبره المؤرخون بطلا استثنائيا ومفجرا لثور ة هامة في تاريخ الفلسفة ومؤسسا للحداثة الفكرية وموقع مفهوم الكوجيتو الشهير ومكتشف الحدوسات الأكثر لمعانا في الفكر الحديث وذلك عن طريق اعتماده على نظام عقلاني يمدنا بالقواعد، ونسق معرفي يوفر لنا العديد من التوجيهات الإجرائية التي تساعدنا في البحث عن الحقيقة وفي العمل على التحكم في العالم.
غير أن ديكارت لم يولد من فراغ ولم ينته إلى لاشيء، وإنما انحدر من مجموعة من العلماء الذين مهدوا له الدرب على غرار غاليلي وكوبرنيك وكبلر وبرينو، وواصل المجهود الذي كان قد انطلق فيه جملة من المفكرين والفلاسفة على غرار الرواقيين ومونتاني وباسكال والقديس أوغسطين وتوما الأكويني، ويمكن الحديث عن تواصل الديكارتية بعده عند لايبنتز وسبينوزا ومالبرانش وكانط وهيجل وهوسرل وكانغيلام.

قبل أكثر من عام بقليل فحسب، قام فريق متلهف من علماء الآثار بحفرِ الطين والآبار الجوفية في حيّ فقير في القاهرة. كان الحي مقامًا على أنقاض مدينة فرعونية قديمة هي هليوبوليس. عملية الحفر كشفت النقاب عن تمثال ضخم يمثّلُ في اعتقادهم الفرعون رمسيس. لكن سرعان ما تحولت النشوة إلى خيبة أمل عندما اكتشفوا أن التمثال لم يكن لرمسيس وإنما لحاكم أقل شهرةً من القرن السابع قبل الميلاد في مصر، هو إبسماتيك الأول.
مع أنه كان شبه منسيٍّ من ذاكرة العالم الحديث، إلا أن إبسامتيك حظي بالاحترام في مرحلة ما باعتباره حاكمًا عزز العلاقات التجارية والدبلوماسية مع اليونان. فقد سمحت سياساته للهِّيلينيين بإنشاء مستعمرات على الأراضي المصرية لأول مرة، مما أفسح المجال أمام علاقة تجارية وثقافية ستصمد لأكثر من ثلاثمائة عام.

" إن تحطيم الإنسانية يكون شاملا في نظام الذعر الشمولي"1[1]
وجّهت حنة أرندت 1926-1975 بحوثها نحو دراسة الوقائع السياسية بعد قيامها بوصف فنومينولوجي للوجود الإنساني في كتابها الشهير وضع الإنسان الحديث الذي كانت قد ألفته سنة 1958 وأبقت فيه على مسلمات الفلسفة الوجودية التي درستها عند ياسبرس وهيدجر، وطالعتها عند سارتر ودي بوفوار وكامو.
لقد تصورت الوجود من حيث هو وجود فاعل على ثلاث مستويات وهي: الشغل travail  الذي يواجه به المرء ضرورات الحياة ويسمح له بالاستمرار في الوجود ، والصنعoeuvre  الذي ينتج بواسطته المرء مجموعة من المواضيع الدائمة التي تشكل العالم المصنوع الذي يحيا ضمنه الناس، والفعلaction الذي يختلف عن العمل ولا يكتفي بتحقيق هدف معين، وإنما يساعد المرء على أن يعيش تجربة استثنائية من إمكانيات الحياة السياسية بين المتساوين أي يتواجد معهم في فضاء عمومي وفق مبدأي المساواة والتميز.

يتحدد الإنسان باعتباره كائنا راغبا؛ ذلك أنه لا يكتفي بتلبية حاجاته التي تمليها الضرورة الطبيعية، بل يدبر هذه الحاجات وفق سياسات للرغبة، تحدد نمط حياته، وخطة عيشه، وعلل فعله؛ وهو الأمر الذي يجعل رغباته ليست منفعلة فحسب، وإنما فاعلة كذلك، من حيث هي مصدر للمقاومة، مقاومة البلاهة والتفاهة والوهم والاستهلاك والاحتكار وغلاء الأسعار.
    يُمْكِنُ مقاربة سياسات الرغبة في علاقتها بالسعادة؛ ذلك أن هذه هي الخير الأسمى الذي تتطلع إليه البشرية جمعاء، على اختلاف سياسات رغباتها؛ إذ هناك من يجد سعادته في المأكل والمشرب والمنكح، وهناك من يجدها في  المال والنفوذ والمجد، وهناك من يجدها في المناصب السياسية، بينما فريق آخر يجدون سعادتهم في العِلم والحِكمة.

يقترح الفلاسفة طريقين لمعرفة الفلسفة : أحدها هو الطريق الماهوي الذي يفترض جوفا ما للفلسفة يسكنها من الداخل و يعمل على تحريك مسارها في التاريخ. وآخر هو الطريق الوظيفي الذي يفترض غايات عليا موجهة للفلسفة من البداية. وإذا كان الأول يحدد ثوابت أولية تضفي الفلسفية على الخطاب، يذهب الثاني إلى اعتبار أن هناك أدوارا محددة للفلسفة لا تكون إلا بها.
فبينما يقول لنا الماهويون إن الرياح كانت تنوي إخراج الموجة نحو الشاطئ، يرد عليهم الوظيفيون أن الأمواج تعرف مصلحة البحر ككل وتتحرك من أجل هذا الهدف. وما وراء هذين الطريقين هناك طريق ثالث لا ينطلق من الماهية أو الغاية بل من عملية الإنتاج الفلسفي ذاتها؛ أي نشاط الفيلسوف المتمثل في العملية المولدة للمضامين الفلسفية، لكن بدل النظر للمضمون الفلسفي يتعين علينا الإنتباه للممارسات المنتجة له؛ تعيين طبيعة هذه الممارسة وتمييزها عما سواها.

تنطلق  هذه المداخلة  من الافتراض الآتي : " إن  فلسفة سقراط جزء لا يتجزأ من المشروع التنويري العام الذي تروم الفلسفة تحقيقه. وحتى يتسنى لنا إيضاح ذلك، فالأمر يقتضي الغوص في دواليب التفكير الفلسفي، من الفلسفة اليونانية إلى حدود الفلسفة المعاصرة. فكما يعلم الجميع أن  الطبيعة  شكلت موضوعا لاشتغال الفلسفة اليونانية لاسيما ما قبل سقراط  أو ما يصطلح عليه بالفلسفة الكسمولوجية، كيف لا وهي التي انطلقت من سؤال ما أصل الكون ؟ هذا السؤال الذي أنعش القريحة الفكرية لفلاسفة تلك الحقبة " القرن 6 و 4 قبل الميلاد" خصوصا طاليس الذي قال بأن الماء أصل كل الأشياء وهي الإجابة التي جعلت منه أول فيلسوف يوناني  على حد قول فريدريك نيتشه[1] ويعزى ذلك  إلى كون فكرته هذه تتضمن أن الكل واحد.

لقد ظل التفكير البشري مند بزوغه مهووسا بالتفكير في الشروط التي يعيش ويحيا فيها، محاولا الرقي بها إلى الأفضل، متجاوزا كل ما هو قديم وغير صالح، طامحا لبناء الجديد الذي لا يمكن أن يكون إلا خيرا وصالحا للمجتمع، وقد كان هدف الانسان عبر تطور العصور هو تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالما شكلت حلما لكل البشر، فلولا غياب العدالة لما سعت الممالك القديمة كأشور، وأكد، وبابل وسومر ...إلى تحقيقها، ولولا غياب العدالة لما ظهر حمورابي بقانونه الذي أرسلته الآلهة ليرسيها ويجسدها واقعيا. يحكي لنا حمورابي بان الإلهين أنمول"المرشد الأعلى " وأيليل هما اللذان  :"هتفا باسمي يا حمورابي،أيها الأمير المبجّل الذي يخاف الآلهة، أن أجعل العدالة تعم رحاب الأرض، وأقض على الأشرار، حتى أمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء، وأشرق كالشمس على التعساء والمظلومين".

   يمكن أن نقول أن الغرض من العدالة حسب تصور حمو رابي هو حماية الضعفاء من بطش الأقوياء، في الدولة القديمة التي كان جهاز السلطة فيها يتميز بالمركزية إلى درجة عالية .

يحيل إصطلاح الفلسفة كمحبة للحكمة - فيما يحيل - على لحظة اِلتقاءٍ بين عالمين: عالم الشعور وقد انضاف لعالم الوعي ليشكلا عالما إنسانيا من الأمل و التأمل. هذه الإرادة ذات النزع الإنساني تتضمن الآخر في أحكامها كضرورة أنطولوجية وكقصدية أخلاقية ، وأيضا كشرط للتفكير بالتصور الدولوزي. ربما لأن ما ترتبط به الفلسفة كما يقول هيدغر1 يقاربنا و يلامسنا في كينونتنا الخاصة. فالإرتباط بالحكمة و معها هو تعلق بفكرة الفكرة وحسم مبدئي بين العيش وفق الفكر أو وفق النزوة و تقلبات الضرورة ؛ لهذا تعرض ذاتها كخيار أخلاقي نابذ للمندفع المتهور ، تثق في الإختلاف و تعترف به بدل نبذه و التشكك فيه. فأي صلات تلك التي تجمع الحب بالحكمة؟ وما الذي يجعل هذا الحب ممكنا ؟ و بأي معنى يكون الحب دعامة لإمكانية الفلسفة ؟

" أن تكون فيلسوفا لا يعني أن تعلم الكثير من الأشياء بل أن تكون دقيقا في كل شيء"
سقراط
لم يتفق الفلاسفة على الكثير من الأمور بما في ذلك تعريف النشاط الذي يقومون به، فالجميع يمنح لنفسه تصورا مخصوصا وطريقة في البحث ينفرد بها عن غيره ويضع لمنطلقاتها نتائج يزعم اكتشافها بنفسه.
غير أن هذا الاختلاف والتباين بين الفلاسفة حول طبيعة مجهودهم ونوعية الشغل الفكري الذي يقومون به لا يلغي وحدة الهدف والمصير والرغبة المشتركة في تدبير المدينة واستهداف حياة جيدة خالية من الشقاء.
لا تقتصر الفلسفة على النظر في العالم وإبراز الحضور الإنساني وتصور مجتمع أفضل وإنما هي فعالية إبداعية فيه ونشاط خلاق وقدرة تحررية وأيضا درب نحو تحقيق السعادة وتمكين الناس من الخير العام.