" من يمتلك الإيمان الكافي لمقاومة تيار الجمهور هو استثناء غالبا ما يضحك عليه معاصروه وما يكون موضع إعجاب بعد عدة قرون"  - ايرك فروم
تضاءل الاهتمام بالفلسفة من جهة المتابعة للورشات الفكرية وحلقات النقاش والمطالعة للكتب المنشورة والمقالات المكتوبة والنصوص المدونة ومن جهة الحضور والمواكبة للدروس والحصص الييداغوجية.
ما مرد هذا العزوف؟ هل يعود إلى اتصاف الفلسفة بالتعالي والتعفف أم إلى الأزمة الروحية والفراغ القيمي؟
هل هو الإفراط في تناول تاريخها وذاكرتها بدل التركيز على احراجاتها ومفارقتها واستهداف مقاصدها؟
لقد حازت مختلف التصورات الوجودية والرؤى المعرفية والأنماط التعبيرية على قسم هام من المتابعين المثابرين وشرائح من المجتمع والحريصين وجاء الدين والرياضة والفن والسياسة في المراتب الأولى.

تقديم : يتوخى الباحث سعيد بوخليط، الاشتغال تأليفا وترجمة، على رافدين، اعتبرهما، باستمرار مسارين أساسيين، بالنسبة لهواجسه المعرفية:
- شعرية غاستون باشلار، ومن خلالها المرتكزات الأساسية للنقد الأدبي الحديث.
- العلاقة بين الأدب والفلسفة.
وقد شرع فعلا،بهذا الخصوص،منذ أواخر سنوات التسعينات،في تقديم أولى بواكير تطلعاته تلك،بإصداره بداية لمقالات وإنجازه لترجمات،نشرت في ملفات مجلات أكاديمية مغربية وعربية،من صنف التي كان يشرف عليها محمد عابد الجابري أو مطاع صفدي.ثم تطور العطاء مع عناوين عشرات الكتب،صدرت تباعا….آخرها،عن دار عالم الكتب الحديث الأردنية،تحت عنوان :''آفاق إنسانية لامتناهية،حوارات ومناظرات".   

"كل سفينة لا تجيئها ريحُها منها فهي فقيرة"
 - ابن عربي -
يتميز الفيلسوف ابن عربي المولود في مرسية بالأندلس سنة  ميلادي1164والمتوفي في دمشق عام 1240 ميلادي عن غيره من الحكماء بالتعمق في البحث والتبحر في العلوم وفي امتلاك اللغة الرمزية والنباهة الفكرية والحدس الاشراقي واستخدام للمسلكية المنطقية والتجربة العيانية والتأويل المجازي.
لقد مر المتصوف الأكبر بتونس وأقام فيها مرتين لمدة زمنية مهمة وترك الكثير من المؤلفات والمراسلات والأقوال من أبرزها الفتوحات المكية وفصوص الحكم وترجمان الأشواق وشجرة الكون وكتاب اليقين.
لقد زار مختلف المدن والعواصم العربية بداية بغرناطة وفاس وتونس والقاهرة وبغداد ومكة والطائف وحلب ودمشق والتقى بكبار المتصوفة والحكماء مثل السهروردي وجلال الدين الرومي وذكر المؤرخون لقاء مفترض جرى شبابه بينه والفيلسوف الكبير ابن رشد وحدوث مناقشة بينهما عن منهج الحقيقة ورؤية الكون ولكنه انتهي إلى العزوف عن طريق البرهان والتجربة واتبع مسلك الكشف والإلهام والإشراق.

لا يوجد فيلسوف أوروبي في القرن العشرين أفلتَ من تأثير الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889_ 1976). وهذا يشير بوضوح إلى مكانة هذا الفيلسوف في النسق الفلسفي الغربي . فما الذي جعله يتبوَّأ هذه المكانة رغم كثرة القامات الفلسفية في أوروبا عبر تاريخها الطويل ؟
إن النقطة الجوهرية في فكر هايدغر هي عدم تقليده للآخرين، لقد كانَ نفْسَه ولا شيء آخر، ولم يَعبأ بالنقد والاتهامات، فقد آمنَ بأفكاره الشخصية وفلسفته الخاصة، ومضى في طريقه وحيداً نحو الهدف الذي رسمه بنفْسه، ووصل إلى أبعد نقطة ممكنة، لأنه كان يعرف مسارَه وهدفَه ، ولو كان متردداً لما حقَّق أيَّ إنجاز، وكما قِيل : لا يذهب بعيداً مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب، وهذا الأمر يُحسَب له بغض النظر عن طبيعة أفكاره.

" لا راحة لمن تعجل الراحة بكسله...وليس العاطل من لا يؤدي عملا فقط بل من يؤدي عملا وبوسعه أن يؤدي أفضل منه" – سقراط-
الفئة الشابة هي العصب الحيوي للمجتمع وعماد المستقبل والطاقات البشرية التي يعول عليها الجميع من أجل المحافظة على المكاسب والاستمرار في العطاء والجد والاتجاه نحو صناعة الغد والقيام بالإصلاحات الضرورية والتجديد الجذري للواقع السائد والانطلاق من الموجود نحو المنشود ومن الكائن إلى الممكن.
يتميز الشباب بالحماس والديناميكية والإقبال على الأمور العظيمة والاستعداد للفعل والاندفاع نحو العمل والإقدام على المغامرة والمشاركة التلقائية في التضحية والالتزام بالتجربة والعودة إلى المبادئ الجماعية والاستعداد للتعلم من الآخرين والاستفادة من النصيحة ومحاكاة النماذج الناجحة والاقتداء بالرموز القوية.

من المعلوم أن التفكير الفلسفي أقام منذ أفلاطون أهمية أساسية للمفاهيم و الاشتغال عليها نظرا لما ينشأ عن تعدد المعاني للكلمة الواحدة من سوء تفاهم أو مغالطات سفسطائية مقصودة, حيث خصص أفلاطون عدة محاورات لتحديد مفاهيم مثل العدالة و النفس و الوجود و غيرها ,و هو نفس الأمر الذي  دفع أرسطو بعده إلى إحصاء المغالطات المتعلقة بالألفاظ و استعمالاتها في كتابه " الدحوضات السفسطائية ". و قد خصص العديد من الفلاسفة المسلمين كذلك مؤلفات تعنى بدلالات الألفاظ المنطقية و الفلسفية يمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال  لا الحصر الفارابي في كتابه "الحروف" و الغزالي في "كتابه معيار العلم". رب أمر بمثل هذه الأهمية جعل فيلسوفا معاصرا مثل جيل دلوز يعرف الفلسفة نفسها بكونها " إبداع للمفاهيم ". في هذا السياق , يمثل الاشتغال الفلسفي على معنى الهوية أهمية كبرى في التفكير الفلسفي سيما في العصر الراهن إذ هو لفظ متعدد الاستعمالات , مثقل بالدلالات , يستخدم في المنطق و الميتافيزيقا و العلوم الإنسانية كالانتروبولوجيا و علم النفس و علم الاجتماع وحتى في الخطاب السياسي و الإعلامي.

" بالنسبة إلى فلسفة تستقر في الرؤية المحض والتحليق فوق البانوراما لا يمكن أن يكون ثمة التقاء بالآخر: ذلك أن النظر يهيمن ولا يستطيع أن يهمن إلا على أشياء"[1]1
تفكر الفلسفة في اللاّشيء وتحيل العديد من الأشياء إلى العدم وتقوم بحركات سالبة وتحرص على النفي وتسحب الوجود من الكثير من الكائنات وتخلع القيمة عن العديد من الأفعال وتصف تجارب من الحياة بالعبث وتسقط جملة من أقوال الناس في دائرة اللاّمعنى وتفضل الصمت على الكلام في كثير من الأحيان.
لكن الفلسفة من جهة مفهومها وتاريخها والمهام التي وجدت من أجلها مطالبة بالقيام بالعديد من الأشياء ولعب الكثير من الأدوار أكثر بالكثير من الوظائف السلبية وأدوار التفرج على الوجود وهو بصدد التفكك، وتنقسم مهام الفلسفة كما جرت العادة إلى نظرية وعملية والى معرفة ووجودية والى أحكام واقع وأحكام قيمة والى تفسير وتغيير والى نقد وتأسيس والى تحليل وتركيب والى تفكيك وتشييد والى تشريح واعتناء.

جاك دريدا (1930-2004) هو فيلسوف سمع به الجميع، لكن القليل من غير المتخصصين يستطيعون فك شيفرة كتاباته. وتتراوح الآراء عنه من أولئك الذين يقولون إنه واحد من أعظم فلاسفة القرن العشرين إلى أولئك الذين يقولون إنه كان دجالا! في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، نشب نقاش حاد بشكل غير معتاد بينه وبين الفيلسوف الأميركي البارز في اللغة، جون سيرل. في عام 1992 كاد أن يتم رفض منحه درجة فخرية في جامعة كامبريدج بسبب معارضة العديد من الفلاسفة البارزين. باختصار، يعد دريدا شخصية مثيرة للجدل...

إن السؤال الذي يطرح باستمرار حول: لماذا نصوص دريدا صعبة للغاية؟ أمر مثير للاهتمام في حد ذاته. وأحد أسباب طرح السؤال يتمثل في عدم الإلمام بالكثير من مفاهيمه. ومن الأسباب أيض، ما يرتبط بالهاجس الدائم لديه من أن الحجج التي تدّعي استدلالا معرفيا تفترض دائما وجود معرفة أخرى وتعتمد على وجودها. وكما يقول هيلاري لوسون في كتابه الصادر عام ١٩٨٥ بعنوان "الرجوع إلى الذات: المعضلة ما بعد الحداثية"، فإن مسائل "اليقين" لدينا يتم التعبير عنها من خلال النصوص، واللغة، وأنظمة الإشارات، لكن هذه ليست محايدة على الإطلاق، فيبدو من حيث المبدأ إذن أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مجال يقيني". أراد دريدا إذن تجنب إصدار إشهارات تعتمد إما على المعاني اللغوية الثابتة وإما على افتراضات تم الوصول إليها في مكان آخر.    

رحل بابا الكنيسة الكاثوليكية البابا يوحنّا بولس الثاني عن هذه الدنيا يوم السبت 2 أبريل/نيسان 2005 بعد عمر مُمتد من العمل الديني المتواصل، المفتوح على عدة جبهات في العالم. غير أنّه كان من اللافت الحضور الضخم لجنازته التي حطمت رقما قياسيا عالميا من حيث الحضور الشعبي والرسمي، إذ حضر أربعة ملوك وخمس ملكات وما لا يقل عن 70 رئيس جمهورية ورئيس وزراء إلى جانب 14 رئيس ديانة مختلفة من العالم، وقُدّر عدد المشيعين في روما بأربعة ملايين مشيّع.(1)
   تلقى الخبر عامة الناس، المتدينون واللامتدينون والسياسيون العلمانيون وغير العلمانيين والإعلاميون، باهتمام كبير، فأثارت هذه الواقعة الحديث مجددا عن عودة الديني وسلطته الروحية المتزايدة(2)، حيث لامست وفاته في كل أنحاء العالم وترا في الضمير لم يكن ينتظر سوى من يعزف عليه.(3)

تقديم
    في سياق اهتمام ميشيل فوكو بمسألة الذات، تساءل عن الأسباب التي جعلت المؤرخين يتركون على الهامش موضوع "الاهتمام بالنفس"، في الوقت الذي تم إعطاء أهمية متزايدة لمسألة "معرفة النفس". فالتأريخ الفلسفي لم يعط قيمة تُذكر بالنسبة لمبدإ "الاهتمام بالنفس" مقارنة مع سؤال "معرفة الذات". وهنا يربط فوكو بين إهمال مبدإ الاهتمام بالنفس ومشكلة الحقيقة وتاريخ الحقيقة، ليُلح على المكانة التي احتلها هذا المبدأ خلال ألف سنة من الثقافة القديمة، كما يحمل مسؤولية محو مكانته منذ بداية العصر الحديث إلى "اللحظة الديكارتية".
فكيف يفسّر ميشيل فوكو العلاقة التي ربطت بين نسيان مبدإ الاهتمام بالنفس وتمجيد مسألة "معرفة النفس"؟

1- ميشيل فوكو والأمر السقراطي:"اعرف نفسك"
     استقطبت إشكالية الذات والحقيقة اهتمامات ميشيل فوكو الفكرية والفلسفية، دفعته إلى البحث في مفهوم أو تصور "الاهتمام بالذات"  epimeleia heautauودراسة العلاقة بين الذات والحقيقة. هذا المفهوم الذي لم يُهتم به كثيرا في التأريخ الفلسفي، في الوقت الذي تم إيلاء اهتمام خاص بمسألة "معرفة الذات".

  • 1- حقيقة الإنسان بين التعقل و التخلق.

يعتبر طه عبد الرحمن أن الأخلاقية أخص بالإنسان من العقلانية، والأخلاق أخص أوصافه بدل العقل, فلقد سلك طريقا حاول من خلالها،"أن يُعيد الاعتبار لسؤال الأخلاق باعتباره البداية الرئيسية لإعادة إحياء الإنسان بعدما تقاذفته قوى المادية الناتجة عن عمليات العقلنة غير المسددة بالأخلاق وكذا كصناعة موقف أصيل مستقل يمكن الانطلاق منه لنقد الحداثة الغربية من خلال أرضية مغايرة بحيث تكون الأخلاق كمدخل للنقد وأيضا كمشاركة أصيلة إسلامية في تلك الحداثة الكونية"[1]، ذلك أنه ثبت عنده أن المقوم الأخلاقي هو الذي المقياس الذي تقاس به إنسانية الإنسان، ف"الأخلاقية هي ما يكون به الإنسان إنسانا وليست العقلانية كما انغرس في النفوس منذ قرون بعيدة، لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان مهما كان متغلغلا في التجريد بل تكون هذه الأفعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية حتى أنه لا فرق في ذلك بين فعل تأملي مجرد وفعل سلوك مجسد"[2].