" توفر التجربة المعيار الأقصى للحقيقة"1
يبدو أن التطرق إلى الحقيقة في الحياة اليومية وضمن النشاطات العلمية للإنسان لا يستقيم دون المرور بمحك التجارب سواء تعلق الأمر بالأحداث التاريخية أو الممارسات الاجتماعية أو النظريات العلمية.
من البديهي أن يتم عرض مختلف الفرضيات والنظريات على حاكم التجربة بغية تخليصها من الأخطاء وتقريبها من العالم ومن أجل امتحان درجة بعدها عن المعتقدات الزائفة ومدى قربها ومطابقتها للواقع.
لكن كيف نفهم هذا المصطلح: التجربة؟ وما الفرق بين التجربة عند العامي والتجربة في المجال العلمي؟
يدل مصطلح التجربة على معنى عام ومترامي الأبعاد وينطبق على حقل واسع من الإشارات والأفعال والدلالات. لكي يتم تحديد المعنى الذي ينطبق عليه بأكثر دقة يكون من المفيد استدعاء جملة من التمييزات التي تستعمل في إبراز التعارض بين السبر والمعاينة وبين الفرض والافتراض وبين التجريب والاختبار.

يعتبر إدموند هوسرل Edmund Husserl مؤسس الفينومينولوجيا (الظاهراتية). وهكذا أنجب واحدة من أهم الحركات الفلسفية في القرن العشرين، وهي حركة لا يمكن حصر ورثتها: هايدغر، ريناخ، شتاين، ريكور، دريدا، ليفيناس، إنغاردن، ميرلو بونتي، هنري، ماريون، واللائحة طويلة. يجب البحث عن أصل نجاح فلسفة هوسرل في طريقة جديدة جذرية ل إنتاج فلسفة طورها هوسرل وزودها بطاقة على تجديد نفسها باستمرار.
تقدم فينومينولوجيا هوسرل نفسها أولاً وقبل كل شيء كعلم تصويري للظواهر الماثلة في الوعي بعد وضع أطروحة العالم بين قوسين. ومع ذلك، لا يقتصر عمل هوسرل على تحليل أعمال الوعي، لكنه يتناول معظم الثيمات الرئيسية للفلسفة: الوجود، اللغة، المعرفة، العلوم (المنطق، الرياضيات، علم النفس). )، الوعي، الزمن، الأخلاق، التاريخ أو المنهج الفلسفي البحت، هذه اذن بعض الثيمات التي اشتغل عليها هوسرل طوال حياته والتي أضاف اليها مساهمة أصيلة.
الغرض من هذا العرض هو إظهار تنوع المواضيع التي تناولها هوسرل والتوتر بين العقلانية والمطلب التجريبي الذي اخترق فلسفته كلها. وهكذا، بعد تقديم موجز لسيرته الذاتية، نعرض لبعض الثيمات والمفاهيم الأكثر أهمية في العمل الفلسفي لـهوسرل، بينما نحاول استيعاب العديد من التطورات التي حدثت في فكره، لنختم بتناول بعض الانتقادات التي تعرض لها.
1- نبذة عن حياته
ولد في پروسنتز Proβnitz (موراڤيا ) يوم 8 أبريل 1859 لأبوين يهوديين. تلقى أولا دروسا في علم الفلك بلايبزيغ (1876-1878) ثم في الرياضيات ببرلين (1878-1881)، حيث تتلمذ على كارل ليوبولد كرونيكير Leopold Kronecker وكارل ويرستراس Carl Weierstrass . في عام 1883، دافع في جامعة فيينا عن أطروحة دكتوراه في الرياضيات حول نظرية الاختلافات. ثم حضر دروس الفلسفة التي قدمها فرانز برنتانو Franz Brentano في فيينا (1884-1886). وبموجب نصيحة من الأخير، هيأ سنة 1887 في مدينة هال Halle أطروحة تأهيلية حول مفهوم العدد تحت إشراف كارل ستومبف Carl Stumpf. أصبح مساعدا في جامعة هال (1887-1901)، وأستاذا في جامعة غوتنغن (1901-1916) وانهى مسيرته في جامعة فرايبورغ (1916-1928). بعد تقاعده، سيتم حرمانه من بعض حقوقه الأكاديمية بسبب أصوله اليهودية (على الرغم من تحوله في مرحلة شبابه إلى البروتستانتية). توفي في مدينة فرايبورغ في 27 أبريل 1938. بحكم تعرضها للتهديد بالإتلاف على يد النازيين، قام ليو فان بريدا Leo Van Breda بنقل تركته، المؤلفة من مكتبته الشخصية الفلسفية (مع الشروح) وما يزيد عن 40،000 صفحة من المخطوطات، بطريقة سرية إلى مكان آمن في لوفين Leuven، حيث تم، في عام 1939، إنشاء "أرشيفات هوسرل"، المؤسسة التي لا تزال مسؤولة عن طبع ونشر أعمال هوسرل.

على سبيل التقديم :
تأتي هذه المقالة الكانطية المعنونة ب "فكرة عن تاريخ كوني من وجهة نظر المواطنة العالمية" في سياق خاص يشكل ردا أو استجابة لملاحظة (حول إمكانية كتابة تاريخ للجنس البشري على ضوء الفكرة القائلة بغائيته، وسعيه لتحقيق نظام سياسي مكتمل) تمت إثارتها في مجلة ألمانية.
أما السياق العام للمقالة فهو يقترن بمناقشات فلسفية طويلة حول مفاهيم: التقدم والغائية والمواطنة العالمية )الكوسموبوليتية(...في إطار ما يعرف ب "فلسفة التاريخ"....وحتى نتمكن من استيعاب مضامين المقالة سنسترشد بالتساؤلات الآتية : هل يستقيم الحديث عن تاريخ كوني )عالمي(؟ ألا تخفي التواريخ الجزئية-   للشعوب والحضارات- وراءها خيطا ناظما بإمكانه أن يرشدنا إلى حضور فكرة التقدم والغائية داخل التاريخ ؟ ثم هل يمكن التأسيس لنظام سياسي عالمي ينقلنا من المواطنة الدولتية  -إن صح التعبير- إلى المواطنة العالمية ؟ وبالمقابل أليس هذا التصور تعبيرا عن منظور ميتافيزيقي نابع من خارج التاريخ لا من داخله ؟
بداية لابد من استيعاب التمييز الذي يقيمه كانط بين مجال الفينومين )الظواهر( والنومين) الشيء في ذاته(. فإن كان الأول يرتبط بالطبيعة المحكومة بقوانين الحتمية، فإن الثاني يحيل إلى الجانب الميتافيزيقي المنفتح على حرية الإرادة.
بيد أن هذا التمييز لا يلغي في نظر كانط خضوع الأفعال الإنسانية لقوانين الطبيعة الكونية. ووحدها هذه الأخيرة يمكن أن تنقل الأفعال الإنسانية )والتاريخية( من مجال الصدفة والعرضية إلى مجال الحتمية والغائية. لتمنحنا بذلك إمكانية إيجاد خيط ناظم- مرشد- للتاريخ، تتحقق فيه فكرة التقدم باتجاه المواطنة العالمية )نظام سياسي كوسموبوليتي(. فكيف يعرض كانط منظوره هذا في المقال ؟

" إن الحرية في هذا النظام الصارم هي المعنى العميق والوجه الحقيقي للضرورة"1
جان بول سارتر (1905-1980) هو مثقف نوعي من الطراز الأول عرفته الأوساط الباريسية في فرنسا وعواصم العالم العربي ومعظم البلدان الأوروبية والأمريكية والآسيوية التي زارها طوال القرن العشرين.
لقد جعل من أثره مسارا نضاليا وعكست مؤلفاته برمتها انخراطا مبكرا في المعارك السياسية والصراع الاجتماعي في عصره وظهر ذلك في معاداته للاستعمار وتبنيه نزعة اشتراكية نقدية وقيامه بتأسيس مجلة الأزمنة الحديثة صحبة سيمون دي بوفوار وألبرت كامو وإبرامه لصداقة وجودية مع موريس مرلوبونتي.
لقد أضفى سارتر على الوجودية طابعا إنسانويا ودافع بشراسة على الحرية من حيث هي قدر إنساني في أن يكون حرا ويتحمل مسؤولية ذلك ولقد جمع بين الفلسفة والأدب والمسرح والسياسة والالتزام الوجودي.
بدأ سارتر رحلته في الكتابة بإصدار كتيبات عن الخيال والمخيال في منتصف العقد الثلاثيني ولكنه جسم تأثره البالغ بكتاب مارتن هيدجر الوجود والزمان والأبحاث المنطقية لأودموند هوسرل في عام 1943 بإخراج كتاب مهم عنونه بالوجود والعدم ظل محل جدل وخلاف تأويلي إلى الآن وأردفه بجلسة مغلقة سنة 1944 ترجم فيها أفكاره الوجودية وفق أسلوب أدبي ثم ظهرت له دروب الحرية في ثلاثة أجزاء عام 1945 وفي نفس السنة ظهرت له رسالة الوجودية من حيث هي نزعة انسانوية وتابع اهتمامه بالسيرة الذاتية وألف عن كوميديا جنيت في عام 1952 وأبله العائلة وختم بكتاب نقد العقل الجدلي عام 1960.

" الرغبة: من سيودّ في تسمية هذا »بالنقص «إذا ما استثنينا الكهنة؟ ".
" ليس فعل الرغبة بأمر سهل، وذلك بالضبط لأنه يعطي عوض أن يكون نقصا، إنها »فضيلة تمنح« " .                               
جيل دولوز
تقديم
    لم تكن نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء؛ أي ما بعد التحرير، بالنسبة لجيل دولوز لحظة احتفال، بل انتباه يقظ لتاريخ الفلسفة، وما شكله من تضييق وخنق لإمكانية التفكير. فمع سيادة مذاهب كالوجودية(باستثناء سارتر) والفينومينولوجيا، تم فرض تقاليد وقواعد وصور، وتكونت مدارس رهيبة تصنع اختصاصيين في الفكر، وتمنع الناس تماما من التفكير. زاد الأمر تعقيدا، مع استعارة الفكر لصورته الفلسفية المحضة من الدولة كباطن جوهري أو ذاتي، كما حل محل الفلسفة منافسين جدد، كالتحليل النفسي مثلا. في ظل هذه الشروط، انطلق دولوز في البحث عن طريقة جديدة للتفكير- مع عدم احتماله لا لديكارت أي الثنائيات والكوجيطو، ولا هيغل أي الثالوث وعمل السلب، ولا لفرويد والمحللين النفسانيين- تقوم أساسا على التجريب، وليس على التأويل؛ هذا الفن العملي الشهير للتحليل النفسي، وعلى تحرير الرغبة التي أصابها التضخم، وأضحت مقترنة بالنقص والثقافة والقانون. تطلب الأمر من دولوز مواجهة خصوم، وإبداع مفاهيم وخطوط هروب وتنسيقات تسمح بإمكانية الرغبة؛ أي مجموع العناصر الخارجية التي تتركب وتترابط لتكون رغبة ما. كما اقترن انخراط دولوز في البحث عن أدوات جديدة لاستئناف القول الفلسفي وإبداع صورة جديدة للفكر، بتحولات قوى الأقليات الهامشية وكل قوى الصيرورات وكل قوى اللغة، وكل قوى الفن التي أخذت في الهروب والحديث والتفكير والفعل والصيرورة بشكل آخر، غاية في تحرير الإنسان وتحرير الحياة حيثما هي أسيرة.

" كل شيء يتوقف على قيمة ما نفكر فيه وعلى معناه. إن لدينا دائما الحقائق التي نستحقها تبعا لمعنى ما نتصوره ولقيمة ما نعتقده"[1]
جيل دولوز (1925-1995) فيلسوف رحال بامتياز ويعود ذلك إلى كونه مؤسس النومادولوجيا في تاريخ الفلسفة وأدب البورتريه والفيلم الفلسفي من خلال الفرجة على الأزمنة المتحركة والأمكنة المستكشفة، لقد أصبحت صورة الفيلسوف معه مرتبطة برحلته وسيرته الذاتية في الحياة ولا تقتصر على تجربة تدريس الفلسفة واللقاءات والأفلام التي أجريت معه وصار الفكر الفلسفي زرع الروزومات على مسطح المحايثة.
لقد اشتغل دولوز مدرسا للفلسفة منذ 1950 في وضعية مساعد للعديد من الأساتذة الكبار المشهورين ولكنه أنتج دراسات تاريخية حول كانط وسبينوزا وبرجسون ونيتشه وهيوم وجمع مونوغرافيا لامعة حولهم، ولم يجد فرصته الاستثنائية إلا عندما التحق بالمكان الذي تركه ميشيل فوكو في المركز الجامعي التجريبي لفانسان الذي مكث فيه الى حد 1987 وقدم فيه مجموعة من الدروس عكست كلها اهتماماته في بناء فعالية فلسفية مستقلة تدور حول الإبداع الفني والفعل السياسي وتبذل مجهودات من اجل إعادة الاعتبار للذات وتفكر في الحرية وتهتم بالعلوم وتحاور علم النفس التحليلي وفرويد وتجعل من قضية الزمن مسألة بارزة.
لقد ألف دولوز منذ 1962 كتاب نيتشه والفلسفة ووقع سنة 1967 رائعة الفرق والمعاودة وفي سنة 1969 منطق المعنى وبعد ذلك صاغ تأليفا مشتركا مع طبيب نفساني اسمه فليكس غتاري أثمر أولا كتاب ألف سطح وبعدذلك في سنة 1991 كتاب ما الفلسفة؟ ولكنه تفاعل مع الأركيولوجيا في كتاب فوكو عام 1986.

تروم الفلسفة السياسية المعاصرة إعادة استشكال العدالة من داخل المرجعية الليبرالية، وما يثوي داخلها من المفاهيم السياسية وطبيعة علاقة التداخل والتخارج القائمة بينها، كالحرية والمساواة والديمقراطية والتفاوت. إذ استطاع جون رولز أن يحيي النقاش حول العدالة بعد أن تمّ تغييبها على حساب هيمنة التوجه النفعي في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ باعتباره  يمجد المصلحة العامة بناءً على تعظيم الخيرات واعتبار السياسة العادلة هي التي تنتج أعظم قدر من السعادة للأشخاص، بيد أنّ المفارقة تكمن في النظر إلى الشخص واعتباره؛ فتعظيم السعادة للمجموع يؤدي إلى التفاوت الاقتصادي وانعكاسه الاجتماعي، بفعل الأساس النفعي لليبرالية والحرية الاقتصادية، فينعكس سلباً على الأدنى في فهرس الخيرات، إذ إنّ ذلك يؤثر بالضرورة في البعد الاعتباري للأشخاص، ويهدد رابطة التعاون الاجتماعي[1].

لقد حاول جون رولز تجاوز المأزق النفعي الذي يعطي الأولوية للخير - في نسقه السياسي الاقتصادي- على الحق، وذلك بقلب الأولوية من أجل عدم الزحف على حقوق وحريات الأشخاص باسم تأويج الخيرات، لذلك أصبحت الأولوية للتفكير والتأسيس لنظرية في العدالة تصبح فيها الحقوق والخيرات محددة وموزعة تبعاً للنظرية بالضرورة. فكيف السبيل إلى تقديم نظرية في العدالة داخل سياق ليبرالي ونظام رأسمالي؟

  يُعتبَر الإلحاد من أهم المسائل التي استحوذت (ولا تزال) على أذهان كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء عبر كل العصور، وكان (ولا يزال) مَشغَلَةً أسالت الكثير من المداد جدلا ونقاشا وبحثا وتقصيّا بين معتنق ورافض. ومن المحال تماما أن يستوعب كتاب هذه المسألة المتشعّبة والمعقّدة فضلا عن مقال. لذا فالغرض من هذا المقال ليس محاولة تجميع تَلابيبِ هذه المَشغَلَة، وإنما هي محاولة لتسليط الضوء على ظاهرة (موضة) الإلحاد عند الشباب العربي تحديدا.
بداية لا بد أن نتّفق أن الملحد متديّنٌ مثله مثل المُؤَلّه تماما وإن كانا نقيضين. فالفيلسوف الإنجليزي الشهير هربرت سبنسر - Herbert Spencer، في كتابه المبادئ الأولى First Principles، اعتبر الملاحدة والمُؤَلِّهَة متديّنين معا، فقال الأول متديّن بالنّفي (نفي وجود الله) والثاني متديّن بالإيجاب (الإيمان بوجود الله)، فكلاهما يعتنق "دينه" من خلال اقتناعه بجَمهَرة أدلة (منطقية .. فلسفية .. علمية .. عقلية .. ميتافيزيقية) !
وهناك صنف ثالث وهو اللاأدري Agnosticism غير المهتم، الذين يظن أن الوقوف على الحياد من هذه القضية هو أحد الاختيارات المتاحة له. وهذا الرهان تحديدا هو دق لناقوس الخطر لكل من يقول أنا لا أدري إن كان هناك إله أم لا، ثم يتابع حياته قَريرَ العين، ويتوقف عن البحث عن الحقيقة كأن الأمر لا يعنيه. كلا يا عزيزي، أنت واهم، لابد أن يعنيك الأمر، فهذا هو الرهان الوحيد في الحياة الذي لا يمكنك الانسحاب منه.

" ليس الإنسان هو الذي يبني العلوم الإنسانية ويعطيها ميدانا خاصا بها لكنها جاهزية الابستيمية العامة التي تفسح لها المكان ، تستدعيها وتنشؤها، سامحة لها بهذا بأن تكون الإنسان كموضوع لها"[1]
يعد ميشيل فوكو (1926-1984) أكثر الفلاسفة الفرنسيين شهرة وتأثيرا في القرن العشرين وذلك بعد أن اشتغل أستاذا جامعيا زائرا في تونس في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية 9 أفريل، وانتقل بعد ذلك إلى معهد فرنسا بباريس وحجز كرسي تأريخ أنساق الفكر من1970 إلى1984،ولقد أنجز عام 1961 أطروحة بعنوان الجنون واللاّعقل، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ثم كان قد ألف سنة 1966 كتابه الشهير الكلمات والأشياء من خلال منهج الأركيولوجيا في العلوم الإنسانية، وبعد ذلك كتب في 1971 نظام الخطاب وفي سنة 1975 المراقبة والمعاقبة من خلال مولد العيادة، وترك متن "أقوال وكتابات" في قسمين تتكون من دروسه ومحاضراته ومقالاته ومداخلاته ومشاركاته العالمية وتمتد من 1955الى1988.
لقد اقترح فوكو القيام بدراسة مجهرية معمقة من جهة التاريخ وفلسفة الظواهر الدقيقة مثل الجنون والموت والجنسانية والسجن والعناية بالذات والسلطة في مختلف تجلياتها وممارساتها العلنية والمجهرية بغية فهم المعرفة من خلال تاريخها الخاص بها. لقد أنكر فوكو فكرة التاريخ العلمي الوحيد والكوني والمتصل وأقر في المقابل بأن تاريخ المعرفة هو تاريخ انفصالات متتالية وانكسارات مستمرة وثورات نوعية واستنجد بالفلسفة من أجل اقتراح أركيولويجا محددة للأنظمة المعرفية والأنساق الفكرية وركز على التشخيص والميكروفيزياء والبيوبوليتيكا ودرس علاقات السلطة التي تجعل المعرفة منظمة والمؤسسات قائمة الذات.

بناء الذات، عند نيتشه كما عند مونطيني، هو مشروع فردي بشكل أساسي. لا يترك الفرصة لأن نقلد، بالمعنى الأساسي للكلمة، المثال الذي قدمه شخص آخر. لأنه بدلا من أن نبدع ذواتنا، فإننا نقوم بتقليد ذلك الشخص الآخر. ومع ذلك، لا يتم تهديد الفردية فقط عندما نقلد شخصا آخر، ولكن أيضا، بطريقة أكثر قتامة، وأكثر خطورة ، عندما تتم محاكاتنا من قبل الآخرين. يتميّز نيتشه عن الفلاسفة الآخرين الذين فكروا في فن العيش من خلال الوعي الحاد الذي حصل له بهذا الخطر والقلق الذي تسبب له فيهما هذا التهديد. النجاح في خلق الذات يمكن أن يؤدي إلى فشل هذه المهمة نفسها. لأنه إذا تم تقليدنا بالفعل من قبل الآخرين، إذا كان أسلوب الحياة الذي وقع عليه اختيارنا يكفي لباقي العالم ليصبح نموذجًا للطريقة التي يجب أن تعاش بها الحياة بشكل عام، عندئذ فان ما يميز في الأصل الفرد عن العالم الذي يعيش فيه يبدأ يشكل جزءًا من هذا العالم. انه ليس هو؛ هذا الشخص يصير، لاستخدام كلمات نيتشه، واقعة:

" المقلدون. - أ ...: "كيف؟ لا تريد أن يكون لك مقلدون؟ - ب ...: "لا أريد تقليدهم لشيء ما من عنديتي ، أريد أن يكون كل واحد نموذجًا لنفسه: هذا ما أفعله. " - إذن... ؟ " " تفترض الفردانية، مثل الأسلوب ، التعددية والمعارضة. إذا كان الجميع يتبنى النمط نفسه، فإن الأسلوب يختفي: لا يعود سوى طريقة عادية للتصرّف، أي درجة الصفر في الحياة. يتعرض تاريخنا الفردي لخطر تقليد النموذج الذي يقدمه شخص آخر وخطر أن يصبح هو ( التاريخ ) ذاته نموذجًا يحتذي به الآخرون بدورهم. إن الجمع بين هذين الخطرين هو أحد الأسباب التي تجعل موقف نيتشه تجاه سقراط معقدًا للغاية، في نهاية التحليل، كما سنرى.

طوال حياته، قاد نيتشه معركة فكرية ضد سقراط، الذي لم يبد له نفس الاحترام، ولا نفس الشغف اللذين أبداهما ل"معلميه" وعدويه الآخرين، شوبنهاور و فاغنر. لماذا؟ مما لا شك فيه أن نيتشه يشتبه في أن "دوغماتية" سقراط (وجهة نظر بحسبها يكون شكل واحد الحياة، الحياة على هدي العقل، صالحا للبشرية) لم تكن وجهة نظر سقراط نفسه ولكنه كان المصير الذي لا مفر منه لالتزام سقراط بهذا الشكل من الحياة بوصفه الأفضل لنفسه وربما أيضا لبعض الناس الآخرين الذين يشبهونه . هذا الموقف الأخير لا يختلف كثيرا عن "منظورية" نيتشه، واحتمال الاضطرار إلى الاعتراف في نهاية المطاف ليس بعدو، ولكن بمشارك في هذه الصورة التي عرفت بها الثقافة التي حاربها نيتشه طيلة حياته، جعل الأخير يبدو أقل أصالة مما يوحي به مظهره. والأهم من ذلك أن هذا أدى به إلى التشكيك في أن موقفه المنظوري، الذي وفقه يستطيع أفراد مختلفون أن يعيشوا شكلا مختلفا من أشكال الحياة، يمكن في الأخير أن يتم تبنيه على نحو دوغماتي وأن ينظر إليه على أنه استمرار للتقاليد العقائدية التي كان يتمنى كثيرا الابتعاد عنها.
يقول نيتشه في "Considérations inactuelles, III": هناك كاتب واحد فقط أضعه في نفس رتبة شوبنهاور اعتبارا لنزاهته ، وأنا أضعه أعلى من ذلك، انه مونطني. فأن يكتب حقا رجل بهذه الصفة ، عن فرحة العيش على الأرض يؤهله لاعتلائها. من جهتي، على الأقل، منذ أن عرفت هذه الروح، الأكثر حرية وقوة على الاطلاق، يجب علي أن أقول ما قاله مونطني عن بلوتارخ: "ما كدت أن ألقي عليه نظرة حتى (شعرت) بأن فخذا أو جناحا دفعني". انما معه سوف أرتبط، إذا كانت المهمة المفروضة علي هي التأقلم مع الأرض".