"لم يبق لنا على الأقل إذن باعتبارنا محكومين إلا
 أن نؤكد بالطبع على الحق في طرح أسئلة الحقيقة"
ميشيل فوكو
تقديم
    في آخر حوار لمشيل فوكو(1)، ميّز بين إيتيقا العصر القديم اليوناني والروماني والإيتيقا المعاصرة، ونفى وجود قواسم بينهما. على النقيض -يقول فوكو- حين نأخذ الأخلاق في إطار ما اتسمت به من معيارية، وما تنزع نحوه وتشير إليه، سندرك بأنها قريبة بشكل مدهش، من تعاليم الأخلاق القديمة، إن لم تكن متماثلة، لكنها نسبيا أقل قربا من الأخلاق التي يتم تثمينها حاليا. من هذا المنطلق، يرى فوكو إمكانية اشتغال الأخلاق القديمة ولو بكيفية مختلفة بين طيات أسلوب للأخلاق المعاصرة. تبدو رغبة فوكو في استعادة شكل فكري أصيل أو تجربة معطاة، أمرا مطلوبا بالنسبة لتفكير يريد استئناف انطلاقته وتوسيع أفاقه. في هذا السياق يأتي اهتمام فوكو ب"القول الحق والصريح والحر"، متابعا أشكلة علاقة الذات بالمعرفة والسلطة والحقيقة، ومُنقبا عن المادة الخاصة بنظام المُتع ونظام السلوك، ومُحللا طرق تشكّل الذات عبر التاريخ، وراغبا في الفوز ب"ذاتية جديدة". تطلب الأمر من فوكو العودة بالمشكلة إلى الفلاسفة اليونان والرومان وتحليل مفهوم "الباريسيا Parrêsia" والتعريف ب"الكائن الباريسيانيle Parrèsiaste  "، مع التساؤل عن كيفية تشكل الذات وعلاقتها بذاتها وبالآخرين وبالعالم من خلال خطابات الحقيقة والقدرة على قول الكلام الصريح الصادق والحر. ستجد عملية التشكّل هذه أساسها في مبدإ "الإنهمام بالذات" و"ثقافة الذات" التي ستميز الفلسفة باعتبارها شكلا من التفكير يتساءل حول ما يسمح بالوصول إلى الحقيقة وعيش الحياة الحقة.

مقدمة1[1]:
" ذاكرة الرهيب ضرورية للغاية  
La mémoire du terrible nous est absolument indispensable "2[2]
لم يكن بول ريكور أول من حذر من إخفاق مشروع الأنوار في الحضارة الغربية ومجيء العدمية وبلوغ الإنسان زمن الخواتيم فقد تحسس ذلك بصورة جنيالوجية فيلسوف المطرقة فريدريك نيتشه وسانده مارتن هيدجر ضمن رؤيته الأنطولوجية الأساسية وتفطن إلى المنحدر الخطر عالم الاجتماع ماكس فيبر وأدرك اقتراب النهاية كل من المؤرخين أرنولد توينبي وأوسفالد شبلنغر واتضحت الأزمة في العلوم الأوروبية مع أدموند هوسرل وانتبه يورغن هابرماس إلى مأزق الحداثة التقنية وسقوط العقلانية في مستنقع الآداتية.

" ينبغي أن نتخيل سيزيف سعيدا"
يبدو السؤال عن الحياة هو المطلب الذي يمنح الوجود الإنساني معنى ويقيه من الوقوع في العدم، وأن الرضا بالحال والانغماس في السائد والانخراط في المألوف واجترار المكرر ينتج الشعور بالملل ويؤدي إلى الغثيان، ويجعل الإنسان يطرح على نفسه الكثير من الإمكانيات الغريبة عن عقله والمداهمة لشعوره.
لقد طرح ألبير كامو السؤال الفلسفي الأبرز: لماذا يشعر المرء بأن حياته فاقدة للمعنى؟ وتفطن إلى أن هذا السؤال الوجودي هو من أكثر الأسئلة الفلسفية خطورة وذلك لارتباطه بالسؤال عن معنى الحياة الإنسانية.
ترجمة:
"هناك مشكلة فلسفية خطيرة واحدة: إنها الانتحار. للحكم على أن الحياة تستحق أو لا تستحق ألم العيش ، هو الإجابة على السؤال الأساسي للفلسفة. أما الباقي ، إذا كان للعالم ثلاثة أبعاد ، إذا كان للعقل تسع أو اثنا عشر مقولة ، فسيأتي بعد ذلك. هذه هي الألعاب ؛ يجب علينا أولا الإجابة. وإذا كان هذا صحيحًا ، كما يرغب نيتشه ، فيجب على الفيلسوف، لكي يكون محبوبا، أن يعظ على سبيل المثال ، يدرك المرء أهمية هذه الإجابة ، لأنها ستسبق الإيماءة النهائية. هذه هي البديهيات المحسوسة من القلب ، ولكن يجب تعميقها لجعلها واضحة للفكر.

"الجهد الفكري والعمومي، الذي يبذله الفيلسوف في المدينة عند مواجهته للشر في مختلف أشكاله، يعطيه قيمة كونية ودائمة"
يبدو أن المدينة ليست مدنية بما فيه الكفاية واجتماعها غير اجتماعي وتحضرها أقرب إلى التأخر منه إلى التقدم، فهي غارقة في الظلام وينخرها الفساد وتعاني من الأزمات المتعاقبة ومحاصرة بالرمال العدمية وعقائد التوحش والارتدادات الهمجية، بينما يظل الفيلسوف مغيبا باستمرار على الرغم من حرصه على الحضور وفلسفته متروكة ومهجورة وبضاعتها كاسدة والعلاقة بينهما تتراوح بين طلب النجدة ومحاولة الاحتماء من جهة عندما يضطر الفيلسوف إلى خدمة السلطة القائمة، والانتماء إلى المؤسسات القانونية التي تضمن له الأمان والحماية، ومن جهة ثانية يدخل في صراع مع السلطة المشرفة على تنظيم الشؤون العامة لمواجهة الآراء الضالة ويؤثر الهجرة والمغادرة والانزواء والتوحد ويعلن الثورة في داخله ومن الخارج.

غالبا ما يُوصف فالتر بنيامين بالفيلسوف، لكنكم ستجدون أن أعماله لا تُدرَّس في العديد من أقسام الفلسفة في الجامعات البريطانية والأميركية. قد تجدونها في أقسام اللغة الإنجليزية، والدراسات السينمائية والإعلامية، نعم، إنما في أقسام الفلسفة، فلا. تمت دعوة الفيلسوف الأميركي ستانلي كافيل (Stanley Cavell)، وهو الفيلسوف الذي ألّف كتابا عن كوميديات هوليوود في العقد الثالث والرابع من القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي قد لا تتوقعه من فيلسوف تحليلي، لحضور مؤتمر في جامعة ييل احتفالا بنشر جامعة هارفارد الجزء الأول من المؤلفات المختارة لبنيامين. وكان خطاب الدعوة يتضمن طلبا من الضيوف المرتقبين وهو تقييم إسهامات بنيامين، كلٌّ بحسب مجاله المعرفي الخاص. وهناك أعلن كافيل: ".. إن الإجابة الصادقة على مسألة إسهام بنيامين الحقيقي في مجالي هي تقريبا صفر".
وهذا مدهش في بعض جوانبه، لأن هناك نقاط أُلفة بارزة بين بنيامين وواحد من أكثر الرموز توقيرا في التقليد التحليلي، إنه لودفيج فيتجنشتاين (Ludwig Wittgenstein). لدى كلا الفيلسوفين العديد من المشتركات، لكن أكثر ما يثير الدهشة فيما هو مشترك بينهما هو الارتياب المتشارك من النظري، والاهتمام بالبصري. وتقول صديقته حنا أرندت في مقدمتها المهمة في "الإشراقات" (Illuminations) إن "بنيامين لم يكن شديد العناية بالنظريات، أو "الأفكار" التي لا تضطلع فورا باتخاذ أدقّ شكل ظاهري ممكن".

"نجح الفيلسوف في جذب رجل من الحشد إلى الأعالي... وأن يرتفع إلى اعتبار العدالة والظلم"  –أفلاطون- محاورة ثياتات-
مهما كانت الفلسفة التي يتحرك ضمنها المرء فهي تنتمي إلى هذا العالم وترتبط بالضرورة بذوات إنسية، ومهما كان الفيلسوف الذي يفكر وينظر ويقارن ويلتزم ويفعل فهو مسؤول عن أقواله وأفكاره وأفعاله عند اختراقه أطر هذا العالم وتجاوزه حدود المعرفة وضربه عرض الحائط قوانين المدينة ودنوه نحو آفاق بعيدة. على الرغم من الاستهجان الكبير الذي يتعرض له الفلاسفة من الجمهور وبعض المناوئين المعاندين مثل رجال الدين والعلم والمال والخبراء الجدد في البرمجيات ومنظومات الاتصال إلا أن الفلسفة موجودة بقوة في برامج التعليم وتدرس في مراحل متقدمة وتمتلك أقساما مستقلة في كليات الآداب، وتقدم كدروس عامة في كليات العلوم ومعاهد التربية والصحافة والطب، ولكنها غائبة بشكل ملحوظ عن كليات الهندسة والتقنية. الفلسفة مادة صعبة وتتكلم لغة غامضة وتعتمد مناهج معقدة وتوظف مجموعة من المفاهيم المجردة، ولذلك ظهر تعارض بينها والمجتمع وناصبها العامة العداء، وحاولت السلطة السياسية توظيفها لصالحها وخارج إرادة الفلاسفة ورغبتهم في التغيير نحو الأفضل وإيمانهم بالتقدم وطرحهم السؤال الأساسي للحياة.

" الطفل الفيلسوف هو مستقبل البشرية حيث تنقله الفلسفة من الطفل الموضوع إلى الطفل الذات وتجعله يفكر قبل أن يفعل"
لئن كانت الفلسفة حكرا على الراشد والرجل والسوي والمتحضر وفق الوصفة الإغريقية للتفلسف، فإن عصر الأنوار قلب الموازين وجعل رسالة الفيلسوف تصل إلى الغريب والمرأة وغير السوي وتتيح للإنسان في بعده الكوني أن يتعلم التفكير الفلسفي ويتأمل في الوجود ويغوص في ذاته ويتدبر به حياته.
بعد ذلك تمخض عن ثورة مابعد الحداثة الكثير من الممارسات الجديدة للتفلسف تنبهت إلى الفيلسوف الصغير وأهمية تدريس الفلسفة للأطفال وبينت أن الطفل الفلسفي أكثر ذكاء من الشاب وأكثر جرأة على إثارة الإشكاليات وطرح الأسئلة الشائكة من الكهل وأكثر حكمة وتدبيرا وبراءة أصلية من الشيخ الحكيم.

تقديم:
لم يقتصر الشغل الفلسفي الذي انخرط فيه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور على التأويل والرمز والسرد والاستعارة والخيال وإنما اهتم أيضا بالقضايا السياسية والتجارب التاريخية التي تخص المواطنة والعنف وأثار بشكل بدئي المفارقة السياسية وحاول معالجة آفة الشر السياسي ونادى باللاّعنف والعيش المشترك.
اذ يرى بول ريكور في كتابه "عين الذات غيرا" الذي يثير فيه إشكالية السلطة والحرية أن العلاقة بين الصدقة والعدالة هي الشكل العملي للعلاقة بين اللاهوت والفلسفة. من نفس المنظور، يقترح إعادة التفكير في اللاهوت السياسي ،ويبشر بنهاية لاهوت سياسي معين كان قد بني على الهيمنة / الإخضاع العمودية الوحيدة للعلاقة بين الحاكم والمحكومين وبين الدولة والمجتمع وبين السلطة السياسية والمواطنين. كما ينادي بضرورة تشكيل اللاهوت السياسي جديد الموجه بطريقة أخرى نحو الحرية والمواطنة ويقطع مع لاهوت الهيمنة والقمع ويسعى إلى إثبات الرابط الروحية كمبرر للرغبة في العيش معًا في مؤسسات عادلة. إن اللاهوت السياسي العمودي في تحديد العلاقة بين الله والناس على الصعيد التشريعي قد عفا عليه الزمن ويجدر تعويضه بلاهوت سياسي أفقي يتخلص من الإخضاع والهيمنة ويؤسس للمشاركة والفعل والحياة المشتركة الأفقية بين الأفراد والتعايش الجماعات دون إقصاء أو تمييز على أساس الطائفة والملة . فكيف أعلن بول ريكور نهاية اللاهوت السياسي؟ وماهو المقترح المفهومي الذي يقدمه كبديل مرجعي عنه؟

تقديم
    تثير أبحاث ميشيل فوكو التي افتتحها بكتاب "إرادة المعرفة"، تساؤلات حول الأسباب والظروف التي دفعته إلى الإبتعاد عن "حقل السلطة"، وولوج "حقل الأخلاق". فقد أثار اهتمامه بتاريخ الجنسانية ردود فعل من طرف العديد من المثقفين والأساتذة والصحفيين والسياسيين، تشير أغلبها إلى دور الأخلاق في إبعاد فوكو عن السياسة. لكن حقيقة التوجه الجدّي لفوكو تتمثل بالخصوص في تركيز جهوده على النقد ونظام الأشكلة؛ أي العمل على إظهار مجال من الأحداث والممارسات والأفكار التي يبدو له أنها كانت تطرح مشاكل على السياسة، وبالتالي صياغة مفهوم آخر للسياسة أكثر تجذرا في الواقع والتاريخ بتعبير فرانسيسكو باولو أدورنو. يبدو أن هذا النوع من البحث والتحليل مطلوب في ظل عالم تهيمن عليه "حقيقة السلطة" وانتشار مفعولها في أدق تفاصيل الجسد الإجتماعي. فرضت هذه التحديات السياسية والأخلاقية على فوكو البحث عن مداخل جديدة لعبور تاريخ فنون الحكم وعقلانيتها من خلال أشكلة سؤال السلطة والذات وعلاقتهما، والتفكير في إمكانية رسم خطوط للمقاومة.

"ربّما لن تكون الحداثة المغايرة غير مشكلة لغوية، تعترض
 كل الذين فشلوا في تعلّم لغة المحدثين السعداء"           
فتحي المسكيني *
تقديم
     يرى الأستاذ فتحي المسكيني أن تطوير فكر "آخر" أو "مغاير" أو "جديد" بالنسبة للملّة لا يزال في أضعف انفعالاته، ويزداد الأمر صعوبة عند خوض السؤال عن إمكانية بلورة فكر "حديث" ولكن "مغاير" أيضا. رغم ذلك، يقترح فتحي المسكيني التفكير في "حداثة مغايرة"، مفترضا بقوة أن التفكير في "المغايرة" لا يمكن أن يتم خارج أفق السؤال عن "الحداثة" نفسها مادام "أفق الحداثة لا خارج له". يؤكد المسكيني على أن الحداثة عبارة صيغت للإشارة إلى تلك "الأزمنة الجديدة" التي شهدتها أوربا منذ القرن السادس عشر، والتي تميّزت ب"حداثات" متعددة ومتنافسة: من إنسانوية "النهضة" الإيطالية إلى تنوير "الإصلاح الألماني" إلى أنوار "الثورات" الأمريكية والفرنسية والأنجليزية، وهو هاجس "تحديثي" انتهى مع "الثورة المحافظة" للنازيين بانتحار الحداثة في "أسفيتش". لكن ما يجمع بين جملة هذه "الحداثات" ليس هيّنا: إنّه، حسب بيتر سلوتردايك، الهوس بتوحيد "المعمورة" في "كرة" واحدة. في ظل هذه التطورات التي شهدتها الحداثة/الحداثات، وخاصة مع طورها الاخير المتمثل في "العولمة"، أصبح مفروضا على الملّة البحث عن موقع قدم داخل عالم جديد أطلق عليه المسكيني إسم "الإمبراطورية".

مقدمة
تشكل الأصولية المنطلق الفكري الاستراتيجي لمختلف الاتجاهات التعصبية التي تنحو دمويا في مجال الحياة الإنسانية المعاصرة . وليس خافيا أن العمق الأصولي يوجد في أصل كل أشكال الإرهاب والقتل والتدمير الذي يشكل ملمحا أساسيا في الزمن الذي نعيش فيه .  ومن أجل فهم مختلف اشكال العنف والتطرف القائم في مجتمعاتنا يتوجب علينا أن نعمل على تفكيك الظاهرة الأصولية وفهم أبعادها الفكرية التي تشكل المنصة الدموية الباعثة على توظيف العنف والقتل والإبادة ضد الإنسان والإنسانية.

 ومن أجل فهم منهجي للأصولية يتوجب علينا بداية التأمل الثاقب في مفهوم الأصولية ودلالاته المعرفية بأبعاده المختلفة وتجلياته المتنوعة. فالأصولية في جوهرها تعبير فكري أيديولوجي يقوم على تبرير مختلف أشكال التطرف الديني والعرقي والعلماني . ويمكننا في هذا السياق أن نميز بين ثلاثة مفاهيم أو مصطلحات رائجة الاستخدام في الخطاب الثقافي والسياسي للتعبير عن الأصولية وهي: الأصولية Fondamentalisme ، والسلفية Intégrisme ، والتطرف Extrémisme ؟  وقد تأخذ هذه الصيغ الثلاثية أبعادا دينية أو وضعية علمانية . ومما لا شك فيه أن هذه المفاهيم قد نشأت وترعرعت في المحاضن الثقافية الدينية ، فهي مفاهيم خرجت من رحم التعصب الديني بالدرجة الأولى وامتدت لتأخذ طابعا علمانيا وقوميا سياسيا . ومما لا شك فيه أن هذه المفاهيم الثلاثية تتداخل وتتكامل جزئيا، وتتغاير دلالة كل منها وفقا لتوظيفاتها في مختلف الأنساق الدينية والسياسية، كما تختلف باختلاف استخداماتها من قبل الباحثين والدارسين.