[أخبروه
أنه الحقيقة الوحيدة
في ميزان أيامي
  سكناه أنا
وإن خذلته جميع النساء ](1)
وأنت تطالع للشاعرة التونسية المبدعة ،سماح بني داود، تدرك أنك إزاء تجربة تنحاز إلى الأنثوي ، وتسخّر له العديد من الميكانزيمات ،من أجل استفزاز ماهيته ،واستنطاق خباياه وأسراره.
يتبدى ذلك لغة وخطابا وأسلوبا، فهذه المبدعة تضرب من قلب القوة الناعمة، معتمدة على معجم العشق الصافي، الغزير بالدلالة وتناسلات أنساق محاكمة راهن الأنثوي ، عبر جملة من التصورات ،التي تتنفس من خلالها الذات المبدعة ، هويتها المشتهاة، الرامية إلى أنوثة كاملة، عذراء الصفحات ، لا تلطّخها الغطرسة الذكورية ، أو الفحولة المقنّعة.

"بحرٌ لأيلولَ الجديدِ. خريفُنا يدنو من الأبوابِ...
بحرٌ للنشيدِ المرِّ. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها.
بحرٌ لمنتصفِ النهارِ
بحرٌ لراياتِ الحمامِ، لظلِّنا، لسلاحنا الفرديِّ
بحرٌ للزمانِ المستعارِ
ليديكَ، كمْ من موجةٍ سرقتْ يديكَ
من الإشارةِ وانتظاري
ضَعْ شكلنا للبحرِ. ضَعْ كيسَ العواصفِ عند أول صخرةٍ
واحملْ فراغَكَ… وانكساري

يجمع الكاتبُ نور الدّين بنبوبكر[i] في إنتاجه الإبداعي بين أجناس أدبيّة مختلفة  من بينها القصص الموجهة للطفل وكتابة نصوص مسرحيّة ومحاولات في الشعر والقصّة  باللغتين العربية والفرنسية فلم يمنع اختصاصه في تدريس الفرنسيّة من الولع باللُّغة العربيّة والكتابة بها على ما تحملهُ هذه المُغامرة من مخاطر " فمن لم يحذر مزالقها لا يأمن مآزقها " نظرا لصُعُوبة الجمع بين لُغتين في عملية التخاطب فما بالك إذا تعلّق الأمر بالكتابة الإبداعية .

ويمثل عمله الأخير المعنون بحسان وحارس الكنز من آخر أعماله الإبداعية المكتوب باللُّغة العربية وهو من حيث التجنيس أقصوصة موجهة إلى اليافعين" والأقصوصة جنسٌ سرديٌّ وجيز يتميّز بتقلّص الشّخصيّات والأحداث وضمور سعة المكان وامتداد الزّمان ..وقد اختلف الدّارسون في تحديد خصائص الأقصوصة .."وقد بادر كثير من نقّاد الأدب من بينهم شارل فيال " (charles Vial) إلى اقتراح تصنيفات للأقصوصة بعضها شكلي ، وبعضها الآخر مضموني كأن تكون رومنطيقيّة أو واقعية أو وجوديّة أو عجيبة ..وتعتبر الأقصوصة امتدادا لتقليد الحكاية الشّعبيّة المنظومة (Fabilau)  في القرون الوسطى وتطويرا لأقاصيص بوكاشيوا (Boccace) في عصر النّهضة " [ii] و بعيدا عن إشكاليّات التصنيف الأجناسي بدت لنا الأقصوصة مستجيبة للكثير من شروط إنتاجها فقد نزع فيها صاحبها نزعة مألوفة في كتاباته وهي العجيبُ فاختار أن يُولّي وجهه شطر الكتابة العجائبيّة يخرج فيها النّص من ربقة الواقع ليعانق الخيال في كلّ عناصره غرابة واختلافا ولعلّ من أهمّ النُّقاد الذين اعتنوْا أيما اعتناء بالعجيب تزفتان تودوروف   (T TODOROV)  في كتابه مدخل إلى الأدب العجائبي الذي وقف فيه على خصوصيّة هذا النّمط من الكتابة ذلك"  أنّ دراسة تودروف تدشّن المُقاربة المنهجيّة التنظيريّة للفانطستيك بوصفه جنسا أدبيّا يتميّز بمكوناته البنيويّة وبخصائصه الخطابيّة مثلما يتميّز بخصوصيّته الدّلاليّة وتيماته النّوعيّة " [iii]  ولكنّ المسألة لا تخلو من تعقيد لأنّ المفهوم ظلّ لأمد مجال اختلاف وتباين فما الذي يحضر في النص الأدبي حتّى نعتبره أدبا عجيبا؟  

تراودني أفكار غريبة، قريبة من الجنون، تنتهك اصوليات المنطق، وتهتك ستر الأشياء، كالطموحات الممزوجة بتوتر وغليان لا يهدآن، يقال أحيانا بان المس ينقل الانسان الى اقصى درجات الادراك والعمق، بعكس ما هو سائد في المفهوم المرعب للشعور المستتر خلف الخوف من الغريب والمستهجن، او بصورة اصح، خلف المستبد القاتل بسادية تمتزج بها النرجسية.
مثلا، فكرت ذات مرة ان أحمل جسدي لأضعه على ناصية شارع مهجور غير مطروق، واتركه هناك انتظارا لمار او طارق، ربما عام، وربما مئة مليون عام، وكان علي ان اخضع روحي ومشاعري للبقاء في حالة يقظة مستمرة دون الشعور بالإعياء او الوهن والوسن، ولان طبيعة الجسد مرتبطة بالروح، شعرت بغصة وانفصام هائل اودى بذاتي الى معتقل الواقع والعجز، مرضت مرضا شديدا، وبكيت، اُرهقت كثيرا، وفجأة، شعرت بثقل هائل، قلت: أستطيع أن أحقق كل ما صبوت اليه، ليس فقط لمئة مليون عام، الى أزمان يعجز العقل عن إحصائها، كل ما علي الانخراط بالجنون الأعمى والحلم المسحوب من مساحات الزمن.

   صدر للشّاعر طارق النّاصري ديوانٌ بعنوان "نصوص الحافّة" و قد وزّع قصائده وفقاً لمحاور وسمها بالحواف وهي ستٌّ : حافّة الماء ، حافّة الشّرق ، حافّة الحجر ، حافّة القمر ،حافّة الطّين ، حافّة الرّيح ثمّ ختم بما سمّاه "قصائد صغيرة" .  و صورة الدّيوان تشكيلٌ لهيئةِ إنسانٍ  قُدّ من حجرٍ و يبدو في خريف العمر  عاريَ المنكبيْن يحملُ حجراً باليُسرى و لا يزالُ يتوكّأ على عصاه باليُمنى بعد أن قُصف الظّهرُ نصفيْن فبقيَ كما يُقال "على الحافّة" أي على وشك السّقوط و ستسلّمنا هذه العتبة النصيّة إلى العنوان فهو من صنف العناوين التّعينيّة على الأقلّ في جزئه الأوّل "نصوص" أي يُحدّد هُويّته اللاّأجناسيّة[1] ضمن حرم الشّعر و الأدب ، فمتنُ الدّيوان لم يصنّفه الشاّعر ضمن القصائد مثلا و إنّما اختار له تعينيّاً ينتقض عن كلّ احتواء أجناسي ، فنحن نقرأ سديماً من نصوصٍ بلا انتماء منفلتة عن كلّ أشكال التّدجين الأجناسي ، متمرّدة و في صراع حتّى مع نظام الشّعر ذاته (نسف البنية الإيقاعيّة التقليديّة للشّعر العربي).

صدرت الرّواية عن دار الانتشار العربي ببيروت و يُمثّل العنوان عتبة نصيّة أوليّة بإمكانها أن ترسم عَقدا قرائيّا[1] مخصوصا و توجّه ذائقة القارئ و تستثير أفق انتظاره : فهل نحن بصدد رواية ذهنيّة عبثيّة أم رواية خياليّة ؟ فالعنوان كنصّ شديد التّركيز و الاختصار و  كمفتاحٍ أوليّ للتعامل مع متن الرواية يضطلع ببُعدٍ إغرائيّ [2] إذْ يدفع المتلقّي إلى مُساءلة النصّ و استباق دلالاته تصريحاً و تلميحاً . كما أنّ البنية التركيبيّة للعنوان تضعنا في بعضٍ من اللّبس على المستوى النّحوي في تأويل علاقة الإضافة : هل أنّ "الكورفيدا" كفصيلة من الغربان[3] هي الفاعل المُتذكّر  أم موضوع الذّكرى ؟ و يدفعنا العنوان في مستوى تأويل إيحاءاته و رموزه إلى مزيد من الأسئلة ، خاصّة إذا استحضرنا الدّلالات الحافّة بالغُراب في الموروث العربي و الإنساني ، فهو طائر الشّيطان[4] وهو نذيرُ الشّؤم و الفراق و الموت و مُجهض مشروع البطل وهو الواقف على حافّة القبور و الخرائب و الفضاءات المُعتّمة ، وهو  خائنُ الوصيّة في قصّة نوح الّذي أرسله ليتفحّص أحوال الطّقس و الطّوفان فأخبره بالحقيقة لكنّه لم يعُد إلى السّفينة فعوقب بالسّواد و أكل الجيفة على فعلته و عاقبه أبولو على نقل رسالة الخيانة الزّوجيّة فصيّر لونه الأبيض سواداً . و لكنّ الغراب أيضا هو طائرٌ نبويٌّ وهو الرّسول القادم من الغيب في حكاية إله الجحيم بلوتون في الأساطير الرومانيّة وهو الوسيط بين البشر و الالهة بيد أنّه كذلك رمز كاتم الأسرار و حفظ ذاكرة العالم القديم و القدرة على إدراك الحكمة و الألغاز  و هو رمز الذّاكرة الحزينة الأبديّة في كثير من الأعمال الأدبيّة العالميّة. 

    من حافّة الدّنيا إلى نهايتها أطلّت رشيدة الشارني على عُمق الوجود و عذابات الحياة و انتهت الإطلالة بلحظة خشوع و تراتيل أشبه بالصّدى و الصرخة المتبقيّة ألماً و احتفاءً بمن مضى إلى الأبد . بين أسرار البدايات في "الحياة على حافة الدّنيا" و رعب النهايات في رواية "تراتيل لآلامها "مسافة في الزمان و المكان و التّجربة ، دورة في تبدّل الأحوال تشبه دورة العمر  و الوجود . تتطلّع العين إلى جبال الكاف العالية     و ترنو إلى مجاوزة التخوم و اكتشاف الأسرار  ثمّ ينزل طفلٌ إلى الدّنيا بقدرة قادر  ، من هذه الحكاية البسيطة ننتهي إلى قبرٍ  مهجورٍ بين نخلة و سنديانةٍ في مكان قصيٍّ من مقبرة الجلاّز . و بين شوق البدايات و رُعب النهايات تخطّت السّاردة الحافّة و تشكّلت الدّنيا و لكن هذه المرّة في شخصيّة "دنيا" فتاة في عنفوان العمر  مثقفة تحبّ الرقص و الغناء و الكتابة  و معها تشكّلت رواية رشيدة الشّارني .

الخلاصة: إشكالية التكوين والتعبير في قصائد عز الدين المناصرة لا تتكشّف بمعزل عن وعي عاطفيّ حادّ يدرك متانة العصب الوجدانيّ والروحيّ، الذي يتكشف عن خيارات أسلوبية فريدة تحقن رذاذ اللغة الكثيف والفاعل بطاقة تشكيل تتجسّد حيواتها في مرايا الصور. وإذا ما تدخلنا في تفوّهات الشاعر ورؤاه لعرفنا بعضاً من اسرار لعبة الكتابة الشعرية لديه، إذ يرى لحظة الإبداع فيها تعبيراً عن الجوهر العميق لما يحسّ ويرى ويلمس ويتأمل ويحلم. إنّ الشعر عنده في ظلّ هذا الفهم والإحساس المشترك هو معطى ثقافيّ جماليّ بالدرجة الأساس لأن اللغة الداخلة في نسيج النصّ الشعريّ والمؤلفة لأبرز خصائصه الأسلوبية تكتسب قوّتها التعبيرية الفريدة، من حيث كونها لغة تعبيرية وتشكيلية وتصويرية نابعة من صميم التجربة وجوهرها وحرارتها ودفقها، ذات وهج ثقافيّ كامن في جذورها وحاضناتها وطبقاتها، على النحو الذي يستجيب فيه الشعريّ للثقافيّ والمعرفيّ داخل نطاق خطاب اللغة.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة