danckaertعلى جانبي الطرقة المؤدية إلى المستشفى بعض الأزهار تتمايل على وقع هواء خفيف دافئ...الليل وأعباء الليل.. وروائح الأكل والأدوية والموت...البناية لا تتغير وحتى روائحها لا تتغير، ولكن الناس الدين يرتادونها يتغيرون باستمرار الم يكن في صورهم فعلى الأقل في سلوكياتهم وأفكارهم...
وحنان، هدا الاسم المتعب، لا يمكن أن تمر صاحبته من أمامك دون أن تنظر إليها نظرة متفحصة وتفكر فيها باحترام...سرعة في الحركة وابتسامة على الوجه وكلام كثير التأدب وجمال لا يكتشفه إلا الذي له نظرة خاصة ومتفردة في الجمال...ربما صدفة أن يكون اسمها حنان وربما كان مقدرا أن يكون الحنان الذي فيها اسما واستغاثة...
كل المرضى والأصحاء ينظرون إليها تلك النظرة المتصفحة ويفكرون فيها دلك التفكير المحترم أما هي فلا ترى في نفسها شيئا مميزا عن الآخرين اللهم حزنها العميق وقلقها المزمن ولا تظن أنها جميلة دلك الجمال الذي لا يكتشف بسهولة...
لا أحد يعرفها  كما هي أو كما تظن نفسها، كلهم ينظرون إليها من بعيد... ورغم نشاطها وانجذاب الناس إليها كانت تحس أنها وحيدة وأنها تعيش للناس كنوع من التضحية أو الانتحار...انقطعت للعمل وأدخلت نفسها في دوامة الناس فقط لتنسى أنها وحيدة ولا أحد ينظر إليها نظرة خاصة أو يفكر فيها بجرأة...هدا لا يهم الآن، فلا شيء يشغلها في العمل إلا العمل، إدخال المصاب أو المريض إلى غرفة الإنعاش.. تركيب علبة الأكسجين أو أنبوب الدم أو إعطاء حقنة أو تغطية وجه ميت...

PARأترجلُ من الباصِ الصغيرِ الذي يقلّني من الضواحي إلى الميدانِ وسطَ المدينةِ سائراً بتمهلٍ شديدٍ رغمَ برودةِ هذا الصباح ، المارةُ ينشطون في مسيرهم وحركاتِهم قتلاً للبردِ،وأنا أتجهُ إلى عملي متخذاً مساري على الأرصفةِ التي حفظتُ مواقعَ تكسراتها وحصاها ، أمسح بعينيَّ واجهاتِ المباني المحتشدة على الجانبين  كعمالقةٍ لا تشبع من فضولها بالطلول على المارة من علٍ متصنعاً تجاهلاً يكاد يفضحه وجود أصص نباتاتٍ  خُضرٍ على الشرفات التي تصادف أن تسقيها إحدى الساكنات الجميلات فأعمد لمشاغلة عينيّ  بتفقد ماحولي ، كنت أفعل ذلك حينَ رأيتهما معاً متلازمين كأنهما كائنٌ واحدٌ من تلك الكائنات التي انقرضتْ ولم يبقَ لنا منها غير ذلك الوصف،كلبٌ برأس رجل كما جاء في الملاحم و الأساطير، وقد تبين الأمرُ بعد ذلك أن رجلاً يلازمُ كلبَاً أو كلباً يلازمُ رجلاً،ساعد في توحد منظورهما بعيني وربما بعيون الجميع ذلك اللون  المتقارب بين شعر الكلب المائل للون الكاكي وما يلبس الرجل ولذلك كنت أكلم نفسي واضعا كفيّ الباردتين في جيب بنطالي مدركاً أن صوتي لا يصل إلى أبعد من أذنيّ قائلاً : أمرٌ غريبٌ حقاً  أن يلازم الرجلُ كلبَه ، محدثاً نفسي بهذه العبارة التي كانت عادية جدا ....

18944l-eclairage-publicطويلا يبدو هذا الممر، قبلة تحت المطر في طريق للرجوع  و سبيل للهجوع، و الليل معتكف على زمهرير الشتاء يعد أنفاسه اللاهجة، يتلو المصباح العمومي آيات الخفوت، يموت رويدا رويدا و أمهل العاشقين أمهلهم رويدا، ينزف المصباح الصدئ ضوءً، يسيل منه الضوء خيطا فخيطا ، و متأبطين شرهما و ذراعيهما يمشيان تحت مظلة الشمس الليلية، تلك الحرارة المنبثقة كالجمرات الحارقة من ثنايا الضلوع... كان الطريق خاليا إلا من ركن ركين،انزويا إليه فدسّ يديه في تفاحة حوّاء و تذوّقا معا كرز المطر الأحمر، منبجسا من زوايا الشفاه كخمر معتق شرباه عصيرا من دم و دم، نامت على كتفه حمامة بلّورية من ملكوت الرّب الأزلي...

abstraitبأي المحطات أضعنا مذكراتنا الصغيرة،و بدأنا زمنا بلا وهج كالخواء؟ متى انتعلنا رؤوسنا و سرنا معقوفين كالكراسي فجلسوا علينا؟
متى دق المسمار الصدئ في عقولنا فرأينا قلوبنا حديدا أسودا لا تصلح لغير الحزن؟
كيف و متى قدمنا استقالتنا و تركنا الآخرين يفكرون لنا و بنا، و انشغلنا بالكدح و النسل والحزن وانتظار موت رحيم؟
لماذا نقتل الطفل داخلنا عنوة؟
بحثت عن أجوبة في كثير من جذوري،تهت فيها منذ أن كان فقيه الحارة يقول لي و أنا الطالب الصغير عنده في الصباح: إن الله هو الذي أنزل المطر و خلق كل شيء، بينما يقول لي معلم المدرسة بعد الزوال أن المياه تتبخر و تثكاثف سحبا و تسقط مطرا، يومها تهت في المطر، ورحت أشكل سحب أحلام و عواصف أسئلة.

AAAو للربيع نشيده الزهري ، تفجرت أكمام الأقحوان كما يتفجر ينبوع الحلم في الأفئدة الدافئة، أنا أنا  قال لها بالعين ما لم يقله باللسان، ولَكَمْ تقول العين في لغة أهل الكشف الذين حباهم الله بنور الصمت و لغة القلوبْ، سالت الكلمات الصامتة من حديث العينين منفوشة بالكبرياء كبالونات العيد الملونة، لست أرى للعشق علي سلطانا قال كل منهما ، لكن يا أحبائي القراء  أنتم تعلمون ما لم يعلمه هذان الغرَّان الصغيران، في لمحة اللامعقول تخضر الحقولْ فلا أهمية لمن يصمت و لمن يقولْ، تعرفون بل و تشعرون و تدركون أيما إدراك و  توقنون أيما يقين أن العواصف لا تعترف ببهرجة الكلام  و أن الزلازل ترجرج أركان النفوسْ و تعلم الإنسان أقسى الدروسْ، هي نومة و حلم  فيقظة ثم يقظة فحلم فنومة و تنمحي منعرجات المنطق و ترى كل ما شيدته من عقلانية و من رزانة أشبه ما يكون برقصة قرد فوق صومعة، هو الحب كان يغزو القلبين في لحظة الانجذاب القُصوى، مغناطيس الله الذي يؤلف بين القلوب و كعادته يفرق الدروب....
هي:

ph_3_201003أمسك فرشاة الشَّعر!.. نظر الى وجهه في المرآة، لكنه سرعان ما وضع قُبّعته الصوفية على رأسه وخرج يطوف بحثاً عنها...
كان زفير الصباح البارد، كموسيقى تخرج من فم عصفور مُتعب يستميل الحياة اليه بفنّه المعهود.. والريح الصباحية تُعانق وجه النجمات التي بدأت تختفي، لتصبح غير مرئية، فيبقى طيفها نوراً، والغيوم تتراقص مُتهادية في سماء تمسح نُعاسها عن عيون شمس تغتسل بينها، بينما الزهر يُرخي أكمامه، فيتلوّن القرنفل، ويتنفس الورد في وجه الصباح، ويتشابه الياسمين ليستحيل عطراً عابراً الأكوان، فيلامس الأفئدة في كل حين...
في هذا الصباح مشى والحيوية!.. فيض يتدفق في جسده النحيل، وأصوات الخُطى تتعالى كأنّها حوافر خيول تدقّ الأرض سعياً. تساءل في نفسه! هل سأجدها كما رأيتها أول مرّة.. تتألق بهاء كأنها تحمل ألوان الفراشات التي تختصر الفصول كلّها؟!...

peinture_abstraite_6يسمونها الحمامة البيضاء. أناقة و سحر طبيعي. يليق بها اللون الأزرق. هي بيضاء من رأسها حتى أخمض قدميها. مبالغة؟ أكيد. إذن  الأبيض هو قلبها. يسع الدنيا كلها. عشقها مغامرون، سياسيون، أدباء و رحالة. معشوقة هي منذ غابر الأزمان. من أجلها سالت دماء و في حبها سال مداد كثير.
أنا الذي أعشقها حدّ التلاشي فيها! صرخ بول بولز و هو يرفع كأسه عاليا و يدندن لحنا أندلسيا.
أنا المجروح بها و فيها. همس محمد شكري و هو يراقص كأس النبيذ  قبل أن يرفعه إلى شفتيه.
صعودا و نزولا كنا نلعب الغميضة مع البحر في الدروب الضيقة  الملتوية لهذه المعشوقة.  عروس الشمال . أبيض، أزرق. حمامة بيضاء تحلق بزهو راقي في  أديم الفضاء. يلفها البحر بحنان من كل الجهات.
أين سنتعشى؟ تساءلنا ضاحكين. كنا منتشين حتى قبل أن نشم رائحة النبيذ.

abstraitدقت الطّبول بإيقاعات أزليّة وحشيّة وضربت النّواقيس بصدى لا يتردّد إلاّ في مخيّلة الشّاعر القوّال .كنت واقفا أواجه الرّيح والغبارُ قد ملأ فجوات الزّمان حين استدار .اجتمع الشّعراء وجاؤوا من كلّ فجّ عميق .جاؤوا على كلّ ضامر وكلّ سيّارة وجاؤوا راجلين …وقفت أنتظر بيتا يقيني حاجة الحضارة .
في مقدّمة الكوكبة المتّجهة إلى الحجّ كان وضّاح يتصنّع التّوبة يركبها إلى غاية ويواري بها حاجة استبدّت في القديم بآدم .قال وضّاح وهو ينزل من اليمن مغرّبا تارة وتارة أخرى يشرّق .قال ذاك الفتى الشّقيّ الذي كلّما ذُكر اسمُ نارسيسَ وحادثة سقوطه في البركة أغمي عليه ولا يستفيق من غيبوبته إلاّ إذا سبلت عليه حاجّة ٌخصلاتٍ من شَعْرها ,قال وضّاح :”إنّي نويت الحجّ .ولا يستقيم فرض بلا نيّة …إنّى حاجّ فأعينوني على جمع سبع حصيّات ألقيها في استدارة الزّمان إذا أدبر”.