مقدمة
تدفقت العبقرية العربية الإسلامية بعطاءات فكرية تربوية وفلسفية يندر مثيلها في تاريخ الفكر الإنساني. وقد شكلت هذه العطاءات منطلقا من منطلقات النهضة التربوية في الحضارة الغربية في مختلف تجلياتها. وفي التربية كما هو الحال في الفلسفة وغيرها نجد نوعا من الطفرات الإبداعية العبقرية التي ما زالت تحظى بإعجاب المفكرين وتثير دهشتهم. وليس في قولنا أي نوع من التعصب القومي إذا قلنا بأن النزعة الطبيعة في التربية كانت منذ البدء عربية الهوية إسلامية التكوين. وأن ابن طفيل الأندلسي في مأثرته الخالدة "حي بن يقظان" يمثل الأب الروحي للنزعة الطبيعية في التربية ورائدا لها في القرن الرابع عشر أي قبل ولادة جان جاك روسو بأربعة قرون. وليس في هذا القول تجنيا على الحركة الطبيعية التي شهدناها في القرن الثامن عشر بزعامة جان جاك روسو زعيم النزعة الطبيعية في عصره. وإن كان روسو قد قدم للإنسانية نسقا نظريا متكاملا وأصيلا لهذه النزعة فإن ابن طفيل نسج خيوطها الأساسية وغرس بذورها الأولى، ولا يستطيع احد في دنيا المعرفة أن ينكر هذه الحقيقية الصارخة في الفكر الإنساني.

" العلم السياسي هو العلم الأسمى والمعماري بامتياز... إنه يقوم باستعمال العلوم العملية الأخرى، وعلاوة على ذلك يشرع على ما يجب القيام به وما ينبغي الامتناع عنه"[1]
استهلال:
التفكير في النظرية العلمية السياسية والقانونية عند المعلم الأول بالنسبة إلى العرب في عصور ازدهارهم وحسب أستاذ الأسكندر المقدوني وفيلسوف اليونان أرسطو لا ينفصل عن التعرف على الحياة الاجتماعية والثقافية التي عرفها اليونان في ذلك الوقت ومعالجة المسائل المتعلقة بالعلوم السياسة التي ذكرها في مؤلفاته القانونية وكتبه الفلسفية والدساتير التي ساهم في تأسيسها للعديد من المدن الدولة في عصرها الإغريقي وقبل انتقالها إلى العصر الروماني والعصر البيزنطي والعصر اللاتيني والعصر العربي وخاصة مؤلفات السياسي والأسكندر أو في المستعمرات وفي النظام الملكي التي فقدت ولم يبق منها سوى العناوين والتطرق لتاريخ الدساتير والأنثربولوجيا الاجتماعية والسياسية التي تضمنتها أفكاره الطبيعية.

"الجهل وحده هو من يدفع إلى الحكم الأخلاقي المطلق"
جيل دولوز
"ما أطلبه من الفيلسوف معلوم: أن يتموضع ما وراء
  ’’خير’’ و’’شر’’ أن يكون فوق وهم الحكم الأخلاقي"   
فريديريك نيتشه
تقديم
    لا يمكن لروح نبيلة ولا لعقل حر تحمّل ثقل الاحكام الأخلاقية وممثليها الذين يتكاثرون بسرعة فائقة ويشكلون "أبطالا على الخشبة". إن همّهم الوحيد هو المثابرة في إخراج تصور أخلاقي عن العالم وتثبيته في نفوس عامة الناس، عن طريق التأكيد على أسبقية القيم على الوجود وسموها عن الموجودات المادية، وبالتالي بناء نظام أخلاقي هو في جوهره "نظام حكم". هنا تظهر ضخامة العنصر الأخلاقي؛ فحتي في مجال الإدراك الحسي لا توجد تجارب أخرى معيشة غير التجارب الاخلاقية(1). يشير فريديريك نيتشه إلى أن معظم الفلاسفة شيّدوا صروحهم تحت إغراء الأخلاق، فقد كانوا يتظاهرون بالإهتمام باليقين ب"الحقيقة"، بينما اهتمامهم الحقيقي كان منصبا على صروح أخلاقية شامخة. ويبدو الآن، أن هذا الإغراء يمارس تأثيره على حياة الأفراد وعلاقاتهم بأنفسهم وبالآخرين، وعلى تصورات الناس حول الطبيعة والكون. إذ نلاحظ عودة قوية إلى التصورات الدينية والأخلاقية القديمة للعالم في ظل ما سمي ب"مجتمعات ما بعد العلمانية" وسيادة الدولة الليبرالية ونظامها الرأسمالي، مع إحساس بالإرتياح تجاه استئناف الأخلاق لدورها التاريخي في تربية الإنسانية المعاصرة.

تأملوا معي هذه العبارة :"مستشفى الأمراض العقلية" هل يمكن اعتبارها عبارة صحيحة على مستوى المعنى؟ بل هل سبق وأن انتبهنا إلى حمولتها الفلسفية؟ هي ليست جملة عادية كي نمر عليها مرور الكرام، إنها تحمل بين طياتها تاريخ الحداثة برمته، وتلخص بين تضاعيفها الجانب الخلفي المؤطر لمركزية الإنسان، أو لنغامر ونقول: إنها الوجه الآخر للكوجيتو الديكارتي.. "أنا أفكر، أنا موجود" تكاد تكون إذن بمثابة التيار المضاد لعبارتنا، أو الطرف المقابل للمعادلة التي يمكن أن نقرأها على الشكل التالي: "مستشفى الأمراض العقلية = أنا أفكر أنا موجود" لأن التفكير تمرين يدل على غياب مرض يتيح لنا إمكانية ولوج المستشفى وإن لم نرد، بينما نتفق أن من يدخلها شخص مريض يجب أن يعالج، وهنا أتحدث طبعا عن الأمراض العقلية/النفسية، فالسليم المعافى، والمتوازن نفسيا هو من يعمل عقله، أي هو من يفكر، بينما يأخذ المجنون هذه الصفة لأن عقله اختفى، بالتالي فهو لا يفكر، الأول من حقه التمتع بمشاركة الفضاء العمومي مع الآخرين، بينما الثاني توجب عليه الذهاب كرها إلى "مستشفى الأمراض العقلية" كي يشفى من سقمه.

ظهر مصطلح الابستمولوجيا"[1] بعد الفلسفة الكانطية في القرن التاسع عشر، و هي كلمة يونانية مركبة من لفظين: ابستيمي épistème  و معناها: علم science  و لوقوس logos بمعنى منطق- نقد- علم-دراسة-نظرية-مقالة... الخ. و عليه فكلمة ابستمولوجيا épistémologie من حيث الاشتقاق اللغوي تشير إلى مقالة في العلم"[2].
تعددت اصطلاحات الفلاسفة حول كلمة ابستمولوجيا، حيث يعرفها لالاند la lande بقوله:" هي فلسفة العلوم لكن بمعنى أكثر دقة، فلا تخص فقط دراسة المناهج العلمية التي هي موضوع الميتودولوجيا méthodologie و التي تعد جزءا من المنطق، كما أنها ليست تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية على الطريقة الوضعية أو التطورية، إنها في جوهرها الدراسة النقدية لمبادئ و فرضيات و نتائج مختلف العلوم، الهادفة إلى تحديد أصلها المنطقي لا النفسي و قيمتها و مدى موضوعيتها"[3].

الموقف الفلسفي
تحث عدة هيئات وجمعيات على مساهمة الفلسفة في تسليط الضوء على المشاكل التي تثيرها الأبحاث والتطبيقات المنجزة في إطار العلوم البيولوجية والطبية. ويمكن كذلك أن نفترض أنه يوجد عند الجمهور أفق انتظار بهذا المعنى، كما لو كان على موعد مع التعبير عن وجهة نظر العلماء والمشرعين ورجال الدين. بكل اختصار، يمكن للطلب الاجتماعي على الفلسفة أن يتوجه إلى ما من لازلنا نعتبرهم كاختصاصيين في الشمولية.
لنطرح السؤال الأول عما يعقل انتظاره من الفلسفة. لهذا السبب يتوجب التشديد على الطابع الخصوصي لموقف الفلسفة من من قضايا وتيمات الأخلاق البيولوجية ومن كل تدخل ممكن بهذا الصدد. فإذا كان رجال الدين يعتبرون كممثلين لعقيدتهم الدينية التي ينبغي في نظرهم احترامها، نجد أن الفلاسفة لا يصدق عليهم نفس المقال. لا أحد منهم بإمكانه الادعاء بأنه يمثل الصوت الحقيقي للفلسفة؛ وهذا راجع إلى ثلاثة أسباب:

"هل كان الجابري فيلسوفا أم مجرد مثقف يعمل تحت لافتة العقل المستنير؟" فتحي المسكيني
تقديم
    أثار المشروع النقدي للعقل العربي للفقيد محمد عابد الجابري نقاشات واسعة لقاراته البحثية التي همت التراث والهوية، النهضة والإصلاح، الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة، العلمانية والديمقراطية، ومواضيع أخرى... . وكان الغياب الأخير للجابري مناسبة للتساؤل حول الموقع الذي احتله في الفضاء الثقافي والفكري والفلسفي لمنطقة جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط. في هذا السياق انخرط الأستاذ فتحي المسكيني من تونس في طرح سؤال جريء ومحيّر حول هوية هذا الرجل:
هل كان الجابري فيلسوفا أم مجرد مثقف يعمل تحت لافتة العقل المستنير؟(1).
1- محمد عابد الجابري: مثقف أم فيلسوف؟
    يميز الأستاذ فتحي المسكيني بين "المثقف" المنخرط في نقاشات "العقل المستنير" و"الفيلسوف" الباحث في القضايا الفلسفية. ويؤكد على أن "العقل المستنير" يخوض معارك ثقافية ولكنه لا يفكّر أو لا يتفلسف، يعني لا ينتج إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة. ذلك أن محمد عابد الجابري وجيل "قرّاء التراث" لم يتمكن من التحرر من مهمات "العقل المستنير" في ثقافة العرب المعاصرين، وظل يشتغل تحت الإشكالية التي صاغها عصر الرواد في القرن التاسع عشر، والمتمثلة في السؤال التالي: لماذا تقدّم الغرب وتخلفنا نحن؟. يرى المسكيني أن هذه "النحن" لازالت تعمل في أساس كل محاولات قراءة التراث، والتي بلغت مع الجابري هالتها العليا والأخيرة.

مقدمة:
تقوم النظرية الفلسفية الإئتمانية عند طه عبد الرحمان على مجموعة من المسلمات والمبادئ تجد في المجال التداولي الإسلامي أسسها الرئيسية دون أن تخل بالشروط المحددة لعملية التفلسف؛ كالإبداع والشمول والنسقية الإستدلالية المنطقية مثلا. وتبتغي هذه النظرية؛من بين ما تبتغي،تقديم رؤية شمولية تجديدية لأهم المواضيع التي تطرح  نفسها على الفكر العربي المعاصر موضوعا للنقاش، وتدفعه إلى إنتاج "قوله الفلسفي"؛ كإشكال النهضة، وعلاقة المجال الخاص بالمجال العام، والخصوصية الثقافية وعلاقتها بالكونية، وتحديد مفهوم الإنسان وهويته وخصائصه الأنطلوجية،وغيرها من المواضيع والإشكالات المطروحة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية والعالمية.

لا يدّعي هذا العرض أنه يقدّم رؤية طه عبد الرحمان لكل هذه الإشكاليات المعاصرة،بل غاية وأقصى ما يريد هذا العمل بلوغه؛ هو تقديم رؤية موجزة ومختصرة عن بعض هذه الإشكاليات، وكذلك بيان بعض المنطلقات والمبادئ الهامة التي تحكُم المشروع الفلسفي الطهائي في إجاباته والتي توجّه عملية الإبداع فيه.

"لا تستولوا على السلطة، بل التقطوها عندما تتدربون في الشارع "1
بعد مرور 40 عامًا على مغادرتها للعالم بجسدها، يظهر نص غير منشور للفيلسوفة الألمانية حنة أرندت في شكل كتاب صغير عن دار بايوت Payot يتكون من 70 صفحة - ويحمل عنوان "الحرية في أن تكون حرا"   la liberté d’être libre وعنوان صغير هو "شروط ودلالة الثورة"، ونقلته من الانجليزية إلى الفرنسية الباحثة فرنسواز بويوت، ولقد تم العثور عليه في الركن الموجود في أرندت بمكتبة الكونغرس في واشنطن ، وهو جزء من مشروعها الدائر حول تعميم الثورة الاجتماعية عبر معالجة الأزمة الكوبية ، وإنهاء الاستعمار، وتأييد الحركات المدنية المناهضة للحروب خاصة في فيتنام والمناصرة للعدل والسلام.

تمهيد:
عديدة هي الإحراجات والمشاكل العملية التي تطرحها المسائل النظرية سواء في المسالة السياسية وما تفتح عليه من اغتراب سياسي ومن فساد يجعل المواطنة مجرد فكرة صورية أو مثال أعلى يُشرَّع له قانونيا، في مقابل ممارسة سياسية تحول المواطن إلى مستهلك و تجعل الدولة تستبد بالسيادة فتقضي على المواطنة كما يتم الاعتداء على السيادة في واقع العولمة الموجهة من قبل القوى الامبريالية في العالم.
كل هذه المصاعب هي بمثابة ورطات ووضعيات حدية تجعل الفلسفة الأخلاقية في زمن العولمة ضرورة وجودية إذا ما رام الإنسان الحفاظ على إنسانيته وتحقيق كونية أصيلة تصالح بينه و ذاته والآخر والعالم في فضاء مشترك شهد تسارع نسق التواصل الذي كشف هو الآخر عن احتياجه إلى إيتيقا تصالحية ترتقي بالمرء من مجرد كائن اتصالي إلى أن يكون كائن تواصلي بامتياز.

لا شك أن غادمر باعتباره تلميذا لهايدغر قد تأثر بأستاذه تأثرا كبيرا، وهذا ما نلمسه في تصوره للفهم وكيفية تهكمه على أصحاب التصور المنهجي في مجال العلوم الإنسانية. لقد دافع غادامر في كتابه "الحقيقة والمنهج" على تصوره الذي يذهب فيه إلى ارتفاع عملية الفهم عن أي منهج، ذلك أن الفهم هو فعل منفتح بقدر ما هو محايث للكينونة الإنسانية، إن الفهم في نظر غادامر ليس مفصولا عن التجربة الوجودية للإنسان، بل "ينبغي أن يدرك على أساس أنه فعل الوجود بمعنى أنه مشروع ملقى"1 مشروع لا ينتهي وحامل لتجدده وتطوره.

وبالاطلاع على متن "الحقيقة والمنهج" يتجلى بوضوح أن "غادامر لا تعنيه كثيرا المشكلات العملية لصياغة المبادئ الصحيحة للتأويل؛ إنه يود بالأحرى أن يسلط الضوء على ظاهرة الفهم نفسه"2، وهو يؤكد بوضوح على أن "الظاهرة التأويلية ليست أساسا مشكلة منهج على الإطلاق"3 بل المنهج يشكل حاجزا أمام الفهم أكثر منه مساعدا عليه.